الفنان المغربي عباس الصلادي مليونيرا بعد مماته فقيرا معدما في حياته..
كثير من الفنانين الذين عاشوا وماتوا بأوطاننا عابرين في صمت بهذا العالم، يتفادون الآخرين كي يعيشوا عزلتهم كما لو كانت ثأرًا للحياة منهم. والأكثر منهم أولئك الذين عاشوا مجدًا مفتعلًا في حياتهم، يحيط بهم وبشهرتهم الزائفة نقّاد عابرون ومرتشون وأروقة محتضرة، كي تختفي شهرتهم مع موتهم، ويكشف التاريخ عن عورتهم، ويرمي بهم في غياهب النسيان.
و أنا أقرأ حياة هذا الفنان المغربي يمر بذاكرتي الفنان الجزائري نوري ذراع رحمه الله أحد عمالقة الفن الجزائري المنسيين و المجهولين..صديقنا الفنان رشيد بوجناح الذي فقد عقله و أصبح ذاك المجنون الهائم بأسواق مدينة الأخضرية و الذي كان يرى احيانا على هامش المدينة يراقب عشب المقابر بمعطفه الغوغولي..و إبن مدينتي الفنان العصامي شعبان تيت الذي كان يعرض لوحاته بسوق حي عبد المومن و هو يرد بفرح سعيد على أسئلة بعض المتفكهين و الفراغ من السفهاء حول أعماله الموضوعة على الأرض و سط غبار الأتربة و كل الأشياء التي ياتي بها الريح عابثا. من الأحياء المجاورة و بقايا السوق وسط خردة قبل أن يجن هو أيضا فقيرا معدما و منسيا يروح و يجي أمام بوابة قسمة حزب جبهة التحرير الوطني...لوحاته كانت غرائبية تجمع بين السريالي و الساذج لمواضيع تاريخية خارجة من خياله مثل معارك الامير عبد القادر...
في مدينة مراكش، قرب سلسلة الأولياء السبعة ولد عباس الصلادي الذي سماه أبوه باسم أحد أولئك الأولياء الذين يحملون قدَر المدينة الحمراء. توفي الأب الحلاق وهو ابن الخامسة. وهكذا اضطر الصبي إلى العيش مع خاله الذي أذاقه القهر، مزاوجًا بين الدراسة والعمل بعد الانتهاء منها. ولأن الصبي كان عاشقًا للفلسفة فقد انتقل إلى الرباط ليدرس الفلسفة، في وقت كانت فيه هذه المادة مرادفة للنقد والشغب السياسي والنضال والالتزام بأحلام الفقراء.
عرض صلادي لوحاته مباشرة بساحة جامع الفنا بمراكش، مسقط رأسه... الأم والأخت كانتا تتوليان عرضها أحيانا على المارة بجامع الفنا. للبيع ب10 دراهم في الثمانينيات من القرن الماضي بساحة جامع الفنا المعروف... بيعت أعماله بدراهم معدودة لإعالة أسرته الصغيرة الفقيرة وليتمكن من شراء علبة سجائر من النوع الرديء... كان المارة في لوحاته من الزاهدين..كان منهم من ينتبه و من لا يعيرها ادنى إهتمام، كان احيان يعرضها مع شقيقته التي أصبحت كفيفة فيما بعد و مقعدة هي التي كانت سنده الوحيد..كان مرتعدا و صامتا بنظرات حزينة متعبة ..كان باردا قائما كالمآسي..
قبل أن يتحول بعد وفاته سنة 1992 لواحد من أهم الفنانين المطلوبة أعمالهم بأكبر المتاحف بنيويورك ,لندن باريس وبرلين ..
لم يكن هذا خيارا لفنان مهمش بقدر ما هي ضرورة قصوى حتمت عليه فعل ذلك. خطيئة و لا أفظع ، يجمع أعضاء الأنتليجانسيا المركزية هناك بالعاصمتين الرباط والدار البيضاء....كيف لكل من هب ودب أن يزج بالفن إلى هذا الحضيض ، في محشر لا يمت للتشكيل بصلة ، وسط خضم من الفرّاشة والمشعوذين و الحلايقية و الفرق الفلكلورية و السياح والمتسكعين والنشالين...؟ يتساءل هؤلاء. ليخلصوا جازمين أن ما يتم عرضه من أعمال فنية في مكان كهذا وفي ظروف كهذه لا يمكن أن يكون ذا قيمة ما ، بل هو مجرد خربشات لمتطفل على الميدان، ليس إلا.
درس الصلادي الفلسفة بالجامعة ..كان بسيطا ومرهف الحساسية في تعاملاته اليومية و عانى من أمراض نفسية جراء قلقه المتواصل , خضع للعلاج مرات متعددة بمستشفى الأمراض النفسية . لم يتابع أي تكوين في مجال الفن أو التشكيل , غير أنه يبقى حسب النقاد والخبراء العالميين أحد أهم التشكيليين المغاربة الذين أسسوا لتجربة فريدة وغنية تمزج بين العوالم الداخلية للإنسان وبين المعتقدات الشخصية التي يصعب تجسيدها في عمل فني.
بدأ هذا الفنان يرسم عندما كان نزيلا في مستشفى الأمراض العقلية بالرباط، وتوفي مشلولا بمستشفى المامونية بمراكش بعدما أجهدته هموم الإبداع ومضاعفات المرض. لكن بين دخوله ألمستشفيين هناك مسار فني طويل وعطاء إبداعي خصب.
في هذه الفترة سوف يتمّ اكتشاف هذا الفنان الذي لم تطأ رجلاه مدرسة للفنون. كان يكتري حانوتًا صغيرة في المدينة القديمة بمراكش، ويجلس في الباب يرسم كائنات حيوانية وإنسانية يبيعها مباشرة أو يكلف أخته ببيعها. حياة الصلادي الفقيرة جعلت مداخيل تلك اللوحات تكفي لسدّ الرمق. وكأن فناننا رأى في نفسه ذلك الكائن الفصيح الذي يزاول مهنته كباقي "الصنايعية" المنتشرين في شرايين المدينة الحمراء.
ظلّ الصلادي طيلة هذه المدة القصيرة (1978-1992 سنة وفاته)، يزاوج بين الرغبة في متابعة الدراسة التي اضطرته أزماته النفسية للتخلي عنها، وبين صياغة عالمه الفنّي الذي وجد فيه بعضًا من العلاج والمواساة. هكذا، صار يبلور عالمًا مزيجًا بين جنان سماوية مليئة بالكائنات المجنّحة، وبين فضاءات يومية مستوحاة من المدينة العتيقة بمراكش. إنه عالم تسرح فيه وتمرح أجساد نسوية نصف عارية محيلة بشكل ضمني للجنة كما يتصورها الفنان. إلا أنها جنات لا تراتبية فيها للفضاء ولا طهرانية للجسد. أجساد النساء مزيج أسطوري عجيب من الطير والإنسان، ومن الدواب وبني البشر. إنها هجانة تمنح عالم الصلادي طابعًا خرافيًا تارة ومسحة طفولية أخرى. وكأنها تغوص بنا في عوالم حالمة يصوغها كي يبتعد بها عن همجية البشري.
كان معروفا لدى العامة و الحرفيين الذين كانوا ينظرون إليه على أنه فنان وانسان غريب الأطوار و أنه كان مجنونا و انه كان حكيما و منهم من يرى أن قوى غيبية كانت ترسم معه لوحاته و انه كان يرسم ما يراه في دواخله و ان مرئياته البسيطة كانت ترسم معه..
*نشير في النهاية أننا إعتمدنا الى حد بعيد في توثيق موضوعنا بمقالات لنقاد تشكيليين من إخواننا المغاربة .
د.عصام العسيري
كثير من الفنانين الذين عاشوا وماتوا بأوطاننا عابرين في صمت بهذا العالم، يتفادون الآخرين كي يعيشوا عزلتهم كما لو كانت ثأرًا للحياة منهم. والأكثر منهم أولئك الذين عاشوا مجدًا مفتعلًا في حياتهم، يحيط بهم وبشهرتهم الزائفة نقّاد عابرون ومرتشون وأروقة محتضرة، كي تختفي شهرتهم مع موتهم، ويكشف التاريخ عن عورتهم، ويرمي بهم في غياهب النسيان.
و أنا أقرأ حياة هذا الفنان المغربي يمر بذاكرتي الفنان الجزائري نوري ذراع رحمه الله أحد عمالقة الفن الجزائري المنسيين و المجهولين..صديقنا الفنان رشيد بوجناح الذي فقد عقله و أصبح ذاك المجنون الهائم بأسواق مدينة الأخضرية و الذي كان يرى احيانا على هامش المدينة يراقب عشب المقابر بمعطفه الغوغولي..و إبن مدينتي الفنان العصامي شعبان تيت الذي كان يعرض لوحاته بسوق حي عبد المومن و هو يرد بفرح سعيد على أسئلة بعض المتفكهين و الفراغ من السفهاء حول أعماله الموضوعة على الأرض و سط غبار الأتربة و كل الأشياء التي ياتي بها الريح عابثا. من الأحياء المجاورة و بقايا السوق وسط خردة قبل أن يجن هو أيضا فقيرا معدما و منسيا يروح و يجي أمام بوابة قسمة حزب جبهة التحرير الوطني...لوحاته كانت غرائبية تجمع بين السريالي و الساذج لمواضيع تاريخية خارجة من خياله مثل معارك الامير عبد القادر...
في مدينة مراكش، قرب سلسلة الأولياء السبعة ولد عباس الصلادي الذي سماه أبوه باسم أحد أولئك الأولياء الذين يحملون قدَر المدينة الحمراء. توفي الأب الحلاق وهو ابن الخامسة. وهكذا اضطر الصبي إلى العيش مع خاله الذي أذاقه القهر، مزاوجًا بين الدراسة والعمل بعد الانتهاء منها. ولأن الصبي كان عاشقًا للفلسفة فقد انتقل إلى الرباط ليدرس الفلسفة، في وقت كانت فيه هذه المادة مرادفة للنقد والشغب السياسي والنضال والالتزام بأحلام الفقراء.
عرض صلادي لوحاته مباشرة بساحة جامع الفنا بمراكش، مسقط رأسه... الأم والأخت كانتا تتوليان عرضها أحيانا على المارة بجامع الفنا. للبيع ب10 دراهم في الثمانينيات من القرن الماضي بساحة جامع الفنا المعروف... بيعت أعماله بدراهم معدودة لإعالة أسرته الصغيرة الفقيرة وليتمكن من شراء علبة سجائر من النوع الرديء... كان المارة في لوحاته من الزاهدين..كان منهم من ينتبه و من لا يعيرها ادنى إهتمام، كان احيان يعرضها مع شقيقته التي أصبحت كفيفة فيما بعد و مقعدة هي التي كانت سنده الوحيد..كان مرتعدا و صامتا بنظرات حزينة متعبة ..كان باردا قائما كالمآسي..
قبل أن يتحول بعد وفاته سنة 1992 لواحد من أهم الفنانين المطلوبة أعمالهم بأكبر المتاحف بنيويورك ,لندن باريس وبرلين ..
لم يكن هذا خيارا لفنان مهمش بقدر ما هي ضرورة قصوى حتمت عليه فعل ذلك. خطيئة و لا أفظع ، يجمع أعضاء الأنتليجانسيا المركزية هناك بالعاصمتين الرباط والدار البيضاء....كيف لكل من هب ودب أن يزج بالفن إلى هذا الحضيض ، في محشر لا يمت للتشكيل بصلة ، وسط خضم من الفرّاشة والمشعوذين و الحلايقية و الفرق الفلكلورية و السياح والمتسكعين والنشالين...؟ يتساءل هؤلاء. ليخلصوا جازمين أن ما يتم عرضه من أعمال فنية في مكان كهذا وفي ظروف كهذه لا يمكن أن يكون ذا قيمة ما ، بل هو مجرد خربشات لمتطفل على الميدان، ليس إلا.
درس الصلادي الفلسفة بالجامعة ..كان بسيطا ومرهف الحساسية في تعاملاته اليومية و عانى من أمراض نفسية جراء قلقه المتواصل , خضع للعلاج مرات متعددة بمستشفى الأمراض النفسية . لم يتابع أي تكوين في مجال الفن أو التشكيل , غير أنه يبقى حسب النقاد والخبراء العالميين أحد أهم التشكيليين المغاربة الذين أسسوا لتجربة فريدة وغنية تمزج بين العوالم الداخلية للإنسان وبين المعتقدات الشخصية التي يصعب تجسيدها في عمل فني.
بدأ هذا الفنان يرسم عندما كان نزيلا في مستشفى الأمراض العقلية بالرباط، وتوفي مشلولا بمستشفى المامونية بمراكش بعدما أجهدته هموم الإبداع ومضاعفات المرض. لكن بين دخوله ألمستشفيين هناك مسار فني طويل وعطاء إبداعي خصب.
في هذه الفترة سوف يتمّ اكتشاف هذا الفنان الذي لم تطأ رجلاه مدرسة للفنون. كان يكتري حانوتًا صغيرة في المدينة القديمة بمراكش، ويجلس في الباب يرسم كائنات حيوانية وإنسانية يبيعها مباشرة أو يكلف أخته ببيعها. حياة الصلادي الفقيرة جعلت مداخيل تلك اللوحات تكفي لسدّ الرمق. وكأن فناننا رأى في نفسه ذلك الكائن الفصيح الذي يزاول مهنته كباقي "الصنايعية" المنتشرين في شرايين المدينة الحمراء.
ظلّ الصلادي طيلة هذه المدة القصيرة (1978-1992 سنة وفاته)، يزاوج بين الرغبة في متابعة الدراسة التي اضطرته أزماته النفسية للتخلي عنها، وبين صياغة عالمه الفنّي الذي وجد فيه بعضًا من العلاج والمواساة. هكذا، صار يبلور عالمًا مزيجًا بين جنان سماوية مليئة بالكائنات المجنّحة، وبين فضاءات يومية مستوحاة من المدينة العتيقة بمراكش. إنه عالم تسرح فيه وتمرح أجساد نسوية نصف عارية محيلة بشكل ضمني للجنة كما يتصورها الفنان. إلا أنها جنات لا تراتبية فيها للفضاء ولا طهرانية للجسد. أجساد النساء مزيج أسطوري عجيب من الطير والإنسان، ومن الدواب وبني البشر. إنها هجانة تمنح عالم الصلادي طابعًا خرافيًا تارة ومسحة طفولية أخرى. وكأنها تغوص بنا في عوالم حالمة يصوغها كي يبتعد بها عن همجية البشري.
كان معروفا لدى العامة و الحرفيين الذين كانوا ينظرون إليه على أنه فنان وانسان غريب الأطوار و أنه كان مجنونا و انه كان حكيما و منهم من يرى أن قوى غيبية كانت ترسم معه لوحاته و انه كان يرسم ما يراه في دواخله و ان مرئياته البسيطة كانت ترسم معه..
*نشير في النهاية أننا إعتمدنا الى حد بعيد في توثيق موضوعنا بمقالات لنقاد تشكيليين من إخواننا المغاربة .
د.عصام العسيري