«بينوكيو ديل تورو» .. قيمة الحياة والموت في فيلم لا يشبه أعمال ديزني
في ديسمبر 29, 2022
«سينماتوغراف» ـ لمياء رأفت
حكاية “بينوكيو” هي واحدة من القصص البسيطة التي اكتسبت هالة من الأسطورية في السينما، لذلك يعاد تقديمها مرة بعد أخرى في معالجات مختلفة لإعادة استكشافها، وتدور حول التمثال الخشبي الذي يتحوّل إلى طفل، ليجبر كسر قلب العجوز جيبوتو الذي فقد طفله. “بينوكيو” قصة ألفها كارلو كولدي عام 1883 بإيطاليا، وظهرت في السينما لأول مرة عام 1911.
في 2022 صدر فيلمان يعالجان قصة بينوكيو، الأول إنتاج ديزني وبطولة توم هانكس في دور جيبوتو صانع التحف الخشبية العجوز، والثاني إنتاج المنصة المنافسة “نتفليكس” (Netflix)، وهو فيلم رسوم متحركة إخراج المكسيكي غييرمو ديل تورو، أطلق عليه “بينوكيو ديل تورو” (Guillermo del Toro’s Pinocchio) والذي ضمن مسبقًا أوسكار واحدة على الأقل لهذا العام.
تدور أحداث قصة بينوكيو قديمًا في بيت صانع التحف العجوز جيبوتو، الذي يفقد ابنه وزوجته ويعيش بين مصنوعاته الخشبية حياة باهتة، حتى ينحت تمثالًا لطفل في إحدى الليالي ويتمنى أن يصبح ابنًا له. تتحق الأمنية على يد الجنية الطيبة، وتترك الصغير في رعاية حشرة الجدجد الذي يمثل ضميرًا له، ومن هنا تبدأ المغامرات خلال مسعى التمثال الخشبي الحي للتحول إلى طفل حقيقي.
كتب الفيلم الحديث غييرمو ديل تورو بالمشاركة مع باتريك ماكهيل، وفيه تبدأ الأحداث من نقطة مبكرة قليلًا، حيث نتعرف على جيبوتو وابنه كارلو، اللذين يعيشان، في مدينة إيطالية صغيرة خلال الحرب العالمية الأولى، حياة بسيط سعيدة تنتهي بمقتل كارلو بقنبلة.
يسقط العجوز في بئر من الأحزان، يدمن الخمر، وينبذه أهل البلدة، وفي إحدى نوبات جنونه يصنع تمثال بينوكيو، فيظهر عشوائيًا غير متقن بالكامل، وعندما يستيقظ ويجده حيًا لا يسعد مثل القصة الأصلية، بل يضطرب لعدم قدرته على فهم وقبول هذا المخلوق الذي يمثل بديلًا غير مثالي لابنه الضائع.
تبدأ إرهاصات الحرب العالمية الثانية، حكومة موسوليني الفاشية والتجنيد الإجباري حتى للأطفال والمراهقين.
ينتمي فيلم “بينوكيو” بنسخته الأحدث إلى الأفلام المناهضة للحروب، حيث يسخر من قادتها، ويعري مبادئهم الواهية التي تتضاد مع أبسط قواعد الإنسانية، مثل قسوة القائد العسكري على ابنه الطفل، في محاولة جعله محاربًا يفخر به.
تشبه معالجة قصة بينوكيو الجديدة قصة “فرانكشتاين” للكاتبة ماري شيلي، فكل من دكتور فرانكشتاين وجيبوتو يصنعان كائنًا عكس قوانين الطبيعة، ثم يحاولان التنصل من هذه العلاقة ويبحثان بصنيعتهما عن مشاعر الأبوة والبنوة، وبينما يصاب وحش فرانكشتاين بالإحباط فيقرر الانتقام وتتحول علاقته بصانعه إلى كراهية بدلًا من الحب، يجمع بين بينوكيو ووالده علاقة مختلفة تشد أواصرها المغامرات المرعبة التي خاضها كل منهما منفصلًا ثم مع بعضهما بعضا.
تتسم حبكة فيلم “بينوكيو ديل تورو” بظلمة قد لا يجدها البعض ملائمة لعمل تصنيفه العمري للأطفال، ولكن الفيلم التزم بروح الرواية الأصلية القاسية في تناولها للفقد والحرب، على الرغم من خاتمتها السعيدة، وكذلك لأسلوب ديل تورو السينمائي الفريد، الذي يجعل اسمه يسبق حتى عنوان الفيلم، كما حدث من قبل مع مسلسل الرعب “حجرة العجائب” على نتفليكس.
ديل تورو المخرج الفائز بالأوسكار، وصاحب مجموعة من أشهر أفلام الفانتازيا والرعب، بالتأكيد لن يقدم فيلمًا عن بينوكيو طفوليًا بما يشبه أعمال ديزني، بل عملًا خاصاً بث فيه روحه وفنه.
استخدم الفيلم تقنية “إيقاف الحركة” (Stop Motion) التي تعتمد على تحريك العرائس لميللتمرات صغيرة كل مرة مع تصوير كل حركة، عرائس ديل تورو امتازت بخليط من الغرائبية والواقعية، واختلفت التقنيات المستخدمة في صناعة وتحريك كل منها لتوصيل التجربة البصرية الخاصة للغاية لديل تورو.
فيلم بينوكيو يدور حول الفقد والموت والحرب والبدايات الجديدة. ربما لم يتحول بينوكيو إلى طفل حقيقي في النهاية، ولكنه اكتشف أنه ليس بحاجة لذلك.
وهي نقطة مفصلية تجعله مختلفًا عن المعالجات القديمة للقصة، الطفل الخشبي هنا يعبر عن أي مراهق أو طفل مختلف عن المحيطين به، ويحتفي بشخصيته المتفردة بدلًا من محاولة إخفائها والاختباء كشخص عادي بين العاديين.
يرغب الجيل الأكبر أو جيل الآباء في أطفال يمتزجون بسهولة في مجتمعهم، ليصبح هذا الخط جزءا مهما من الحبكة، على الرغم من كونه هامشيًا في العمل الأدبي.
المعالجات السابقة للقصة، ومنها فيلم ديزني الرائد في الأربعينيات، حتى النسخة الحديثة إخراج روبرت زيمكس في 2022، أعطت الأولوية لتقديم أخلاقيات تعليمية للأطفال مثل احترام الأب وعدم الكذب، والبعد عن الكسل، ولكن نسخة ديل تورو قدمت بينوكيو الثوري البطل المقاوم الذي يرغب في الانسجام مع محيطه بالاحتفاظ بفردانيته.
سلط العمل أنظار الأطفال على مبادئ مهمة بالدرجة نفسها وهي قيمة الحياة والموت، فمن دون الأخير لا يصبح للحياة معنى، وهي نظرة قد تبدو سوداوية لكنها حقيقية يحتاج الصغار لتعلمها ليحتفوا بكل يوم في حياتهم.
في الرواية الأصلية، يقتل بينوكيو الجدجد الذي يمثل ضميره الحي في وقت مبكر من الأحداث، ولكن في الأفلام اللاحقة الأقرب للطفولة تغيرت هذه النظرة، حشرة الجدجد في فيلم ديل تورو ليست نقية إلى هذا الحد، فهو يقبل العبء مقابل تحقيق أمنية له في المستقبل، بينما الجنية ليست مثالية كذلك، بل مزدوجة الشخصية لها صورتان، إحداهما تمثل الحياة والأخرى الموت، بتصميم مخيف بما يليق بهذين الكيانين اللذين يركز عليهما الفيلم.
قد يظن بعض المشاهدين أن هذا الفيلم ليس ملائمًا للأطفال، ولكنه في الحقيقة يكشف أن النسخ الأكثر سذاجة هي غير المناسبة لتربية أطفال يفقهون قيمة الحياة الحقيقية، بينوكيو ديل تورو عمل ناضج من الناحية الفلسفية والفنية، وفيلم يمتع العين والعقل في آن واحد، واستحق تقييم 97% على موقع “روتن توماتوز” (Rotten Tomatoes).
مشغل الفيديو
في ديسمبر 29, 2022
«سينماتوغراف» ـ لمياء رأفت
حكاية “بينوكيو” هي واحدة من القصص البسيطة التي اكتسبت هالة من الأسطورية في السينما، لذلك يعاد تقديمها مرة بعد أخرى في معالجات مختلفة لإعادة استكشافها، وتدور حول التمثال الخشبي الذي يتحوّل إلى طفل، ليجبر كسر قلب العجوز جيبوتو الذي فقد طفله. “بينوكيو” قصة ألفها كارلو كولدي عام 1883 بإيطاليا، وظهرت في السينما لأول مرة عام 1911.
في 2022 صدر فيلمان يعالجان قصة بينوكيو، الأول إنتاج ديزني وبطولة توم هانكس في دور جيبوتو صانع التحف الخشبية العجوز، والثاني إنتاج المنصة المنافسة “نتفليكس” (Netflix)، وهو فيلم رسوم متحركة إخراج المكسيكي غييرمو ديل تورو، أطلق عليه “بينوكيو ديل تورو” (Guillermo del Toro’s Pinocchio) والذي ضمن مسبقًا أوسكار واحدة على الأقل لهذا العام.
تدور أحداث قصة بينوكيو قديمًا في بيت صانع التحف العجوز جيبوتو، الذي يفقد ابنه وزوجته ويعيش بين مصنوعاته الخشبية حياة باهتة، حتى ينحت تمثالًا لطفل في إحدى الليالي ويتمنى أن يصبح ابنًا له. تتحق الأمنية على يد الجنية الطيبة، وتترك الصغير في رعاية حشرة الجدجد الذي يمثل ضميرًا له، ومن هنا تبدأ المغامرات خلال مسعى التمثال الخشبي الحي للتحول إلى طفل حقيقي.
كتب الفيلم الحديث غييرمو ديل تورو بالمشاركة مع باتريك ماكهيل، وفيه تبدأ الأحداث من نقطة مبكرة قليلًا، حيث نتعرف على جيبوتو وابنه كارلو، اللذين يعيشان، في مدينة إيطالية صغيرة خلال الحرب العالمية الأولى، حياة بسيط سعيدة تنتهي بمقتل كارلو بقنبلة.
يسقط العجوز في بئر من الأحزان، يدمن الخمر، وينبذه أهل البلدة، وفي إحدى نوبات جنونه يصنع تمثال بينوكيو، فيظهر عشوائيًا غير متقن بالكامل، وعندما يستيقظ ويجده حيًا لا يسعد مثل القصة الأصلية، بل يضطرب لعدم قدرته على فهم وقبول هذا المخلوق الذي يمثل بديلًا غير مثالي لابنه الضائع.
تبدأ إرهاصات الحرب العالمية الثانية، حكومة موسوليني الفاشية والتجنيد الإجباري حتى للأطفال والمراهقين.
ينتمي فيلم “بينوكيو” بنسخته الأحدث إلى الأفلام المناهضة للحروب، حيث يسخر من قادتها، ويعري مبادئهم الواهية التي تتضاد مع أبسط قواعد الإنسانية، مثل قسوة القائد العسكري على ابنه الطفل، في محاولة جعله محاربًا يفخر به.
تشبه معالجة قصة بينوكيو الجديدة قصة “فرانكشتاين” للكاتبة ماري شيلي، فكل من دكتور فرانكشتاين وجيبوتو يصنعان كائنًا عكس قوانين الطبيعة، ثم يحاولان التنصل من هذه العلاقة ويبحثان بصنيعتهما عن مشاعر الأبوة والبنوة، وبينما يصاب وحش فرانكشتاين بالإحباط فيقرر الانتقام وتتحول علاقته بصانعه إلى كراهية بدلًا من الحب، يجمع بين بينوكيو ووالده علاقة مختلفة تشد أواصرها المغامرات المرعبة التي خاضها كل منهما منفصلًا ثم مع بعضهما بعضا.
تتسم حبكة فيلم “بينوكيو ديل تورو” بظلمة قد لا يجدها البعض ملائمة لعمل تصنيفه العمري للأطفال، ولكن الفيلم التزم بروح الرواية الأصلية القاسية في تناولها للفقد والحرب، على الرغم من خاتمتها السعيدة، وكذلك لأسلوب ديل تورو السينمائي الفريد، الذي يجعل اسمه يسبق حتى عنوان الفيلم، كما حدث من قبل مع مسلسل الرعب “حجرة العجائب” على نتفليكس.
ديل تورو المخرج الفائز بالأوسكار، وصاحب مجموعة من أشهر أفلام الفانتازيا والرعب، بالتأكيد لن يقدم فيلمًا عن بينوكيو طفوليًا بما يشبه أعمال ديزني، بل عملًا خاصاً بث فيه روحه وفنه.
استخدم الفيلم تقنية “إيقاف الحركة” (Stop Motion) التي تعتمد على تحريك العرائس لميللتمرات صغيرة كل مرة مع تصوير كل حركة، عرائس ديل تورو امتازت بخليط من الغرائبية والواقعية، واختلفت التقنيات المستخدمة في صناعة وتحريك كل منها لتوصيل التجربة البصرية الخاصة للغاية لديل تورو.
فيلم بينوكيو يدور حول الفقد والموت والحرب والبدايات الجديدة. ربما لم يتحول بينوكيو إلى طفل حقيقي في النهاية، ولكنه اكتشف أنه ليس بحاجة لذلك.
وهي نقطة مفصلية تجعله مختلفًا عن المعالجات القديمة للقصة، الطفل الخشبي هنا يعبر عن أي مراهق أو طفل مختلف عن المحيطين به، ويحتفي بشخصيته المتفردة بدلًا من محاولة إخفائها والاختباء كشخص عادي بين العاديين.
يرغب الجيل الأكبر أو جيل الآباء في أطفال يمتزجون بسهولة في مجتمعهم، ليصبح هذا الخط جزءا مهما من الحبكة، على الرغم من كونه هامشيًا في العمل الأدبي.
المعالجات السابقة للقصة، ومنها فيلم ديزني الرائد في الأربعينيات، حتى النسخة الحديثة إخراج روبرت زيمكس في 2022، أعطت الأولوية لتقديم أخلاقيات تعليمية للأطفال مثل احترام الأب وعدم الكذب، والبعد عن الكسل، ولكن نسخة ديل تورو قدمت بينوكيو الثوري البطل المقاوم الذي يرغب في الانسجام مع محيطه بالاحتفاظ بفردانيته.
سلط العمل أنظار الأطفال على مبادئ مهمة بالدرجة نفسها وهي قيمة الحياة والموت، فمن دون الأخير لا يصبح للحياة معنى، وهي نظرة قد تبدو سوداوية لكنها حقيقية يحتاج الصغار لتعلمها ليحتفوا بكل يوم في حياتهم.
في الرواية الأصلية، يقتل بينوكيو الجدجد الذي يمثل ضميره الحي في وقت مبكر من الأحداث، ولكن في الأفلام اللاحقة الأقرب للطفولة تغيرت هذه النظرة، حشرة الجدجد في فيلم ديل تورو ليست نقية إلى هذا الحد، فهو يقبل العبء مقابل تحقيق أمنية له في المستقبل، بينما الجنية ليست مثالية كذلك، بل مزدوجة الشخصية لها صورتان، إحداهما تمثل الحياة والأخرى الموت، بتصميم مخيف بما يليق بهذين الكيانين اللذين يركز عليهما الفيلم.
قد يظن بعض المشاهدين أن هذا الفيلم ليس ملائمًا للأطفال، ولكنه في الحقيقة يكشف أن النسخ الأكثر سذاجة هي غير المناسبة لتربية أطفال يفقهون قيمة الحياة الحقيقية، بينوكيو ديل تورو عمل ناضج من الناحية الفلسفية والفنية، وفيلم يمتع العين والعقل في آن واحد، واستحق تقييم 97% على موقع “روتن توماتوز” (Rotten Tomatoes).
مشغل الفيديو
00:00
00:00