كشفت دراسة جديدة ما يحدث في الدماغ عندما نقرر شراء مقطوعة موسيقية أعجبتنا بعد سماعنا لها للمرة الأولى.
أجريت تلك الدراسة في “مستشفى ومعهد مونتريال العصبي”¹ المعروفة باسم “The Neuro” والتابعة لجامعة “مكغيل”², وتم نشرها في مجلة “العلوم” في الثاني عشر من شهر ابريل الجاري.
أبرزت الدراسة النشاطات الدماغية المحددة التي تجعل من الموسيقى “مُجزية” وجديرة بالاستماع إليها, وتتنبأ بقرار شرائنا لها من عدمه.
استمع المشاركون في تلك الدراسة إلى مقتطفات موسيقية لم يسبق لهم أن سمعوها من قبل بشكل يتزامن مع خضوعهم لتصوير وظيفي بالرنين المغناطيسي³, وطُلب منهم عرض ما هم مستعدون لدفعه من المال مقابل كل من تلك المقتطفات وذلك في مزاد علني محاكى.
“عندما يستمع الناس إلى مقطوعة موسيقية لم يسبق لهم أنْ سمعوها من قبل, يمكن للنشاط في منطقة معيّنة من الدماغ أنْ يتنبأ بشكل مستمر وعلى نحو موثوق به بما إذا كانوا سيعجبون بها أو يشترونها.
نتحدث عن “النواة المتكئة”⁴, وهي المنطقة المعنيّة بتشكل التوقعات التي قد تنطوي على مكافأة.
” هذا ما صرحت به كبيرة الباحثين الدكتورة (فالوري ساليمبور – Dr. Valorie Salimpoor) التي قامت بإجراء البحث في مختبر الدكتور (روبرت زاتوري – Dr. Robert Zatorre) في المعهد المذكور آنفاً, والتي تعمل الآن في “معهد (روتمان – Rotman) للأبحاث” التابع لمركز (بايكريست) لعلوم الصحة⁵.
وتتابع القول “إنّ ما يجعل الموسيقى ذات أثر عاطفي كبير للغاية هو تشكل التوقعات.
يُعتبر النشاط الذي يجري في “النواة المتكئة” مؤشراً على أنّ التوقعات قد تحققت بالفعل, ووجدنا في دراستنا أنه كلما ازداد النشاط الدماغي في تلك المنطقة أثناء استماع الأشخاص للموسيقى, كلما ازداد المبلغ النقدي الذي يكونون مستعدين لتقديمه مقابلها.
الاكتشاف الثاني والمهم يكمن في أنّ “النواة المتكئة” لا تعمل بمفردها, وإنما تتفاعل مع القشرة السمعية⁶, وهي منطقة دماغية تقوم بتخزين المعلومات المتعلقة بالأصوات والموسيقى التي نسمعها.
كلما كانت مقطوعة ما مجزية بشكل أكبر كلما ازداد التواصل بيت هاتين المنطقتين.
لقد تم رصد تفاعلات مماثلة أيضاً بين “النواة المتكئة” وبين مناطق دماغية أخرى مسؤولة عن عمليات “السلسَلة عالية المستوى” وعمليات التعرف إلى الأنماط عالية التعقيد بالإضافة إلى مناطق مسؤولة عن ربط قيمة عاطفية و”جزائية” بالمحفزات.
بعبارة أخرى, يقوم الدماغ بإسناد قيمة للموسيقى عن طريق التفاعل الذي يتم بين “نظام الإثابة عن طريق نواقل الدوبامين”⁷ – الذي يعمل على تعزيز السلوكيات التي تكون ضرورية للغاية لبقائنا كالطعام والجنس -, مع بعض أكثر أقسام الدماغ تطوراً, والمسؤولة عن العمليات الفكرية المتقدمة التي يختصّ بها الإنسان.
“يُعتبر ذلك مثيراً للاهتمام حيث أنّ الموسيقى تتألف من تسلسل من الأصوات التي لا تمتلك قيمة جوهرية في حال قمنا بمعاينتها بشكل مفرد, لكن حين يتم ترتيبها مع بعضها البعض بناءً على أنماط زمنية محددة فإنها تصبح بمثابة مكافأة.
” ويتابع الدكتور (روبرت زاتوري), الباحث في معهد The Neuro والمدير بالشراكة في “المختبر العالمي للدماغ والموسيقى والأبحاث الصوتية”⁸, “إنّ النشاط المتكامل للدارات الدماغية المسؤولة عن التعرف على الأنماط, والتوقع, والعواطف يسمح لنا باختبار الموسيقى كمكافأة جمالية أو ذهنية.”
تضيف الدكتورة (ساليمبور): “لقد كان النشاط الدماغي لدى كل من المشاركين هو ذاته أثناء استماعهم لمقاطع موسيقية انتهى المطاف بهم بشرائها, على الرغم من أنّ المقطوعات التي اختاروا شراءها كانت مختلفة.
تساعدنا هذه النتائج على إدراك سبب ميول الناس إلى محبة أنماط مختلفة من الموسيقى, فلدى كل فرد قشرة سمعية ذات شكل فريد خاصّ به, والتي تتشكل بناءً على جميع الأصوات يسمعها خلال حياته, كما أنّه من الممكن امتلاك القوالب الصوتية التي نقوم بتخزينها لارتباطات عاطفية سابقة.”
يكمن أحد الجوانب الإبداعية في هذه الدراسة في تقليدها بشكل دقيق لتجارب الاستماع للموسيقى في الحياة اليومية.
استخدم الباحثون واجهات وأسعار مماثلة لتلك الموجودة في iTunes.
بغية تكرار سيناريو واقعي أكثر ما يمكن أنْ يكون, وبغية تقييم المكافأة بشكل موضوعي, كان بإمكان المشاركين شراء المقطوعات الموسيقية بمالهم الخاص, وذلك كمؤشر على رغبتهم بالاستماع إليها مجدداً.
بما أنّ التفضيلات الموسيقية تتأثر بالارتباطات العاطفية السابقة, تم اختيار المقطوعات الموسيقية الحديثة فحسب – ذلك للحدّ من التوقعات الصريحة قدر الإمكان – باستخدام برمجيات توصية موسيقى – مثل Pandora و Last.fm – لتقوم بعكس التفضيلات الفردية.
إنّ التفاعلات التي تتم بين “النواة المتكئة” وبين القشرة السمعية تشير إلى أننا نصيغ توقعات عن وقع الأصوات الموسيقية بناء على ما تعلمناه وقمنا بتخزينه في القشرة السمعية, وأنّ انفعالاتنا تكون نتيجة تحقق أو مخالفة تلك التوقعات.
نحن نعكف دائماً على صياغة توقعات تتعلق بالمكافأة في سبيل بقاءنا على قيد الحياة, وتزودنا هذه الدراسة بدلائل من علم الأعصاب على أننا نصيغ توقعات أيضاً عند الاستماع إلى محفزات تجريدية كالموسيقى, حتى إنْ لم نسمع تلك الموسيقى قبل ذلك مطلقاً.
إنّ التعرف على الأنماط بالإضافة إلى التنبؤ بمجموعة بسيطة من المحفزات يصبحان – عندما يتم تنظيمها سوياً – قوة كبيرة قادرة على جعلنا سعداء أو حملنا على البكاء, بالإضافة إلى تجربتنا ونقلنا لأكثر المشاعر والأفكار شدة وتعقيداً.
المصدر:ibelieveinsci.