إبراهيم العريس
سنوات يأس ومرض وعزلة أنتجت بعض أكثر الرسوم كآبة وسوداوية في تاريخ الفن
في عدد من اللوحات وبعض مجموعات الرسوم ذات الموضوع الواحد، التي رسمها بعد أن بلغ قمة المجد خلال السنوات الأخيرة من حياته، بدا النقد الاجتماعي وحتى السياسي الذي راح فرانشيسكو غويا (1746 – 1828) يعبر عنه في زمن كانت قد اكتملت فيه أدواته التعبيرية، هزلياً إلى درجة لم يتورع معها معجبوه الفرنسيون خصوصاً، وعلى رأسهم ثيوفيل غوتييه وشارل بودلير، عن أن يحيوا فيه "هذا الرسام ذا الحس المرح". ومع ذلك ما إن حلت العشرية الأخيرة من حياته وتحديداً بين عامي 1819 و1828 حتى انقلب مزاج غويا تماماً، لا سيما حين اشترى لنفسه عزبة سماها الناس "عزبة الأصم"، وراح يحقق تلك المجموعة من الرسوم التي سيسميها المؤرخون "الرسوم السود" التي ينظر إليها تاريخ الفن باعتبارها الأكثر كآبة بين أي أعمال سوداوية حققها أي فنان في تلك الأزمنة القاسية، على أوروبا. ولعل السبب الأول كمن في أنها كانت أزمنة أكثر قسوة على غويا شخصياً وذلك لأسباب عديدة يمكن استنتاج أولها من الاسم الذي أطلقه سكان المنطقة التي اعتزل فيها، على عزبته.
ففي ذلك الحين، وكان الفنان قد تجاوز الـ60 من عمره بسنوات، كان قد فقد سمعه تماماً وعجز أطباؤه عن إيجاد حل لمعضلته. وكانت قطيعته مع الدوقة آلبا (التي اعتقد كثر خطأ في ذلك الحين أنها كانت الموديل التي رسمها في لوحتيه الأشهر "المايا العارية" و"المايا الكاسية") قد ترسخت، ناهيك بأن محاكم التفتيش قد استدعته لتحقق معه تحديداً حول تينك اللوحتين، ثم كانت خيبته السياسية الكبرى حين عاد الملك فردينان السابع إلى الحكم ما بعث لديه، أي لدى غويا، آمالاً كبيرة في خلاص إسبانيا من الفوضى والظلم المستشريين، لكن عودة الملك خيبت كل تلك الآمال لأن هذا عاد أكثر قمعاً وجبروتاً مما كان عليه في الفترة السابقة وقد عادت محاكم التفتيش في ركابه وراحت السلطات تنتقم من كل من كان يعلن موقفاً تنويرياً حتى ازدحمت السجون وتدلت من المشانق جثامين كل من كان يشتبه بمناصرته للفرنسيين. ففي عودته استند الملك في حكمه المطلق إلى الكنيسة ومحاكمها التفتيشية وراح غويا يشعر أن الخسارة خسارته أولاً وأخيراً هو الذي، وتحديداً ضد الفرنسيين، كان قد حقق لوحتيه الكبيرتين "الثاني من مايو" و"الثالث من مايو"، لكنه لم يناصر وطنه بتينك اللوحتين ليراه متراجعاً إلى أزمنة سوداء. وكان غويا على الصعيد الشخصي قد فقد زوجته وبات يعيش في عزبته وحيداً منذ زواج ابنه.
حقق غويا تلك اللوحات الرهيبة التي لا تزال حتى اليوم تبدو مرعبة لمن يشاهدها وتكشف عن حجم معاناة الفنان أمام الواقع الذي بات يعيشه، وعلى الأقل حتى عام 1824، قبل موته بأربع سنوات، حين سمح له، وبشكل غير متوقع بل يبدو مثيراً للاستغراب إذ أتى بمبادرة من الملك شارل الرابع الذي كان قد وصل إلى العرش من دون أن تكون له أي اتجاهات فنية أو معرفة ولو دنيا بفن غويا نفسه، لكنه مع ذلك سمح له بالسفر الذي كان محظوراً عليه فتوجه غويا إلى بوردو الفرنسية ليعيش وقد راح يتنفس الصعداء، حيث استعاد تألقه الفني ورسمه الرائع ولو لسنوات قليلة قبل رحيله وهو في الـ82، مستعيداً في طريقه بعض علاقاته الفرنسية التي كانت قد انقطعت بسبب رد فعله على الاحتلال النابليوني لبلده. ولقد كانت تلك الاستعادة مناسبة أعادت إلى الفرنسيين إعجابهم بفن المعلم الكبير مندهشين أمام القبح الذي رسم به شارل الرابع وأسرته في لوحات أذهلهم كيف أن الملك لم يتنبه إلى قدر الخبث الذي عبر عنه غويا وهو يرسمها!
بيد أن المهم هنا، يبقى مجموعة اللوحات السوداء التي أمضى غويا سنوات كئيبة من حياته وهو يعبر فيها عن أحزانه الخاصة والعامة، مستلهماً على أي حال، كما سيقول دارسو أعماله، لحظات شديدة الرعب في قصص إدغار آلن بو التي راح يقرأ ترجماتها بشغف وصمت خلال تلك المرحلة أو أشعار مواطنه وسلفه الكبير كويبيدو التي كان يعرفها من زمان ويود أن يرسم مشاهد مستقاة منها لكنه ظل في شبابه يؤجل ذلك المشروع في انتظار اللحظة المناسبة التي من الواضح أنه شعر بحلولها أخيراً في سنوات وحدته وعزلته. وذلك، طبعاً حين راح ينفس عن آلامه وخيباته من خلال مجموعة اللوحات التي لا بد أن نندهش، ولكن من دون أن نرفض ذلك، أمام مؤرخين اعتبروها تعبر عن مرحلة رومانطيقية في المسار الإبداعي لغوياً. غير أن في إمكاننا مع ذلك أن نتساءل، مندهشين دائماً عن تلك "الرومانطيقية" التي يمكننا سبرها في مشهد مرعب يصور فيه غويا "ساتورن وهو يلتهم أبناءه"، وما هي تلك النزعة "النسوية" المزعومة التي حيا بعض النقاد وجودها في لوحة "آزمودي" التي تصور نقلاً عن الكتاب المقدس "طيران الشيطان إلى تجمع الشاباط" أو بالأحرى طيران ساحرتين نحو مكان ذلك التجمع وفي خلفية اللوحة قصر يبدو مستبقاً قصر فرانز كافكا بعقود. أو حتى في مشهد ذاك الكلب الغريب البادي من خلف كثبان رمل قاتلة وهو ينظر بيأس محاولاً الوصول إلى خلاص.
سنوات يأس ومرض وعزلة أنتجت بعض أكثر الرسوم كآبة وسوداوية في تاريخ الفن
في عدد من اللوحات وبعض مجموعات الرسوم ذات الموضوع الواحد، التي رسمها بعد أن بلغ قمة المجد خلال السنوات الأخيرة من حياته، بدا النقد الاجتماعي وحتى السياسي الذي راح فرانشيسكو غويا (1746 – 1828) يعبر عنه في زمن كانت قد اكتملت فيه أدواته التعبيرية، هزلياً إلى درجة لم يتورع معها معجبوه الفرنسيون خصوصاً، وعلى رأسهم ثيوفيل غوتييه وشارل بودلير، عن أن يحيوا فيه "هذا الرسام ذا الحس المرح". ومع ذلك ما إن حلت العشرية الأخيرة من حياته وتحديداً بين عامي 1819 و1828 حتى انقلب مزاج غويا تماماً، لا سيما حين اشترى لنفسه عزبة سماها الناس "عزبة الأصم"، وراح يحقق تلك المجموعة من الرسوم التي سيسميها المؤرخون "الرسوم السود" التي ينظر إليها تاريخ الفن باعتبارها الأكثر كآبة بين أي أعمال سوداوية حققها أي فنان في تلك الأزمنة القاسية، على أوروبا. ولعل السبب الأول كمن في أنها كانت أزمنة أكثر قسوة على غويا شخصياً وذلك لأسباب عديدة يمكن استنتاج أولها من الاسم الذي أطلقه سكان المنطقة التي اعتزل فيها، على عزبته.
ففي ذلك الحين، وكان الفنان قد تجاوز الـ60 من عمره بسنوات، كان قد فقد سمعه تماماً وعجز أطباؤه عن إيجاد حل لمعضلته. وكانت قطيعته مع الدوقة آلبا (التي اعتقد كثر خطأ في ذلك الحين أنها كانت الموديل التي رسمها في لوحتيه الأشهر "المايا العارية" و"المايا الكاسية") قد ترسخت، ناهيك بأن محاكم التفتيش قد استدعته لتحقق معه تحديداً حول تينك اللوحتين، ثم كانت خيبته السياسية الكبرى حين عاد الملك فردينان السابع إلى الحكم ما بعث لديه، أي لدى غويا، آمالاً كبيرة في خلاص إسبانيا من الفوضى والظلم المستشريين، لكن عودة الملك خيبت كل تلك الآمال لأن هذا عاد أكثر قمعاً وجبروتاً مما كان عليه في الفترة السابقة وقد عادت محاكم التفتيش في ركابه وراحت السلطات تنتقم من كل من كان يعلن موقفاً تنويرياً حتى ازدحمت السجون وتدلت من المشانق جثامين كل من كان يشتبه بمناصرته للفرنسيين. ففي عودته استند الملك في حكمه المطلق إلى الكنيسة ومحاكمها التفتيشية وراح غويا يشعر أن الخسارة خسارته أولاً وأخيراً هو الذي، وتحديداً ضد الفرنسيين، كان قد حقق لوحتيه الكبيرتين "الثاني من مايو" و"الثالث من مايو"، لكنه لم يناصر وطنه بتينك اللوحتين ليراه متراجعاً إلى أزمنة سوداء. وكان غويا على الصعيد الشخصي قد فقد زوجته وبات يعيش في عزبته وحيداً منذ زواج ابنه.
حقق غويا تلك اللوحات الرهيبة التي لا تزال حتى اليوم تبدو مرعبة لمن يشاهدها وتكشف عن حجم معاناة الفنان أمام الواقع الذي بات يعيشه، وعلى الأقل حتى عام 1824، قبل موته بأربع سنوات، حين سمح له، وبشكل غير متوقع بل يبدو مثيراً للاستغراب إذ أتى بمبادرة من الملك شارل الرابع الذي كان قد وصل إلى العرش من دون أن تكون له أي اتجاهات فنية أو معرفة ولو دنيا بفن غويا نفسه، لكنه مع ذلك سمح له بالسفر الذي كان محظوراً عليه فتوجه غويا إلى بوردو الفرنسية ليعيش وقد راح يتنفس الصعداء، حيث استعاد تألقه الفني ورسمه الرائع ولو لسنوات قليلة قبل رحيله وهو في الـ82، مستعيداً في طريقه بعض علاقاته الفرنسية التي كانت قد انقطعت بسبب رد فعله على الاحتلال النابليوني لبلده. ولقد كانت تلك الاستعادة مناسبة أعادت إلى الفرنسيين إعجابهم بفن المعلم الكبير مندهشين أمام القبح الذي رسم به شارل الرابع وأسرته في لوحات أذهلهم كيف أن الملك لم يتنبه إلى قدر الخبث الذي عبر عنه غويا وهو يرسمها!
بيد أن المهم هنا، يبقى مجموعة اللوحات السوداء التي أمضى غويا سنوات كئيبة من حياته وهو يعبر فيها عن أحزانه الخاصة والعامة، مستلهماً على أي حال، كما سيقول دارسو أعماله، لحظات شديدة الرعب في قصص إدغار آلن بو التي راح يقرأ ترجماتها بشغف وصمت خلال تلك المرحلة أو أشعار مواطنه وسلفه الكبير كويبيدو التي كان يعرفها من زمان ويود أن يرسم مشاهد مستقاة منها لكنه ظل في شبابه يؤجل ذلك المشروع في انتظار اللحظة المناسبة التي من الواضح أنه شعر بحلولها أخيراً في سنوات وحدته وعزلته. وذلك، طبعاً حين راح ينفس عن آلامه وخيباته من خلال مجموعة اللوحات التي لا بد أن نندهش، ولكن من دون أن نرفض ذلك، أمام مؤرخين اعتبروها تعبر عن مرحلة رومانطيقية في المسار الإبداعي لغوياً. غير أن في إمكاننا مع ذلك أن نتساءل، مندهشين دائماً عن تلك "الرومانطيقية" التي يمكننا سبرها في مشهد مرعب يصور فيه غويا "ساتورن وهو يلتهم أبناءه"، وما هي تلك النزعة "النسوية" المزعومة التي حيا بعض النقاد وجودها في لوحة "آزمودي" التي تصور نقلاً عن الكتاب المقدس "طيران الشيطان إلى تجمع الشاباط" أو بالأحرى طيران ساحرتين نحو مكان ذلك التجمع وفي خلفية اللوحة قصر يبدو مستبقاً قصر فرانز كافكا بعقود. أو حتى في مشهد ذاك الكلب الغريب البادي من خلف كثبان رمل قاتلة وهو ينظر بيأس محاولاً الوصول إلى خلاص.