عاطف الطيب.. ترك إرثاً ساخناً من السينما المتمردة
في ديسمبر 26, 2022
*** أسامة عسل
مع موجة الهبوط التي اعترت السينما المصرية في الثمانينيات كان اسم عاطف الطيب كافياً للتدليل على تميز الفيلم الذي يقدمه، فقد مثل هو ومحمد خان في تلك المرحلة أبرز مخرجين أصرا على صناعة سينما متمردة على السائد والتجاري، وفي الوقت الذي صعدت فيه سينما المقاولات لتصبح الصوت الأعلى لدى منتجي السينما، كان عاطف الطيب يعمل على النقش في صخور الشروط السائدة لصناعة أفلام كبيرة، بعد تجربة طويلة من العمل في إخراج الأفلام الوثائقية والعمل كمساعد مخرج لمجموعة كبيرة من المخرجين المقتدرين مثل يوسف شاهين وشادي عبد السلام والمخرجين العالميين الذي صوروا أفلاماً في مصر.
يصنف عاطف الطيب كمخرج من أبناء الموجة الثانية من الواقعية الجديدة في مصر، وأيضاً كمخرج يحمل مواقف سياسية واضحة جعلته يصنف كمثقف ملتزم، حتى من أشد نقاده الذين أخذوا عليه دائماً أسلوبه الفني الذي لا يعمل على تغطية القبح أو مواربة الباب دونه، لذلك يراه بعض النقد مسئولاً عن موجة الأفلام التي جلدت المجتمع المصري وأظهرت عيوبه بصورة مؤلمة، ولم يفلت الطيب أيضاً من الإتهامات بتشويه سمعة مصر من تيار النقاد الذين يرون في فنه تركيزاً على الجوانب السلبية في المجتمع المصري.
يمكن اعتبار عاطف الطيب من جيل ثورة يوليو فهو من مواليد 1947، ومثلت الثورة الرافد الأساسي لثقافته وأفكاره طيلة سنوات دراسته التي انتهت بتخرجه من معهد السينما في 1970، وكان من الطبيعي أن لا يحمل مزاجاً متوافقاً مع الظروف السياسية التي رآها مناقضة لما تعلمه وآمن به طيلة حياته، لذلك أتت أفلامه لتوجه نقداً لاذعاً للإنقلاب على الثورة ومكتسباتها، وما عرف بعصر الانفتاح الاقتصادي، بطبيعة الحال لم تكن السبعينيات هي الفرصة المناسبة لظهور الطيب، لذلك بقي يعمل على صقل دراسته الإكاديمية من خلال العمل بجوار مجموعة من كبار المخرجين، حتى واتته الفرصة لصناعة أول أفلامه (الغيرة القاتلة) في سنة 1982، الفيلم كان معالجة سينمائية محلية لمسرحية شكسبير(عطيل)، ولم يحقق نجاحاً كبيراً ولكنه أظهر مهارات الطيب في إدارة الممثل، حيث تمكن من الوصول ببطلي الفيلم إلى ذروة الأداء التمثيلي.
في سنة 1983 قدم الطيب (سواق الأتوبيس) الفيلم الذي صنع شهرته و أثار جدلاً كبيراً في أوساط الجمهور والنقاد مع نور الشريف وميرفت أمين التي كانت تدخل في مرحلة النضج الفني من خلال أعمالها مع محمد خان و عاطف الطيب، وكان الفيلم عبارة عن رماية حرة على عصر الانفتاح الاقتصادي وإدانة للتنكر على عصر الثورة، حيث يحكي الفيلم عن جندي متقاعد يعمل سائقاً لحافلة نقل عام و يواجه صراعاً لاستعادة ورشة أبيه في ظل تخلي الجميع عنه، عدا رفاق السلاح الذين يقفون بجانبه حتى ينجح في الحفاظ على إرثه العائلي ولكن بعد أن تتغير شخصيته، فينتهي الفيلم بمشهد البداية نفسه ولكن بتغير جوهري حيث يطارد السائق اللص بعد أن تركه يفلت في مشهد البداية، وتتحول الابتسامة الساخرة على شفتيه إلى صرخة قوية سببت جدال حتى ألغيت من الفيلم، (يا ولاد الكلب)، وكانت هي الصرخة التي حذفت ثم عادت للفيلم.
الكثير من النقاد رأوا في الفيلم معالجة ساذجة و متحيزة ولكن الجمهور قال كلمته وانحاز مع عاطف الطيب إلى عصر مضى وليس بالوسع استعادته، وبعد فترة من التوقف مع أفلام درامية لم تحمل نفس الجدل، يفاجئ الطيب الجميع بفيلم (البرئ) الذي كان أجرأ فيلم في فترة الثمانينيات كلها، مما دفع الرقابة إلى مطالبة صانعي الفيلم الطيب ووحيد حامد لتغيير مشهد النهاية، لينتهي الفيلم بأغنية بدلاً من مشهد إطلاق النار الهستيري على المجندين الجدد الذين يدخلون إلى المعتقل وعالمه، ففي هذا الفيلم يدخل الفتى القروي الساذج أحمد سبع الليل الذي قام بدوره أحمد زكي إلى عالم التجنيد والخدمة في المعتقل ويتم غسل دماغه ليفهم أنه يحارب أعداء البلد من المثقفين المتآمرين، ولكنه يكتشف الحقيقة بدخول ابن بلدته ممدوح عبد العليم الذي ليس من أعداء الوطن كما يرى سبع الليل، ولكن ذلك يدفعه من مكانة الجندي المدلل ليصبح هو نفسه موضوعاً للقمع الذي يمارسه بشكل ممنهج مدير السجن محمود عبد العزيز، إدارة الممثلين كانت نقطة تميز الطيب في ظل سلسلة من الكادرات الفقيرة للحركة، تركيز الطيب على القصة والسيناريو والحصول على تعاطف المشاهد، واستفزاز ملكة التفكير كانت هي الأهداف التي يعمل عليها الطيب، لذلك لم يكن الإعجاب أو الدهشة غايته.
الشخصية الناقدة والمسيسة للطيب ظهرت أيضاً في فيلم (الحب فوق هضبة الهرم) عن قصة الروائي الكبير نجيب محفوظ، والتي تعالج أزمة الزواج في ظل الظروف الاقتصادية الصعبة ومشكلة السكن وتراجع طبقة الموظفين من المتعلمين أمام طبقة المهنيين وأخلاقياتهم و ذوقهم دون أن يدين هذه الطبقة، وكعادته يغير الطيب النهاية لتصبح أكثر إدانة للواقع بدلاً من النهاية السلبية في قصة نجيب محفوظ.
بعد الجدل الكبير الذي أثارته أفلام الطيب في السنوات الأولى يقدم عاطف فيلماً فنياً من الطراز الأول في (أبناء و قتلة) من بطولة محمود عبد العزيز ونبيلة عبيد الذي يستعرض حياة تاجر سلاح انتهازي من بداياته كعامل في بار متواضع واستغلاله لراقصة شعبية تتآمر عليه، فتبتعد عنه تاركة له طفلين يتربيان في رعاية العمة، وتتزوج هي من ضابط الشرطة الذي يطارد التاجر حتى ينتهي الفيلم بنهاية مأساوية بقتل ابنه الأستاذ الجامعي نتيجة حالة ضعف النظر التي ترمز إلى انعدام الفكرة الأخلاقية في الحياة.
من ينظر لحياة عاطف الطيب يدرك حجم المعركة التي كان يخوضها بعمله الدؤوب على إدانة عصر الانفتاح فيقدم فيلم (كتيبة الإعدام) عن قصة أسامة أنور عكاشة، ثم يقدم فيلم (الهروب) في بداية التسعينيات الذين أدانا نماذج المتسلقين على موجة الانفتاح الاقتصادي، و يدعوان إلى الثورة والعنف والحلول الفردية في تخليص الحسابات، هذه الرؤية المفتوحة التي تنتهي دائماً بالقتل والتصفية، جعلت النقاد يفتحون بدورهم نار الانتقادات الساخنة ضد الطيب، وصنفوه كمخرج (خطر) خاصة مع تأثيره الكبير على عدد من المخرجين الشباب.
التوجه السياسي ظهر بارزاً في فيلم (ناجي العلي) 1992 الذي مكن نقاده من إطلاق حملة جديدة على طريقة (امسك حرامي)، حيث اتهم الطيب بتقديم صورة سلبية عن الشخصية المصرية الذي قدمها كشخصية مغيبة وعاجزة في تعمد لاستخدام الرمز لدور مصر السياسي في تلك المرحلة من التاريخ العربي.
الهجمة على فيلم (ناجي العلي) دفعت الطيب لمحاولة تقديم أفلام مختلفة عما قدمه في مسيرته، ولكن الوقت كان متأخراً فصنف كمخرج منشق ومتمرد وصعب الترويض، فأتت أفلامه الأخيرة (دماء على الأسفلت، كشف المستور، وليلة ساخنة) لتضيف لرصيده الساخن من الأفلام الخلافية والجدلية التي أرضت الكثيرين وأسخطت الكثيرين، ولكنها لم تكن مجرد أفلام اعتيادية تمر مرور الكرام.
في صيف 1995 توفي عاطف الطيب نتيجة متاعب صحية ليترك تراثاً سينمائياً كبيراً، وليظل اسمه خالداً كأحد أجرأ مخرجي السينما المصرية.
في ديسمبر 26, 2022
*** أسامة عسل
مع موجة الهبوط التي اعترت السينما المصرية في الثمانينيات كان اسم عاطف الطيب كافياً للتدليل على تميز الفيلم الذي يقدمه، فقد مثل هو ومحمد خان في تلك المرحلة أبرز مخرجين أصرا على صناعة سينما متمردة على السائد والتجاري، وفي الوقت الذي صعدت فيه سينما المقاولات لتصبح الصوت الأعلى لدى منتجي السينما، كان عاطف الطيب يعمل على النقش في صخور الشروط السائدة لصناعة أفلام كبيرة، بعد تجربة طويلة من العمل في إخراج الأفلام الوثائقية والعمل كمساعد مخرج لمجموعة كبيرة من المخرجين المقتدرين مثل يوسف شاهين وشادي عبد السلام والمخرجين العالميين الذي صوروا أفلاماً في مصر.
يصنف عاطف الطيب كمخرج من أبناء الموجة الثانية من الواقعية الجديدة في مصر، وأيضاً كمخرج يحمل مواقف سياسية واضحة جعلته يصنف كمثقف ملتزم، حتى من أشد نقاده الذين أخذوا عليه دائماً أسلوبه الفني الذي لا يعمل على تغطية القبح أو مواربة الباب دونه، لذلك يراه بعض النقد مسئولاً عن موجة الأفلام التي جلدت المجتمع المصري وأظهرت عيوبه بصورة مؤلمة، ولم يفلت الطيب أيضاً من الإتهامات بتشويه سمعة مصر من تيار النقاد الذين يرون في فنه تركيزاً على الجوانب السلبية في المجتمع المصري.
يمكن اعتبار عاطف الطيب من جيل ثورة يوليو فهو من مواليد 1947، ومثلت الثورة الرافد الأساسي لثقافته وأفكاره طيلة سنوات دراسته التي انتهت بتخرجه من معهد السينما في 1970، وكان من الطبيعي أن لا يحمل مزاجاً متوافقاً مع الظروف السياسية التي رآها مناقضة لما تعلمه وآمن به طيلة حياته، لذلك أتت أفلامه لتوجه نقداً لاذعاً للإنقلاب على الثورة ومكتسباتها، وما عرف بعصر الانفتاح الاقتصادي، بطبيعة الحال لم تكن السبعينيات هي الفرصة المناسبة لظهور الطيب، لذلك بقي يعمل على صقل دراسته الإكاديمية من خلال العمل بجوار مجموعة من كبار المخرجين، حتى واتته الفرصة لصناعة أول أفلامه (الغيرة القاتلة) في سنة 1982، الفيلم كان معالجة سينمائية محلية لمسرحية شكسبير(عطيل)، ولم يحقق نجاحاً كبيراً ولكنه أظهر مهارات الطيب في إدارة الممثل، حيث تمكن من الوصول ببطلي الفيلم إلى ذروة الأداء التمثيلي.
في سنة 1983 قدم الطيب (سواق الأتوبيس) الفيلم الذي صنع شهرته و أثار جدلاً كبيراً في أوساط الجمهور والنقاد مع نور الشريف وميرفت أمين التي كانت تدخل في مرحلة النضج الفني من خلال أعمالها مع محمد خان و عاطف الطيب، وكان الفيلم عبارة عن رماية حرة على عصر الانفتاح الاقتصادي وإدانة للتنكر على عصر الثورة، حيث يحكي الفيلم عن جندي متقاعد يعمل سائقاً لحافلة نقل عام و يواجه صراعاً لاستعادة ورشة أبيه في ظل تخلي الجميع عنه، عدا رفاق السلاح الذين يقفون بجانبه حتى ينجح في الحفاظ على إرثه العائلي ولكن بعد أن تتغير شخصيته، فينتهي الفيلم بمشهد البداية نفسه ولكن بتغير جوهري حيث يطارد السائق اللص بعد أن تركه يفلت في مشهد البداية، وتتحول الابتسامة الساخرة على شفتيه إلى صرخة قوية سببت جدال حتى ألغيت من الفيلم، (يا ولاد الكلب)، وكانت هي الصرخة التي حذفت ثم عادت للفيلم.
الكثير من النقاد رأوا في الفيلم معالجة ساذجة و متحيزة ولكن الجمهور قال كلمته وانحاز مع عاطف الطيب إلى عصر مضى وليس بالوسع استعادته، وبعد فترة من التوقف مع أفلام درامية لم تحمل نفس الجدل، يفاجئ الطيب الجميع بفيلم (البرئ) الذي كان أجرأ فيلم في فترة الثمانينيات كلها، مما دفع الرقابة إلى مطالبة صانعي الفيلم الطيب ووحيد حامد لتغيير مشهد النهاية، لينتهي الفيلم بأغنية بدلاً من مشهد إطلاق النار الهستيري على المجندين الجدد الذين يدخلون إلى المعتقل وعالمه، ففي هذا الفيلم يدخل الفتى القروي الساذج أحمد سبع الليل الذي قام بدوره أحمد زكي إلى عالم التجنيد والخدمة في المعتقل ويتم غسل دماغه ليفهم أنه يحارب أعداء البلد من المثقفين المتآمرين، ولكنه يكتشف الحقيقة بدخول ابن بلدته ممدوح عبد العليم الذي ليس من أعداء الوطن كما يرى سبع الليل، ولكن ذلك يدفعه من مكانة الجندي المدلل ليصبح هو نفسه موضوعاً للقمع الذي يمارسه بشكل ممنهج مدير السجن محمود عبد العزيز، إدارة الممثلين كانت نقطة تميز الطيب في ظل سلسلة من الكادرات الفقيرة للحركة، تركيز الطيب على القصة والسيناريو والحصول على تعاطف المشاهد، واستفزاز ملكة التفكير كانت هي الأهداف التي يعمل عليها الطيب، لذلك لم يكن الإعجاب أو الدهشة غايته.
الشخصية الناقدة والمسيسة للطيب ظهرت أيضاً في فيلم (الحب فوق هضبة الهرم) عن قصة الروائي الكبير نجيب محفوظ، والتي تعالج أزمة الزواج في ظل الظروف الاقتصادية الصعبة ومشكلة السكن وتراجع طبقة الموظفين من المتعلمين أمام طبقة المهنيين وأخلاقياتهم و ذوقهم دون أن يدين هذه الطبقة، وكعادته يغير الطيب النهاية لتصبح أكثر إدانة للواقع بدلاً من النهاية السلبية في قصة نجيب محفوظ.
بعد الجدل الكبير الذي أثارته أفلام الطيب في السنوات الأولى يقدم عاطف فيلماً فنياً من الطراز الأول في (أبناء و قتلة) من بطولة محمود عبد العزيز ونبيلة عبيد الذي يستعرض حياة تاجر سلاح انتهازي من بداياته كعامل في بار متواضع واستغلاله لراقصة شعبية تتآمر عليه، فتبتعد عنه تاركة له طفلين يتربيان في رعاية العمة، وتتزوج هي من ضابط الشرطة الذي يطارد التاجر حتى ينتهي الفيلم بنهاية مأساوية بقتل ابنه الأستاذ الجامعي نتيجة حالة ضعف النظر التي ترمز إلى انعدام الفكرة الأخلاقية في الحياة.
من ينظر لحياة عاطف الطيب يدرك حجم المعركة التي كان يخوضها بعمله الدؤوب على إدانة عصر الانفتاح فيقدم فيلم (كتيبة الإعدام) عن قصة أسامة أنور عكاشة، ثم يقدم فيلم (الهروب) في بداية التسعينيات الذين أدانا نماذج المتسلقين على موجة الانفتاح الاقتصادي، و يدعوان إلى الثورة والعنف والحلول الفردية في تخليص الحسابات، هذه الرؤية المفتوحة التي تنتهي دائماً بالقتل والتصفية، جعلت النقاد يفتحون بدورهم نار الانتقادات الساخنة ضد الطيب، وصنفوه كمخرج (خطر) خاصة مع تأثيره الكبير على عدد من المخرجين الشباب.
التوجه السياسي ظهر بارزاً في فيلم (ناجي العلي) 1992 الذي مكن نقاده من إطلاق حملة جديدة على طريقة (امسك حرامي)، حيث اتهم الطيب بتقديم صورة سلبية عن الشخصية المصرية الذي قدمها كشخصية مغيبة وعاجزة في تعمد لاستخدام الرمز لدور مصر السياسي في تلك المرحلة من التاريخ العربي.
الهجمة على فيلم (ناجي العلي) دفعت الطيب لمحاولة تقديم أفلام مختلفة عما قدمه في مسيرته، ولكن الوقت كان متأخراً فصنف كمخرج منشق ومتمرد وصعب الترويض، فأتت أفلامه الأخيرة (دماء على الأسفلت، كشف المستور، وليلة ساخنة) لتضيف لرصيده الساخن من الأفلام الخلافية والجدلية التي أرضت الكثيرين وأسخطت الكثيرين، ولكنها لم تكن مجرد أفلام اعتيادية تمر مرور الكرام.
في صيف 1995 توفي عاطف الطيب نتيجة متاعب صحية ليترك تراثاً سينمائياً كبيراً، وليظل اسمه خالداً كأحد أجرأ مخرجي السينما المصرية.