السوري منذر شرابي ذاكرة حلب المنخرطة في كل تفاصيل المدينة
غريب ملا زلال
بيوت حلب تحفة فنية
فُتن الفنان التشكيلي منذر شرابي بمدينته حلب، بمعالمها القديمة والحديثة، حتى أنه رهن ريشاته وألوانه لإعادة تصويرها، فصارت أعماله وتجربته أشبه بذاكرة فنية للمدينة، تحكي للمتلقي قصصا مثيرة، وتثير دهشته بالكثير من الواقعية المفرطة.
إذا أردت أن تقرأ حلب، أن تقرأ تاريخها، أسواقها، تراثها، أزقتها، أبوابها، معالمها، ناسها، قاماتها، طبيعتها.. إلخ، عليك بأعمال منذر شرابي (1948)، نعم عليك بأعماله فهي ستزودك بكل ذلك وأكثر، ستمسك بيدك وتنتقل بك من مكان إلى مكان، من سوق إلى سوق، ومن باب إلى آخر وهي تسرد لك أسرارها، وتروي لك تأملاتك بمفاتنها، فهي خير دليل سياحي وتاريخي واجتماعي وثقافي لك. لن تجعلك تغفو من تجوالك وحلمك اللذيذ، حلم الشوق واللوعة والحنين إلى صميم مدينة حلب، حلب القديمة على نحو أكثر، وزمنها العتيق الذي يبوح بكل مساعيه لفتح مجاريه الخاصة، بالماضي الملتحم بالناس البسطاء وقضاياهم.
أعمال منذر شرابي ستثير دهشتك على امتداد التأمل، الدهشة التي ستمنحك انطباعا عذبا عن تلك الواقعية المفرطة، الدقيقة في النقل عن الواقع، بجزيئاتها وتفاصيلها، بطابعها المرتبط بالإنسان وأشغاله. وإن كانت خاضعة للتكرار في بعض توجهها، بلوغا إلى دوائر ليست مفتوحة تماما، بل دوائر مأخوذة بنتائج مسبقة، فيها يدور تأمل الفنان واستغراقه، فيها يدور حنينه إلى المكان وخرائطه، حنينه الذي يستمر في العمل ولا ينطفئ.
مشاهد من طفولة الفنانيستمر الفنان لينجز دروبه في بناء لوحاته، فهو رغم الطابع التقليدي لموضوعاته، تلك الموضوعات السائدة لحينه والتي تحمل مسحة واقعية حيوية عبر سلسلة ظاهرة تؤكد وتوحي بأنه فنان المرحلة التي طغت عليها الواقعية التسجيلية. أقول رغم الطابع التقليدي لأثير موجاته إلا أنه يصر على حضور نزعات جمالية بكل أغراضها، بتصوير شرقي حدسي أكثر منه حسي، تتضمن جماليات تبعث فيه أولا وفي متلقيه ثانيا حقائق بسيطة كعوامل فعالة في تجذير تأثيراتها العميقة للوصول إلى مناطق جمالية جديدة.
لو نأتي على عناوين أعماله: سوق إسطنبول، سوق النحاسين، سوق الحبال، المبيض، سوق الصياغ، باب أنطاكيا، حي العقبة، من التراث، الحمام الدمشقي، السقا، الفرواتي، الفاخوري، رقص السماح، الرقص الشعبي الحلبي، رقصة السيف والترس، وغيرها من اللوحات التراثية، فهي تعطينا انطباعا صادقا بأن عجينة موضوعاته تقترن بمشاهداته اليومية في مدينته حلب، والتي لم تكن إشارات عابرة بل صياغات مستلهمة من عمق المكان، ومعالجات صالحة عنها، ومنها تتكون جماليات سطوحه بكل وثاقها ودقة وصفها.
والفنان يتوجه إلى تلك الأمكنة الصالحة للحياة في حلب، بنبضها ونبض أشيائها، ليمنحها وعلى نحو مباشر ميزات أسلوبية سردية، وصفية، وهذا يجعله يقود صوته الضمني في ضوء ما يقدمه مؤكدا صلاحية ذلك في تقويمنا لتجربته وما يمارسه من وظائف اجتماعية إلى جانب وظائف فنية جمالية يربط بينهما بمقياس داخلي وخارجي معا.
مشهد فني حفّز الرسام على توثيقهشرابي أشبه بذاكرة حلب وأهلها، بأمكنتها وكيفية تشكلها. وهو منخرط في تفاصيلها لدرجة أن كلا منهما يمارس نوعا من الاحتواء للآخر، بل يكاد يحيا كل منهما منخرطا في الزمن الميقاتي الذي يحياه الآخر، والحال أنه يدرج أعماله كمرجع لواقع عيني متعارف عليه حينا، وحينا لواقع التقطته عيناه من زاوية احتفاله به.
وثمة تداخل بين الرغبة في إعلاء قيم الملتقَط (بفتح القاف) في لحظة قنصها، وبين ما يمنعها، فينفتح ضوء جموحه نحو انتشال نفسه من مسايرة الواقع ووصفه. لكن الحاضنة الفنية التي ينبض فيها تمنحه بقاء وحضورا فاعلا لا يقيانه ورغبته الجارفة من شد عمله إلى الواقع وقراءته بموجب ذلك، وفي ضوء مقررات لا تقيه من التطابق مع الواقع، وهو هنا يعيد إنتاج المشهد وفق طريقة تحافظ على أبعاده الجمالية، ويعلن عن نفسه صريحا، ملتحفا بالواقع ومفارقه دون أن تشغله الجوانب المعتمة منه، عدته ذاكرته المكانية التي يضخها بكل ما هو جميل ومشتهى، وبكل ما يطهرها من الأدران والتفسخ والانحلال، عدته ذاكرته غير المهددة بالتلاشي والتي بها يُحْيي الحياة وما كان منها وما سيكون.
منذر شرابي الموغل عميقا في رحاب حلب، والمخلص لأمكنته، تلك الأمكنة التي يلغي المسافات الزمنية بينها، لا يكف أن يشحن عمله بعطور المدينة وهي تبث رحيقها طواعية لا قهرا ولا عنوة حتى تتجلى بناءاته وكأنها تاريخ حاضر في صميم حكاياته، وهي تروى في نبرة العاشق الذي غاب وعاد ليولع مصابيحه وفق ما يفي مقاصد منتجه.
أقول منذر شرابي الفنان الذي يتلقف نصه ليمارس عليه طاقاته الذاتية لا كنوع من اللجم، بل كأصداء تأبى التلاشي والضياع في حضرة لحظة القنص والالتقاط، هو من الفنانين الانطباعيين المهمين في سوريا، وعلى هذا فمعجمه غني بالأعمال التي تدل على ذلك، ولا يمكن تجاهله حين الاقتراب منها، إن كان بحثا أو قراءة أو دراسة، فله حضوره الذي يتعاضد في هذا المسار، وكذلك له تجربته الغنية في رسم بورتريهات لأهم الشخصيات الثقافية الحلبية، الأدبية منها والفنية، منها مصطفى العقاد، خيرالدين الأسدي، صباح فخري، صبري المدلل، وغيرهم كشكل من أشكال تكريمهم وتخليدهم كمعالم لحلب إلى جانب قلعتها وأبوابها.
غريب ملا زلال