د. نهلة غسّان طربيه: حكاية لوحة
د. نهلة غسّان طربيه
(ياربّ أبعِد عنّي هذه الكأس). هذا كان ما عَنْوَنَها، بعد أن رَسَمَها في 2003.
حين شاء القدر أن أحظى برؤيتها إليكترونيّاً عن بعد، جاء تعليقي المقتَضَب: (لوحة تاريخية! الله يحميك أستاذ جورج المبدع).
القاسِمُ المشتَرَك ما بين الحكاية القصيرة لعنوان اللوحة، وما بين الحكاية القصيرة لتعليقي، هو حقاً طويلٌ للغاية.. يتخطّى حدوداً شاسعة للزّمان والمكان!
فمبدعُ اللوحة هذه، هو الفنّان التّشكيليّ جورج عشّي، الرّسّام، ومُتقِنُ الشّعر المَحكيّ والمُغَنّى لفنّانين كثيرين على امتداد السّاحة العربيّة، والملحّن، والموسيقار الخبير في العزف على الكَمان، والمصوّر الفوتوغرافيّ. وقَبْلَ كلّ موهبة من مواهبه التي لا ينبغي حَصرُها، بل التوقّف عند بعضها للضرورة الآنيّة لدى كتابة هذه السّطور، إنّ الفنّان جورج عشّي هو أوّلاً وآخراً الرّجل الإنسان.. والصّديق الإنسان.. والمُبدع الإنسان! لعلّ هذه الميّزة هي ما جعلَته استثنائيَّ المواهب.. يصبّ عليها من ألوان روحه الإنسانيّة الشّفيفة والمرهَفَة فتنسكب في بَوتقةٍ نادرة من الفنون والآداب.
أوليس بمقدور هكذا فنّان إنسان أن يغمس ريشته في فضاءِ الرؤى الدقيقة والحدس السّليم.. فيرى ما لا يراه أغلبنا، ويسمع ما لا نسمعه، حتى ولو كان يبعث على الخوف والكارثة والبكاء؟ أم هل هي المخيّلةُ القصيّة؟ هذا، على سبيل المثال، ما فعله جورج أورويل، في روايته ( 1984) حين تنبّأَ بالعالم الذي غَدَونا اليوم نعيش فيه. سواء كانت هذه أم تلك، فالعمل الفني الذي سيصبح ماهيّةَ الحدث الكتابيّ في سطوري هذه هو الذي سيعمل على الإدهاش عبر غَداته مرئيّاً، ملموساً، حَيّا!
اللوحة كنظرة أولى وثانية وثالثة، والتي كان قد رسمها الفنان في 2003 تُجسِّد صَلبَ السيّد المسيح كما يقرؤها أحدنا في الإنجيل المقدّس. خطوطُها وألوانُها ورموزُها وتفاصيلُها تصبُّ كلُّها في تلك الفكرة الدينية البحتة.
ولكنّ قراءتي للّوحة.. منذ الوهلة الأولى.. جاءت أبعد بكثير من تلك القراءة العاديّة، الواقعيّة، البسيطة، والبريئة، والدينية للغاية.
في النظرة العَجلى على اللّوحة، رأيْتُ ، كما كلُّ مُشاهِدٍ بشكلٍ عام يرى فيها: يسوعَ المسيح؛ حزنَ وتشتّتَ وحيرةَ وقسوةَ ويأسَ الناس كما يبدون في خلفيّة الصّورة، باختلاف أعمارهم، وأجناسهم، وفئاتهم. كذلك شعرْتُ بألم جِراحِ وعذابِ (فادي البشر).
ولكنّني في الوقت نفسه.. في تزامنٍ لحظيٍّ نادر.. وفي بُعدٍ جديدٍ للّوحة.. ثنائيّةِ الأبعاد في نظر الأغلبيّة.. رأيتُ ما أذهلني.. ما جعلني أحدّق في الصورة مليّاً، وكأنني أرى صورة (الصّلب) تبعاً للإنجيل المقدّس للمرّة الأولى في حياتي! صارت اللوحةُ بنظرةٍ أعمق إليها ثلاثيّةَ الأبعاد.. ازداد العمقُ في تفاصيل حيثيّاتها المرسومة وبرزَ أكثر رويداً رويدا! ومن ثَمّ غَدَتِ اللوحة رباعيّة الأبعاد! سَمَقَ فيها عنصرُ الزّمان وكذا المكان!
في هذين البُعدَين تِباعاً، رأيتُ يسوع المسيح ذاته هذه المرّة كوطنٍ عظيم! أمّا حُزنُ وتَشَتُّتُ وحيرةُ وقسوةُ ويأسُ البشر فقد بقي نفْسُه.. تماماً كما رَسَمَ الفنّانُ كلَّ تلك المشاعر المنسكبة على اللوحة. ولكنّ كلَّ تلك المشاعر هذه المرّة اندلَقَتْ على جسدي وروحي.. على كُلّي.. وأنا أَنظرُ بإمعانٍ شديد. فقد بقي البشر في خلفيّة الصّورة أيضاً، باختلاف أعمارهم، أجناسهم، وفئاتهم، ولكنّني كنْتُ أقفُ بينهم.. أبكي بدموعٍ مدرارة. كنْتُ أنظر إليهم وأكتشف أنّني أعرف أغلبَهم.
هُم أناسُ أُحبُّهم.. أَنتمي إليهم.. في سوريّتي، هناك حيث (مدينتي البحريّة) التي يغنّي لها مَوجُ بحر أوغاريت اللازورديّ فأدندن معه لها كلّ صباح ومساء؛ وهناك حيث قريتي التي تلوّحُ من على قمّةِ جبلها للشبابيك البعيدة.. فأسرقُ منها نجمةً أو اثنتين كي تُنيرَ طبقات الضباب اللندنيّ ليلةً إثر ليلة. وهم أُناسُ أُحبُّهم.. أنتمي إليهم أيضاً.. في بلدان أُخرى تَسَرَبَلتْ مثل سوريّتي بالحزن.. بالحرب.. بالموت.. بالجوع.. بالعطش.. بالوباء.. بالجهل.. منذ أعوامٍ طالتْ وطالتْ وطالتْ. إنّهم أُناسُ أُحبُّهم في لبنان.. في فلسطين.. في العراق.. في اليمن.. في ليبيا.. في أفغانستان.. في السودان.. في مالي.. في جمهورية افريقيا الوسطى.
إنّهم أُناسُ أراهم أمامي الآن.. في نفس المكان. هكذا غدتِ اللوحةُ في بُعدِها الرابع.. حافلةً بعنصرَي الزمان والمكان!
وأنا أنظرُ مليّاً في عمق اللوحة، ضممْتُ إلى صدري بحنانٍ وهَلَع طفلاً صغيراً يبكي على أمّه المفقودة منذ عامين، ثمّ أمسكتُ بيده الباردة علّها تدفأ قليلاً في راحةِ يدي. مسحْتُ بمنديلٍ في جَيبي الأصابعَ الموحلةَ لطفلةٍ تجلسُ على قارعة الطريق، وناوَلْتُها رغيفَ خبزٍ مقمَّر لم تأكلْ مثلَه منذ أسبوع. حَمَلْتُ سلّةً قصبيةً مليئةً بالهندباء مِن يَدِ سيّدةٍ طاعنةٍ في السِّنّ انحنى ظهرُها؛ وكانت تحلم ببيعها في سوقِ مدينةٍ بعيدة نَسيَ سُكّانُها طَعمَ أغلب الفواكه والخضار بعد أن أفقرَتْهُم سنواتُ الحرب المريرة. رأيتُ رجلاً يمسكُ بزجاجةِ دواءٍ فارغة وهو يبكي.. يبكي. سألتْني امرأةٌ مكسورةُ النظرات أن أُعطيَها بعضَ النقود كي تشتري لرضيعها علبةَ حليب.
أَصابَني دُوارٌ مفاجئ، وجَفّ حلقي.. فتناولتُ زجاجةَ الماء قربي وشربْتُها كلُّها دفعةً واحدة.
تعذّرَ عليَّ أن أَفهَمَ ما يقولُه مذيعُ نشرةِ الأخبار عبر التلفزيون. كان يتحدّثُ عن (اللاجئين) الأفغان الذين (احتضَنَتْهم) بلدان العالم الغربيّ. ثمّ راح يتحدّث عن (منظَّمات حقوق الإنسان) فيما يتعلّق ب (النساء والأطفال) الباقين في أفغانستان.
رَكَّزْتُ مجدَّداً في اللوحة التي رَسَمَها الفنّان في 2003. رأيتُ كلَّ الشعارات التي سمعْناها منذ 2010 وحتى اليوم: ماأسمَوه ب (الربيع العربيّ) و(الشرق الأوسط الجديد) و(صفقة القرن) و (الديمقراطيّة) و(الحرّيّة) و(داعش). يا لَعَظَمة رؤى وحدس الفنّان! رأيتُني أكتبُ كلَّ تلك الشعارات المفبركة الجوفاء بدموعي على الأرض وسط الأُناس في اللوحة. نظَرتُ إلى يسوع المسيح بعينيَّ الحزينتين وسألْتُهُ: “هل سيغفر لهم أَبَتُك؟ فكُلُّهم.. كُلُّهم.. يَعرفون ماذا بوطني يَفعلون.. بسوريّتي الحبيبة المصلوبة معك وفيك منذ أكثر مِن عقدٍ من الزمان. كُلُّهم.. كُلُّهم.. يا يسوع.. يعرفون ماذا بسوريّتي وبكلّ الأوطان المنكوبة الأُخرى التي رأيتُها في هذه اللوحة.. بكلّ تلك الأوطان العظيمة والنادرة والغالية.. التي دَمَّروها وشتّتوا وعذّبوا أبناءها.. يفعلون!”
**(أكاديميّة سوريّة مقيمة في لندن)ِ