الأَسْود يضيء ثلاثية الفنان السوري بطرس المعري
لوحات تحيي ذكرى جبور الدويهي بتحويل روايته "سم في الهواء" إلى نص بصري.
اختار الفنان التشكيلي السوري بطرس المعري أن يحول رواية الراحل جبور الدويهي “سم في الهواء” إلى معرض فني يستعرض أمام المتلقي نصا بصريا ثريا، كثراء النص الأدبي، يركز على الموت بصفته ذا حضور كبير وطاغ على الحياة في الدول العربية التي تتسم في أغلبها بالاضطرابات والحروب، وهو هنا موت يحضر بالكثير من السخرية والرمزية التي تضفي عليه جمالية بصرية غير معهودة.
افتتحت صالة “كاف” في بيروت معرضا للفنان السوري بطرس المعري تحت عنوان “سم في الهواء: تحية إلى جبور الدويهي” في التاسع من ديسمبر الجاري ويستمر حتى الثامن عشر من يناير القادم. ويذكر أن الروائي اللبناني جبور الدويهي لُقب بـ”روائي الحياة اللبنانية” وكانت آخر رواية له قبل وفاته تحمل عنوان “سم في الهواء” واعتبرت كسيرته الشخصية.
هنا يجب أن نذكر وإن باقتضاب شديد أن الفنان جعل من البيئة الشامية ومن التراث الشعبي وعلاقته بالموروث المحكي وأبطاله منبعا لأعماله الفنية. وقد تأثر لاسيما في بداية شهرته الفنية بالرسام الشعبي أبوصبحي التيناوي والرسام برهان كركوتلي وطور عمله الفني ناسجا إياه بتجاربه الشخصية وأفكاره السياسية التي لا تخلو من السخرية. فأصبح مثالا للفنان المشرقي الذي من ناحية لم يتخل عن بيئته الأصلية رغم دراسته وعيشه في الغرب، ومن ناحية أخرى أقام نصا معاصرا لصيقا بمخزونه العاطفي الذي لاقى ومازال يلاقي صدى عميقا في وجدان الكثير من أهل المنطقة ومتاعبهم.
ويضم معرض “سمّ في الهواء” للفنان بطرس المعري، الذي يحلو لنا أن نسميه “الفنان الزئبقي” نظرا إلى صفة النزق التي تتسم به معظم أعماله السابقة والجديدة، مجموعة من اللوحات التي تتخطى 30 عملا جاءت بمختلف الأحجام وبرزت منها ثلاثُ ثلاثيات كبيرة مشغولة بمادة الأكريليك على القماش عنونها الفنان بـ”سوريا والحرب” و”العشاء الأخير”، و”سمٌّ في الهواء”. أما باقي اللوحات فجاءت على هامش الثلاثيات، منها مُعلقات تدور في فلك الثلاثيات ومواضيعها، ومنها قائمة بحد ذاتها ومنجزة باختزال تشكيلي كبير يخفف وطأة الجوّ العام المسيطر على باقي جوانب المعرض.
الرواية وشخوصها نص بصري ثري ومعب
في البداية لنتأمل في كلمات كهذه: ثمة لحن في الهواء، لكن بالكاد يُسمع. هناك عطر في الهواء لفح ثم عبر. ثمة رطوبة في الهواء ربما تنذر بالمطر. صور ناصعة، تومض للحظات لتنطفئ، أما “السمّ في الهواء” فلا هو في رواية الأديب الراحل جبور الدويهي ولا في لوحات الفنان بطرس المعري، نتف صور عن احتمال أو حلول وقتي إلى أجل مُسمى.
وتكاد التحية، التي يقدمها الفنان إلى ذكرى الأديب الكبير متقمصا عنوان روايته الأخيرة التي كتبها قبل أن يرحل عن هذه الدنيا بعد صراع طويل مع المرض، تكون تجسيدا لحلول الموت وترسخه في العيش، لاسيما عيش أهل هذه المنطقة العربية من العالم. أما كيف تتجسد هذه الفكرة بصريا في أعمال الفنان فنشير إلى أن كل من تابع الفنان السوري بطرس المعري يعرف تماما أن للون الأسود حضورا كبيرا في أعماله.
غير أن أول ما يلفت النظر في معرضه "سم في الهواء" هو أن الأسود في لوحاته لم يحضر كلون، بل كمادة خانقة ومكثفة "تعيش" فيها عناصر لوحاته غير مُكترثة بمحيطها وبما يحدث لها؛ غير مكترثة لأنها على الأرجح اعتادت على العيش في كنفها أو لأنها تدرك ضمنا أنها إذا بالغت في تحرّكها ورفض وجودها على هذا النحو لن يؤدي ذلك إلا إلى اختناق أكبر تماما كما يحصل لمن يسقط في الرمال المتحركة وحولها.
أما النبرة السريالية، التي يستخدمها الفنان غالبا في لوحاته وخاصة في لوحاته الحالية، فتبدو ليس فقط كصفة جمالية بل كنوع من التحايل على الواقع الراسخ المُشبع بسمّ لا يقتل، ولكن أيضا لا يسمح بالحياة بكل معانيها. ومن بعض ما ظهر في معرضه كتجسيد على ما ذكرناه آنفا: جسد مفكك، ورأس استحال إبريقا، وإبريق نافث في غليون ودخان لغليون يبدو "أوكسيجينا" مُلطفا أو لنقل "معزيا" ذاته في حلكة الجو الكامد.
ويحيلنا تدخين هذا الغليون في هذا الجو القاتم إلى صورة متخايلة، عبثية، رمزية لرجل يدخن وهو وسط الحرائق. مصادر ضوء لا تضيء إلا ذاتها، وتبدو في لوحات وكأنها مواضع اخترقها الرصاص. مواضع رصاص، قد استحالت إلى هيئات غرافيكية متوازية وكأنها منحوتة في خشب، جسد أحد الثيران التي طالما رسمها الفنان للترميز إلى الحرب فأحالنا إلى العديد من لوحات الفنان بابلو بيكاسو لاسيما لوحة غيرنيكا الشهيرة.
ومما رأينا أيضا في معرض الفنان بطرس المعري انقشاع لا يتنفس الصعداء، بل يزيد المشهد درامية. ونذكر هنا تحديدا اللوحة التي ربما هي الأبلغ في تعبيرها حيث في طرفها الأقصى شمالا تنقشع زرقة باهتة يبدو وكأن الهدف الحصري من وجودها التأكيد على خاصية السم اللزجة وليست الأثيرية في الهواء. سم ليس بخدعة فنية أو تعبير مجازي ولا “احتمال أو حضور وقتي لأجل مسمى” كما ذكرنا آنفا.
كما رأينا في المعرض وجها مطاولا اعتدناه في لوحاته ورسوماته السابقة ساخرا من ذاته ومن الآخرين وربما أيضا لا مباليا غير أنه الآن في وسط هذا “التفحّم” الوجودي هو القابع بخنوع في قلب السخرية. وجوه تتنفس السم بوصفه مخدرا تزيغ منه العيون وتتوسع لكن فقط ليتشتت تركيز أصحابها. والسم في لوحات الفنان أنواع؛ فهو في لوحات أخرى حاضر في علاقة العناصر المرتجة مع بعضها البعض، كما في اللوحة التي تجتمع فيها دون تجانس عناصر كثيرة كالبرتقال ورأس الثور وركوة قهوة “تجالس” نقيضها: زجاجة عامرة بالنبيذ.
◙ الأشياء والعناصر ترتفع في الفضاء المخنوق لتؤكد أن "السم في الهواء" صار الهواء ولم يعد دخيلا ولا حتى غازيا
لوحة بعد أخرى سيلتقط مُشاهد لوحاته وتيرة انبثاق كل العناصر من مادة كثيفة وكأنها المادة الأولى التي تشكلت منها. سيرى كيف تظهر يد في المستوى الأول من اللوحة بأسود تدفعه عنها كي تقيم لذاتها حضورا مؤثرا في اللوحة. يد ملوحة أطراف أصابعها بسخام الشموع المنطفئة، لاسيما تلك الشموع التي نشعلها عادة لأجل خلق جوّ حميمي وليس لإضاءة العتمة.
لا غرابة في ذلك والعتمة لا بل “الأسود” هو الذي يضيء لوحات بطرس المعري ويُبصِرنا فيها معاني حاضرة ونعرفها جيدا في هذه المنطقة المنكوبة من العالم. وفي لوحات الفنان زخم برتقالي اللون “يخصّ” حبات برتقال لا تومض وتلتصق بالصحن الملتصق هو الآخر بالطاولة. حبات برتقال لا ترجو يدا تطالها وفما يذوقها لأنها مسمومة كباقي الطعام الشرق أوسطي الحاضر في اللوحات.
وترتفع الأشياء والعناصر في الفضاء المخنوق لتؤكد أن "السم في الهواء" صار الهواء ولم يعد دخيلا ولا حتى "غازيا". إنها الموائد المشرقية الملوثة التي كانت يوما ما مثالا للغذاء الصحي الذي افتخر به أجدادنا؛ أجداد السوريين واللبنانيين والفلسطينيين. يُذكر أن الفنان السوري بطرس المعري متخرج في كلية الفنون الجميلة عام 1991، أقام العديد من المعارض الفردية والمشتركة في دمشق وباريس والإسكندرية وبيروت وهامبورغ. وهو حاصل على شهادة الدكتوراه في الأنثروبولوجيا الاجتماعية من إحدى جامعات باريس.
لوحات تحيي ذكرى جبور الدويهي بتحويل روايته "سم في الهواء" إلى نص بصري.
اختار الفنان التشكيلي السوري بطرس المعري أن يحول رواية الراحل جبور الدويهي “سم في الهواء” إلى معرض فني يستعرض أمام المتلقي نصا بصريا ثريا، كثراء النص الأدبي، يركز على الموت بصفته ذا حضور كبير وطاغ على الحياة في الدول العربية التي تتسم في أغلبها بالاضطرابات والحروب، وهو هنا موت يحضر بالكثير من السخرية والرمزية التي تضفي عليه جمالية بصرية غير معهودة.
افتتحت صالة “كاف” في بيروت معرضا للفنان السوري بطرس المعري تحت عنوان “سم في الهواء: تحية إلى جبور الدويهي” في التاسع من ديسمبر الجاري ويستمر حتى الثامن عشر من يناير القادم. ويذكر أن الروائي اللبناني جبور الدويهي لُقب بـ”روائي الحياة اللبنانية” وكانت آخر رواية له قبل وفاته تحمل عنوان “سم في الهواء” واعتبرت كسيرته الشخصية.
هنا يجب أن نذكر وإن باقتضاب شديد أن الفنان جعل من البيئة الشامية ومن التراث الشعبي وعلاقته بالموروث المحكي وأبطاله منبعا لأعماله الفنية. وقد تأثر لاسيما في بداية شهرته الفنية بالرسام الشعبي أبوصبحي التيناوي والرسام برهان كركوتلي وطور عمله الفني ناسجا إياه بتجاربه الشخصية وأفكاره السياسية التي لا تخلو من السخرية. فأصبح مثالا للفنان المشرقي الذي من ناحية لم يتخل عن بيئته الأصلية رغم دراسته وعيشه في الغرب، ومن ناحية أخرى أقام نصا معاصرا لصيقا بمخزونه العاطفي الذي لاقى ومازال يلاقي صدى عميقا في وجدان الكثير من أهل المنطقة ومتاعبهم.
ويضم معرض “سمّ في الهواء” للفنان بطرس المعري، الذي يحلو لنا أن نسميه “الفنان الزئبقي” نظرا إلى صفة النزق التي تتسم به معظم أعماله السابقة والجديدة، مجموعة من اللوحات التي تتخطى 30 عملا جاءت بمختلف الأحجام وبرزت منها ثلاثُ ثلاثيات كبيرة مشغولة بمادة الأكريليك على القماش عنونها الفنان بـ”سوريا والحرب” و”العشاء الأخير”، و”سمٌّ في الهواء”. أما باقي اللوحات فجاءت على هامش الثلاثيات، منها مُعلقات تدور في فلك الثلاثيات ومواضيعها، ومنها قائمة بحد ذاتها ومنجزة باختزال تشكيلي كبير يخفف وطأة الجوّ العام المسيطر على باقي جوانب المعرض.
الرواية وشخوصها نص بصري ثري ومعب
في البداية لنتأمل في كلمات كهذه: ثمة لحن في الهواء، لكن بالكاد يُسمع. هناك عطر في الهواء لفح ثم عبر. ثمة رطوبة في الهواء ربما تنذر بالمطر. صور ناصعة، تومض للحظات لتنطفئ، أما “السمّ في الهواء” فلا هو في رواية الأديب الراحل جبور الدويهي ولا في لوحات الفنان بطرس المعري، نتف صور عن احتمال أو حلول وقتي إلى أجل مُسمى.
وتكاد التحية، التي يقدمها الفنان إلى ذكرى الأديب الكبير متقمصا عنوان روايته الأخيرة التي كتبها قبل أن يرحل عن هذه الدنيا بعد صراع طويل مع المرض، تكون تجسيدا لحلول الموت وترسخه في العيش، لاسيما عيش أهل هذه المنطقة العربية من العالم. أما كيف تتجسد هذه الفكرة بصريا في أعمال الفنان فنشير إلى أن كل من تابع الفنان السوري بطرس المعري يعرف تماما أن للون الأسود حضورا كبيرا في أعماله.
غير أن أول ما يلفت النظر في معرضه "سم في الهواء" هو أن الأسود في لوحاته لم يحضر كلون، بل كمادة خانقة ومكثفة "تعيش" فيها عناصر لوحاته غير مُكترثة بمحيطها وبما يحدث لها؛ غير مكترثة لأنها على الأرجح اعتادت على العيش في كنفها أو لأنها تدرك ضمنا أنها إذا بالغت في تحرّكها ورفض وجودها على هذا النحو لن يؤدي ذلك إلا إلى اختناق أكبر تماما كما يحصل لمن يسقط في الرمال المتحركة وحولها.
أما النبرة السريالية، التي يستخدمها الفنان غالبا في لوحاته وخاصة في لوحاته الحالية، فتبدو ليس فقط كصفة جمالية بل كنوع من التحايل على الواقع الراسخ المُشبع بسمّ لا يقتل، ولكن أيضا لا يسمح بالحياة بكل معانيها. ومن بعض ما ظهر في معرضه كتجسيد على ما ذكرناه آنفا: جسد مفكك، ورأس استحال إبريقا، وإبريق نافث في غليون ودخان لغليون يبدو "أوكسيجينا" مُلطفا أو لنقل "معزيا" ذاته في حلكة الجو الكامد.
ويحيلنا تدخين هذا الغليون في هذا الجو القاتم إلى صورة متخايلة، عبثية، رمزية لرجل يدخن وهو وسط الحرائق. مصادر ضوء لا تضيء إلا ذاتها، وتبدو في لوحات وكأنها مواضع اخترقها الرصاص. مواضع رصاص، قد استحالت إلى هيئات غرافيكية متوازية وكأنها منحوتة في خشب، جسد أحد الثيران التي طالما رسمها الفنان للترميز إلى الحرب فأحالنا إلى العديد من لوحات الفنان بابلو بيكاسو لاسيما لوحة غيرنيكا الشهيرة.
ومما رأينا أيضا في معرض الفنان بطرس المعري انقشاع لا يتنفس الصعداء، بل يزيد المشهد درامية. ونذكر هنا تحديدا اللوحة التي ربما هي الأبلغ في تعبيرها حيث في طرفها الأقصى شمالا تنقشع زرقة باهتة يبدو وكأن الهدف الحصري من وجودها التأكيد على خاصية السم اللزجة وليست الأثيرية في الهواء. سم ليس بخدعة فنية أو تعبير مجازي ولا “احتمال أو حضور وقتي لأجل مسمى” كما ذكرنا آنفا.
كما رأينا في المعرض وجها مطاولا اعتدناه في لوحاته ورسوماته السابقة ساخرا من ذاته ومن الآخرين وربما أيضا لا مباليا غير أنه الآن في وسط هذا “التفحّم” الوجودي هو القابع بخنوع في قلب السخرية. وجوه تتنفس السم بوصفه مخدرا تزيغ منه العيون وتتوسع لكن فقط ليتشتت تركيز أصحابها. والسم في لوحات الفنان أنواع؛ فهو في لوحات أخرى حاضر في علاقة العناصر المرتجة مع بعضها البعض، كما في اللوحة التي تجتمع فيها دون تجانس عناصر كثيرة كالبرتقال ورأس الثور وركوة قهوة “تجالس” نقيضها: زجاجة عامرة بالنبيذ.
◙ الأشياء والعناصر ترتفع في الفضاء المخنوق لتؤكد أن "السم في الهواء" صار الهواء ولم يعد دخيلا ولا حتى غازيا
لوحة بعد أخرى سيلتقط مُشاهد لوحاته وتيرة انبثاق كل العناصر من مادة كثيفة وكأنها المادة الأولى التي تشكلت منها. سيرى كيف تظهر يد في المستوى الأول من اللوحة بأسود تدفعه عنها كي تقيم لذاتها حضورا مؤثرا في اللوحة. يد ملوحة أطراف أصابعها بسخام الشموع المنطفئة، لاسيما تلك الشموع التي نشعلها عادة لأجل خلق جوّ حميمي وليس لإضاءة العتمة.
لا غرابة في ذلك والعتمة لا بل “الأسود” هو الذي يضيء لوحات بطرس المعري ويُبصِرنا فيها معاني حاضرة ونعرفها جيدا في هذه المنطقة المنكوبة من العالم. وفي لوحات الفنان زخم برتقالي اللون “يخصّ” حبات برتقال لا تومض وتلتصق بالصحن الملتصق هو الآخر بالطاولة. حبات برتقال لا ترجو يدا تطالها وفما يذوقها لأنها مسمومة كباقي الطعام الشرق أوسطي الحاضر في اللوحات.
وترتفع الأشياء والعناصر في الفضاء المخنوق لتؤكد أن "السم في الهواء" صار الهواء ولم يعد دخيلا ولا حتى "غازيا". إنها الموائد المشرقية الملوثة التي كانت يوما ما مثالا للغذاء الصحي الذي افتخر به أجدادنا؛ أجداد السوريين واللبنانيين والفلسطينيين. يُذكر أن الفنان السوري بطرس المعري متخرج في كلية الفنون الجميلة عام 1991، أقام العديد من المعارض الفردية والمشتركة في دمشق وباريس والإسكندرية وبيروت وهامبورغ. وهو حاصل على شهادة الدكتوراه في الأنثروبولوجيا الاجتماعية من إحدى جامعات باريس.