فن الشخبطة: هل يُمكن أن تُصبحَ رسوماتك العشوائية فنًا يفضح مكوناتك النفسية؟
رُواء سيد
18/09/2021
”وحده الفنّ قد ينجحُ في اعتقالِ لحظةٍ هاربة ما دون أن يقتلها أو يموت بموتِها“ – غادة السمّان
هل داهمتَ نفسَك من قبل وأنتَ في منتصفِ اجتماعٍ ما من اجتماعاتِ العمل الطويلة أو أثناء مُكالمةٍ هاتفيّة قد استغرقت بالفعل ساعتيْن ولم تنتهِ بعد ووجدتَ يدك تعبثُ بأي قلمٍ وورقةٍ في الجِوار، وتشرعُ في رسمِ آلافِ الرسوماتِ الصغيرة؟ ولكن، هل تأملتَ يومًا رسوماتك المتناثرة هُنا وهُناك تلك؟ هل تساءلت عن المعاني الكامنة وراء كل شخبطةٍ صغيرة؟ تلك الطائرة التي تستقرُّ على حافة دفترِكَ القديم أو تلك الوردة على هامشِ ورقةٍ ما مهترئةً منذ زمنٍ بعيد. وهل تُخفي تلك الخربشات وراءها فنانًا حقًا؟
الشخبطة: فنُّ الأصابع العبثية
عندما تختمرُ فكرةٌ ما في رأسِكَ أو تشعرُ برغبةٍ مُلحّة في الهروبِ إلى عالمٍ آخر ولو لبضعةِ دقائق؛ ستُرحبّ بك الشخبطة. وعلى الرغمِ من أنّ الخربشاتِ قد تبدو بلا معنى إلا أنّ الخبراء قد اكتشفوا أنها تسمحُ لنا بالتعبير عن أنفسِنا دون ضوابطَ أو قُيود، إذ تُعتبرُ الورقةُ الفارِغة بمثابةِ منطقةٍ يشعرُ فيها المرءُ أنه حرٌ؛ غير مُراقَب، وغير مُجبَر على تبرير أيًا من أفعالِه، لأنه وببساطة يتركَ ليديه وعقلِه اللاواعي السُلطةَ الكاملة، فإذ به يُفاجأ في نهاية الاجتماعِ أو المكالمة بأنه أمام لوحة فنيّة لا ورقة!
يقولُ صاحبُ هذه التُحفة الفنيّة الصغيرة:
”لقد بدأت هذه الشخبطة صغيرة وبسيطة، ونمَت شيئًا فشيئًا مع كل مُكالمةِ عميل“.
وقد ظلّ المعنى وراء كل تلك الشخبطاتِ المختلفة لأناسٍ مختلفين تُمثّل لغزًا للإنسان، فهذه الرسوم والرموز العبثية تُتيح لمحاتٍ نادرة من حياةِ وانشغالات وميولِ أصحابِها. وهذا بالتحديدِ ما دفع تاجرَ القطعِ الأثريّة ديفيد شولسون إلى جمعِ خربشاتِ الكثيرِ من المشاهير، لأنه كان يؤمنُ أنها مثلَ النافذة المطلّة على روحِ أصحابِها، ومن بينِ هذه الخربشاتِ واحدةً تعود للملكة فيكتوريا؛ وهي ابنة ١٦ عامًا.
وتقولُ الباحثة سوزان ألدريج: ”عندما تشعرُ بالتململِ في اجتماعٍ طويل، سوفَ تجدُ نفسَك تلقائيًا تُمسك بقلمِكَ وتنهمك في إنشاءِ مثلثات، أو ربما بضعةِ أسهم، وهو ما يُطلق عليه الأطبّاء اسمَ خربشة/ Doodles وهي عمليةٌ فرديّةٌ تمامًا وأقلّ وعيًا من الكتابة“.
الشخبطة والتركيز، أعداء أم أصدقاء؟
في دراسةٍ قامت بها عالِمة النفس وندي فان ديك من كلية دوردت بولاية إنديانا الأمريكيّة، شاركَ فيها مجموعتان من الطلاب، حيثُ طلبت فيها من المجموعة الأولى أن يُطلقوا لأصابعهم العنان لتفعل ما تشاء على سطحِ الورقة البيضاء التي تسكنُ أمامهم؛ في حين طلبت من المجموعة الأخرى أن يولّوا كل تركيزِهم نحوَها وأن يُنصتوا للمُحاضرة جيدًا.
وكانت النتيجة صادمة لكافةِ الأطراف، فقد وجدت وندي أنّ من قاموا بالانهماكِ في الشخبطة قد استطاعوا أن يتذكروا أدقّ تفاصيل المُحاضرة بينما استطاعَت المجموعة الأخرى أن تتذكر تعابير وجهها وهي تُلقي المُحاضرة أكثر من تذكرّهم للمعلومات الرئيسية التي احتوتها المُحاضرة.
وهُنا، بدأ الخُبراء في تحويل تفكيرهم نحو أنّ العلاقة بين الشخبطة والتركيزِ علاقة صداقة لا عداوة. حيثُ أنّ هذه الدراسة وغيرها من الدراسات استطاعت إثبات أنّ الشخبطة تُساعدنا بشكلٍ أو بآخر على رؤيةِ الصورة الكُبرى مما يُساعد على تكوين رؤيةٍ أوضح،لذا تذكر الطلاب في المجموعة الأولى المواضيع المحوريّة التي تمّ طرحِها أكثر من غيرهم.
وتبعًا للدكتور روبرت هاريسون من جامعة بوسطن، إنّ الشخبطة هي شكلٌ من أشكالِ أحلامِ اليقظة، فنحنُ بطبيعتنا البشريّة ننخرطُ داخلَ ثلاثةِ أنواع من تلك الأحلام:
- تحقيقُ الأمنيّات.
- القلق.
- التخطيط للمُستقبل.
ويعتبر هاريسون الشخبطة أداةً تربطُ بين ثلاثتهم في آنٍ واحد، كما أنها تُساعدنا على توطيدِ علاقاتنا بخيالِنا أكثر، ولكنها في نفسِ الوقتِ لا تنفكّ أن تُرينا واقعنا بصورةٍ أكثر وضوحًا وشفافية.
اليوم العالميّ للخربشة
أن تمتلكَ دائمًا آذانًا صاغية؛ عبارةٌ قد تُشكّل تحديًا كبيرًا بالنسبة للكثيرِ من الناس، خاصّةً أولئك الذين تُلّح عليهم أيديهم كي تُصبح جزءًا من اللحظة، فلا أحد مُحصّنٌ أبدًا من أن يجدَ نفسَه فجأة داخلَ كومةٍ من الأفكارِ التي قفزت لتوّها من فوهةِ عقلِه مُباشرةً إلى الورق، ولا أحد يُمكنه منع فكرةٍ إذا قررت التمردّ والخروجِ عن طوعِها؛ حتى رؤساء الدول. فقد عُثر على مئات الخربشاتِ التي تعودُ لرئيس أمريكا السابق جون كينيدي ومن بينِها خربشةٌ لسفينةٍ ما أو ربما باخرة؛ والتي سنتعرفُ معًا على معناها بعد قليل.
ويُوافقُ يومُنا هذا -السابع عشر من شهر سبتمبر- اليوم الوطنيّ للخربشة، والذي أقيمَ في إنجلترا أول مرة عام 2004 كحملةٍ لجمعِ التبرعّات وكمسابقة نظمتها جمعية مرضى الصرع/ Epilepsy Action. ويدعم هذا الحدث أكثر من 500 من المشاهير، من بينِهم الممثلة البريطانيّة Alice Eve ورسّام الكاريكاتير الشهير Nick Park الذي اشتهر بـ“Shaun The sheep“.
وحتى الفنّان الأسبانيّ بابلو بيكاسو لم يسلَم من الوقوعِ في فخّ الخربشة، فقد اعتادَ بيكاسو الرسمَ فوق منشوراتِ الصحف بقلمِه، فلم يكن يحجمُه عن الخربشة فوق أي شيء يجدُه أمامَه. كان ينخرطُ في الشخبطة فوق النصوصِ أو حتى الرسوم المتواجدة بالفعل حتى يُصبح من العسير على أحدِهم أن يميّزَ بين الأصليّ والدخيل.
*لوحة نساء في غرفة الزينة لبيكاسو*
فبالنسبة لكثيرٍ من الفنانين، تترادفُ كلمتيْ الفوضى والإبداع؛ ولهذا كانت الشخبطة هي الطريقةُ المُثلى لتكونَ حجرَ الأثاثِ لكثيرٍ من الأعمالِ الفنيّة. فلم يكن بيكاسو الوحيد الذي وجد في الشخبطةِ فنًا، فقد سبقه دافنشي، حيثُ ظهرت مُعظم أعمال الفنّان الإيطالي الراحل صاحب ”الموناليزا“ على شكلِ خربشاتٍ أوليّة ثم قام دافنشي بتطويرِها حتى وصلت إلى شكلِها النهائي الذي ما زال يُبهرنا حتى اليوم.
ماذا تقول خربشاتُك عنكَ؟
والآن، وبعدما علمنا أن الشخبطة حقًا تُصنّف كنوعٍ من أنواعِ الفنون، فماذا تقول خربشاتُك أنتَ عنكَ؟
أظهرت دراسة أجراها فريقٌ طبيّ بجامعة بوسطن أنّ الرسوم العشوائية التي يدونها الشخص بقلمِه في كثيرٍ من الأحيانِ قد تكشفُ النقاب عن الكثير من أسرارِ شخصيته. وكان عالمُ النفسِ السويسريّ الشهير كارل يونغ هو أول من تنبه إلى أهمية الخربشات في تشخيصِ الأعراض النفسية المختلفة، مؤكدًا أن الطريقة التي تظهر بها الرموز في الخربشة إنما هي تعبيرٌ صريح عن كل ما يختلج داخل النفسِ البشرية.
والآن، إليكَ أشهر ٣ خربشات والمعنى وراء كل منهما وفقاً للأخصائيين النفسيين
الطائرات والبواخر
تُظهر وسائل النقل بشكل عام ميلًا واضحًا في الرغبة في الهروبِ من الواقع والتنصّل من المسؤوليات.
المثلثات
مؤشرٌ قويّ على التفكير المنطقيّ السليم، والقُدرة على تجاوزِ المشكلات وحلّها.
اللفظ المسيطر
عندما يكرر أحدهم كتابة لفظٍ معين لأكثر من مرة، فتلك دلالةٌ مؤكدة على الوسواس القهري، حتى ولو كان هذا اللفظُ لا يعني شيئًا منطقيًا.
كما تؤكد ألدريج أنّ لموقعَ الخربشة من الصفحة أهميةٌ قُصوى لدى المُعالجين النفسيين، فإذا كانت في الجهة اليُسرى من الصفحة فذلك يشير إلى أن صاحبها ما زال محاصرًا في أحداث الماضي، أما إذا كانت في الجزء الأيمن من الصفحة فتعني أن صاحبها شخصٌ اجتماعيّ، وإذا كانت في وسطِ الصفحة فتُظهر أن صاحبها يريد أن يصبحَ موضعَ اهتمام الآخرين.
وأخيرًا، هناك علاقةٌ وطيدة بين فنّ الشخبطة وعلم الطبّ الشرعيّ، حيث يستعين الأطباء بعلماء الخطوط لتفسير غوامض بعض الجرائم وخاصة فيما يتعلقُ بالدافعِ وراء ارتكاب المجرم لجريمته، والذي قد يُكشَف بورقةٍ صغيرة قد تركها المجرم وراءَه. فغالبًا ما يعتبر المحققون العثورَ على ورقةٍ في مكان الجريمة بمثابةِ كنزٍ ثمين!