كان الأمر وكانه رسالة من عالم آخر، عندما أُرسلت دعوة الى الفلكي الشاب لمغادرة بروكلين وزيارة البحيرات والمضايق شمال نيويورك. يتذكر عالم الفلك نيل ديجراس تايسون هذه الدعوة من عام 1975، فخلال حفل أقيم مؤخرا بمكتبة الكونجرس لتخليد ذكرى ساجان، قال تايسون “ظهر خطاب في صندوق البريد الخاص بي، كان هذا الخطاب من كارل ساجان، لم أصدق نفسي، فالمشاهير لا يراسلون أناسا غرباء بتلك البساطة”
ولكن الدعوة كانت حقيقية. فرَدّاً على طلبه الالتحاق بجامعة كورنيل، التقى تايسون الأستاذ الشهير في زيارة للكلية بعدها بقليل. وعرض ساجان حينها على الفلكي الشاب ذي السبعة عشر عامًا أن يقضي الليلة في بيته إذا تسببت عاصفة ثلجية في تعطيل الحافلة المتجهة به إلى بيته.
في النهاية التحق تايسون بجامعة هارفارد بدلا من كورنيل، ولكنه الآن هو مضيف النسخة الجديدة من برنامج الكون، سلسلة مكونة من 13 حلقة مستوحاة من سلسلة ساجان الأصلية والتي كان لها الفضل في بزوغ نجم ساجان. الدعوة الأصلية، والزيارة والإتصال كانت جميعها انعكاساً نموذجياً لحياة كارل ساجان.
حياته في الكون:
يقول عنه ويليام باوندستون، مؤلف كتاب (كارل ساجان، حياة في الكون) “لقد عمل بجهد كبير لأجل طلابه، كما ساعدهم في الحصول على وظائف، واهتم بتعليمهم، والكثير منهم يشغلون مناصب رفيعة حالياً، اذا تحدثت مع الاشخاص الذين استمدوا منه الالهام وعرفوه، فستجدهم جميعا يكنون له مشاعر جياشة”.
يقول خبير الصحافة العلمية دكلان فاهي من الجامعة الأمريكية في واشنطن العاصمة “لقد كان ساجان بكل تأكيد أكثر علماء أمريكا شهرة خلال حقبة الثمانينيات والتسعينيات، فبعد أم وصل عدد مشاهدي برنامج الكون الى حوالي نصف بليون مشاهد في 60 دولة، وصلت شهرته الى مستوى أخر، وقد كان الكتاب المبني على السلسلة على قائمة أعلى الكتب مبيعا لمدة 70 أسبوعا”.
ولكن من كان كارل ساجان؟ كعالم، وكاتب، وأستاذ، ومتشكك، ومفكر حر، فقد كان أكثر بكثير من مجرد مضيف لسلسلة علمية تلفزيونية.
يقول الباحث في ناسا ديفيد موريسون، ومدير مركز كارل ساجان لدراسة الحياة في الكون الذي يعد جزءا من معهد البحث عن الحياة خارج الأرض SETI أن العدد الكبير من الأشياء التي سعى اليها ساجان عب دورا هاما في جعله عظيماً. فيتعجب موريسون فعلا من مدى الانجازات التي حققها ساجان اذا جمعناه بانكاره لذاته.
ساجان عالمًا:
يقول باوندستون “لقد كان يعمل بجد حتى 18 ساعة في اليوم، لقد كان لديه اقبال هائل على عمله، لقد كان لائقا على التلفزيون بكل تأكيد، وبدا هادئا وطبيعيا مرتديا الجينز بينما لم يكن العلماء الآخرون كذلك، ولكن كان هناك المزيد من الأمور المتعلقة به”. كعالم، وضع ساجان علامة في علم الكواكب في أوائل السبعينات كأستاذ شاب في جامعة هارفارد، “حينما كان علم الكواكب في حالة من الركود” يقول باوندستون.
يقول موريسون أن ساجان تنبأ بأن تأثير غازات الدفيئة هو المتسبب في جعل الغلاف الجوي لكوكب الزهرة ساخنا بما يكفي لاذابة الرصاص، في الوقت الذي كان يتوقع فيه بعض العلماء أن سحبه الكثيفة تخفي محيطات من المياه أسفلها. تمكن ساجان أيضا من تحديد المناطق الغامقة التي كانت تظهر في صور كوكب المريخ على أنها مرتفعات، بينما المناطق الأفتح في اللون عرفها على أنها سهول صحراوية مميزة بالعواصف الترابية، هذه العواصف تسببت لاحقا بالتشويش على مهمة “فايكينج” التي اطلقتها ناسا لاستكشاف المريخ في السبعينيات.
يقول موريسون أيضا: “لقد كان حقا من العلماء الكبار في استكشاف الصورة الشاملة، وكان ماهرا في الحسابات السريعة، كان قادرا بحق على رؤية المقدمات المنطقية الأساسية للعلم والملاحظة”.
كان ساجان أيضا عضوا في الفريق العلمي المسئول عن رحلتي (فوياجر) التين انطلقتا ف 1977 لاستكشاف المشتري، زحل، أورانوس، ونبتون. يقول موريسون والذي كان أيضا واحدا من طلابه “كان هذا قبل أن يصل لقمة شهرته، لم يكن نجما حينها، كان فقط واحدا منا”…
ساجان الشخصية المشهورة:
قاد ساجان الفريق الذي صنع “التسجيلات الذهبية” الملحقة بمركبتي فوياجر. التسجيلات احتوت على مقتطفات من كل شيء من باخ وحتى “جوني بي جود” بالإضافة إلى تحيات وأصوات طبيعية من الأرض.
إلى حدٍ كبير، استفاد ساجان من ملئ مشكاة علمية هامة وهي علم الكواكب، حيث انفجر بالمعرفة كنتيجة لسلسلة المسبارات الكوكبية التي أطلقتها ناسا لاستكشاف النظام الشمسي بدءًا من الستينيات. يقول باوندستون أن المراسلين كانوا ينجذبون إلى ساجان خلال تلك البعثات، فقد عرفوا أنه هو القادر على شرح الأمور. حيث انتهى الأمر به كضيف منتظم في برنامج “Tonight Show” حيث صار الضيف المفضل لجوني كارسون (كما هو الحال الآن لتايسون في برنامج Colbert Report).
بعد عرض برنامج “الكون” في 1980، تغيرت الأمور مع كارل، لقد صار يتلقى تهديدات بالقتل، حتى أنه صار ينتقل في ليموزين ويحافظ على جدول مواعيد صارم، ولكن الناس لا يتذكرون ذلك كما يقول موريسون.
ساجان المتشكك:
التهديدات بالقتل كانت ناتجة بصورة جزئية من عمل ساجان في مشروع “الكتاب الازرق blue book” في الدفاع الجوي الأمريكي والذي كان يقوم بالتحقيق في وجود الأطباق الطائرة في الخمسينيات والستينيات. حيث يقول باوندستون “لقد بدأ ساجان العمل بعقل منفتح، ولكنه توصل في النهاية لاستنتاج أنه لا يوجد دليل على زيارة الكائنات الفضائية للأرض”. على الرغم من ذلك فقد كان ساجان مؤيدا بقوة لاحتمال تواجد الحياة في أماكن أخرى من الكون.
كما خاض ساجان أيضا غمار النقاش في ظاهرة الإحترار العالمي، كرئيس لمجموعة بحثية في عام 1983 عن “الشتاء النووي”. النموذج المناخي الذي صنعته مجموعة البحث وجد أن درجات حرارة تحت الصفر كانت نتيجة حتمية عن سحب الغبار المشع الناتجة عن الحرب النووية بين القوى العظمى.
تسبب ذلك في اغضاب كل من هواة ظاهرة الأطباق الطائرة ومعارضي تقرير الشتاء النووي الداعين للحرب. يتذكر موريسون تلك الفترة قائلا أنهم اضطروا الى اخفاء رقم مكتبه في جامعة كورنيل كما أنه اضطر لاستخدام باب خلفي للذهاب الى عمله. كما زاد من مدى جدية هذه التهديدات انتشار ظاهرة ارسال المتفجرات للاساتذة عن طريق البريد.
“العلم ليس مجرد مجموعة من المعارف، بل هو طريقة في التفكير، طريقة لاستكشاف الكون بصورة متشككة مع الفهم العميق لقابلية البشر للوقوع في الخطأ”، قال ساجان هذه العبارة في مقابلته التلفزيونية الأخيرة عام 1996 مع تشارلي روز. وتوفي في نفس العام بعد صراع مع مرض السرطان.
لقد حرص ساجان على غرس قيمة التفكير المتشكك في كتابه “العالم المسكون بالشياطين: العلم كشمعة في الظلام” الصادر عام 1995، والذي سعى لشرح الأسلوب العلمي للقراء بصفة عامة، احتوى الكتاب أيضا على “عدة الكشف عن الهراء” للمتشككين. لم يكن ساجان متشككا بكل شيء فحسب، بل كان أيضاً مؤيداً لعشبة الماريجوانا، حيث ظهر بإسم “Mr.X”، مدخن ماريجوانا ناجح، في كتاب ألفه الأستاذ في جامعة هارفارد ليستر جرينسبون. كما أيّد استخدام الماريجوانا للأغراض الطبية خلال السنوات السابقة لوفاته.
ساجان المتحدث:
“قم بعمل شيء هادف…كان هذا محور حياته بأكملها” قالت هذه الكلمات آن درويان، زوجة ساجان الثالثة، متحدثة في حفل مكتبة الكونجرس، التي تمّ التبرع لها بأبحاث كارل ساجان. آن درويان كانت مشاركة في كتابة سلسلة الكون الأصلية بالتعاون مع زوجها، كما أنها حاليا جزء من فريق الإنتاج للسلسلة الجديدة مع نيل تايسون.
قام ساجان بكتابة 20 كتاب بالإضافة إلى مئات الأبحاث العلمية. على الرغم من ذلك فإن شهرته جلبت عليه انتقادات من علماء آخرين، بالإضافة للازدراء من الأكاديمية الوطنية للعلماء، حين تم ترشيحه لعضويتها ولكن لم يتم قبوله.
“هذه هي الطبيعة البشرية: الحسد والضغينة” كما يقول باوندستون. اليوم، يتم تذكر برنامج الكون لنشره لطريقة التفكير الكبيرة للفضاء بالإضافة إلى إلهام أجيال من العلماء الشباب. وذكرى ساجان كمدافع بارز عن العلم هي أعظم تركه للعالم.
يقول فاهي “يمكن رؤية تأثيره الآن في أنّ كل عالم بارز في الإعلام يستشهد به على أنه أعظم مصدر تأثير عليه، عندما تريد المنظمات العلمية زيادة الاهتمام العام بالعلم، فإن أول أفكارها هي أننا نحتاج المزيد من أمثال كارل ساجان.”
“لو كان موجوداً بيننا اليوم، لكان تحدث بكل قوة لصالح العلم بطريقته الفريدة، غير مهتم عن أي استخفاف أو تجاهل” يقول باوندستون. يكمل باوندستون قائلاً “لمدة مائة سنة على الأقل كان لدينا الكثير من العلماء المشاهير، ولكن ساجان كان أول من حظي بشخصية مناسبة لعصر التلفزيون، كان ذلك هو المكان حيث شعر حقا بالإنتماء.”
المصدر:.ibelieveinsci