"تحدي الآلهة"، رواية لكاتب لا يوجد... إذاً، من أين جاء "محمود حسين"؟
محمد يحيى
محمود حسين" تجربة فريدة على مستوى الكتابة العربية، فلا يوجد شخص حقيقي اسمه "محمود حسين"، فهو اسم مستعار لكاتبين مصريين هما "بهجت النادي" و"عادل رفعت" اللذين يكتبان بالفرنسية ويقيمان في باريس منذ ستينيات القرن الماضي.
أما سبب قيامهما بالنشر تحت اسم مستعار فهو الناشر الفرنسي لأول كتبهما الذي كتباه معاً ثم أخبرهما بأن وجود اسمين على الكتاب يقلل من إقبال القراء عليه وطلب منهما اختيار اسم واحد، فقررا اختيار اسم يبدو مصرياً عادياً فكان "محمود حسين"، وعند محاولتهما تغيير الأمر في الكتاب الثاني أخبرهما الناشر بأنهما قد عُرفا بهذا الاسم ولا يمكنهما تغييره، فأصبح "محمود حسين" هو المعبر عنهما.
"تحدي الآلهة" داخل معتقلات "عبد الناصر"
يبدو من الصعب تقبل فكرة اشتراك كاتبين في كتابة دراسة أو كتاب سياسي، ولكن الأغرب هو اشتراك كاتبين في كتابة رواية بما تحمله من مشاعر وشخصيات وحبكة وتتابع أحداث، وهذا ما نجح فيه محمود حسين في رواية "تحدي الآلهة" التي صدرت عام 2017 عن "دار الجديد" ، وترجمها من الفرنسية أحمد علي بدوي، ويشترك الكاتبان في مناقشة أفكار الرواية ثم المراجعة المتبادلة للكتابة وصولاً للشكل النهائي الذي يرضيان عنه.
وفي "تحدي الآلهة" يشبه الراوي تجربته بأوليس بطل الأسطورة اليونانية الذي استمر في تحدي آلهة اليونان، وبينما يسأل الراوي داخل المعتقل عن إصرار "أوليس" على العودة لوطنه وحبيبته بدلاً من الاستمتاع بحريته خارج وطنه، تكون إجابة الأستاذ الجامعي عليه أن "أوليس" لم يكن يبحث عن حبيبته ووطنه، بل كان يبحث عن حقيقته القصوى ومكانه في الكون بمقاومة لعنات الآلهة.
تتطرق الرواية لتجربة الاعتقال السياسي في عهد عبد الناصر وهو ما يتماس مع تجربة الكاتبين الحقيقية، إذ اعتُقلا عام 1959 ضمن موجة اعتقالات المنظمات اليسارية، وبعد خروجهما من المعتقل قررا السفر إلى باريس والاستقرار فيها.
تعتمد الرواية على سرد الراوي، الطالب في كلية الطب عن فترة الاعتقال متوازياً مع سرده للماضي منذ نشأته القروية، ثم انتقاله إلى المدينة وتفوقه الدراسي الذي أهله لكلية الطب واقتناعه بالأفكار الشيوعية وتعرفه بصديقه "أنور" وقصة حبه مع "نادية" زميلته في الكلية وصولاً لاعتقاله.
يرى الكاتبان في البرنامج التلفزيوني "فسحة فكر" أن الشيوعيين لم يشكلوا خطراً على نظام عبد الناصر لقلة عددهم وتأييد جزء منهم للنظام، ولكن اعتقالهم جاء كردّ فعل انتقامي من النظام الشيوعي في العراق الذي رفض الانضمام لمشروع الوحدة العربية بين مصر وسوريا في "الجمهورية العربية المتحدة" تحت قيادة عبد الناصر، فجاء انتقامه من التنظيمات الشيوعية المصرية.
تصور الرواية أجواء المعتقل من الداخل وفي نقاش بين عبد الله أحد أفراد "الهجانة" النوبيين الذين يتم تجنيدهم لقمع الشعب عند حدوث قلاقل أو شغب والمتعاطف معهم باعتبارهم مهذبين وأبناء أسر كريمة وبين الراوي، يسأل عبد الله عن سبب دخولهم المعتقل. فبينما يعتقد عبد الله أنهم يريدون أن يحلوا محل عبد الناصر يخبره الراوي أنهم يهدفون لحرية الشعب في الحياة والاختيار، مشيراً لقرار عبد الناصر بتهجير أهالي النوبة من قراهم نتيجة بناء السد العالي دون أن تكون لديهم حرية الاعتراض أو الاشتراك في القرار، لتظهر الرواية ما يقوم به النظام الديكتاتوري من الاستعانة بأقلية عرقية لقمع الشعب مقدمة لقمع تلك الأقلية في ما بعد عندما ينعدم أي صوت معترض.
مع فجر اليوم الأول من عام 1959 تبدأ الحملة الأولى من الاعتقالات لتصل إلى سجن القلعة، وبعد ثلاثة شهور تم نقل المعتقلين لمعتقل الواحات من أجل استقبال الحملة الثانية. ويسخر الراوي من خلافات التنظيمات الكبيرة ذات التأثير الضعيف في الشارع قبل وأثناء الاعتقال بشكل أشد من خلافها مع النظام وانقسامها لثلاثة مواقف؛ حزب يرى أن عبد الناصر قام بتأسيس نظام ديكتاتوري فاشيّ يبرز كوجه للرأسمالية الكبرى، والثاني يراه كممثل للرأسمالية الوطنية متردد بين النضال ضد الامبريالية أو الخضوع لها، أما ثالث الأحزاب فهو مؤيد ومحب لعبد الناصر كقائد لنضال الأمة ضد الامبريالية وأنه يجب الثقة في النظام وترويضه وتأييده للوصول للديموقراطية لاحقاً. ويرى هذا الحزب أن سبب اعتقالات الشيوعيين هو استفزاز الحزبين الآخرين للنظام.
مقاومة القمع
وتُظهر الرواية التفاصيلَ الصغيرة لمقاومة القمع داخل المعتقل ومحاولات التحايل على القيود العديدة فيه، كإصرار الراوي على احتفاظه بالخطابات الواردة له من حبيبته أو محاولة المعتقلين صنع كوب من الشاي عن طريق الحصول على الكهرباء من إنارة السجن، وعند قطعها يتم الحصول على النار بطريقة الإنسان الأول في الحصول عليها من خشب الأسرة، وذلك بالاستغناء عن واحد من الألواح الثلاثة في كل سرير. كذلك تؤدي تجربة الاعتقال بما فيها من عداء شديد بين التنظيمات الشيوعية لدرجة فرض كل تنظيم ما يشبه الحجر الصحي لمنع أعضائه من الاحتكاك بالآخرين لإعادة نظر الرواي مع صديقه "أنور" النظر في جدوى تلك التنظيمات واعتبارها مثل الفرق التي ظهرت بعد ظهور الإسلام مع فارق أن الفرق الإسلامية كانت حافظة للقرآن بينما التنظيمات الشيوعية لم تقرأ حرفاً من كتاب رأس المال لكارل ماركس، وأن مصير كليهما في حالة وصول أحد تلك التنظيمات للحكم هو الإعدام بتهمة الخيانة العظمى.
تنتهي الرواية بمزيج من التشاؤم المرتبط بتعرض الراوي للضرب والتعذيب في المعتقل الجديد وانقطاع خطابات حبيبته، ولكن مع إحساسه بقدرة أكثر على المقاومة والقدرة على الاحتمال كبطل إغريقي يحارب الآلهة واللعنات لأن طبيعته تحتم عليه تلك الحرب دون أن تكون هناك إشارات لانتصار قريب.
محمد يحيى
محمود حسين" تجربة فريدة على مستوى الكتابة العربية، فلا يوجد شخص حقيقي اسمه "محمود حسين"، فهو اسم مستعار لكاتبين مصريين هما "بهجت النادي" و"عادل رفعت" اللذين يكتبان بالفرنسية ويقيمان في باريس منذ ستينيات القرن الماضي.
أما سبب قيامهما بالنشر تحت اسم مستعار فهو الناشر الفرنسي لأول كتبهما الذي كتباه معاً ثم أخبرهما بأن وجود اسمين على الكتاب يقلل من إقبال القراء عليه وطلب منهما اختيار اسم واحد، فقررا اختيار اسم يبدو مصرياً عادياً فكان "محمود حسين"، وعند محاولتهما تغيير الأمر في الكتاب الثاني أخبرهما الناشر بأنهما قد عُرفا بهذا الاسم ولا يمكنهما تغييره، فأصبح "محمود حسين" هو المعبر عنهما.
"تحدي الآلهة" داخل معتقلات "عبد الناصر"
يبدو من الصعب تقبل فكرة اشتراك كاتبين في كتابة دراسة أو كتاب سياسي، ولكن الأغرب هو اشتراك كاتبين في كتابة رواية بما تحمله من مشاعر وشخصيات وحبكة وتتابع أحداث، وهذا ما نجح فيه محمود حسين في رواية "تحدي الآلهة" التي صدرت عام 2017 عن "دار الجديد" ، وترجمها من الفرنسية أحمد علي بدوي، ويشترك الكاتبان في مناقشة أفكار الرواية ثم المراجعة المتبادلة للكتابة وصولاً للشكل النهائي الذي يرضيان عنه.
محمود حسين تجربة فريدة على مستوى الكتابة العربية، فلا يوجد شخص حقيقي اسمه "محمود حسين"، فهو اسم مستعار لكاتبين مصريين هما بهجت النادي وعادل رفعت يكتبان بالفرنسية ويقيمان في باريس منذ ستينيات القرن الماضي
وفي "تحدي الآلهة" يشبه الراوي تجربته بأوليس بطل الأسطورة اليونانية الذي استمر في تحدي آلهة اليونان، وبينما يسأل الراوي داخل المعتقل عن إصرار "أوليس" على العودة لوطنه وحبيبته بدلاً من الاستمتاع بحريته خارج وطنه، تكون إجابة الأستاذ الجامعي عليه أن "أوليس" لم يكن يبحث عن حبيبته ووطنه، بل كان يبحث عن حقيقته القصوى ومكانه في الكون بمقاومة لعنات الآلهة.
تتطرق الرواية لتجربة الاعتقال السياسي في عهد عبد الناصر وهو ما يتماس مع تجربة الكاتبين الحقيقية، إذ اعتُقلا عام 1959 ضمن موجة اعتقالات المنظمات اليسارية، وبعد خروجهما من المعتقل قررا السفر إلى باريس والاستقرار فيها.
تعتمد الرواية على سرد الراوي، الطالب في كلية الطب عن فترة الاعتقال متوازياً مع سرده للماضي منذ نشأته القروية، ثم انتقاله إلى المدينة وتفوقه الدراسي الذي أهله لكلية الطب واقتناعه بالأفكار الشيوعية وتعرفه بصديقه "أنور" وقصة حبه مع "نادية" زميلته في الكلية وصولاً لاعتقاله.
يرى الكاتبان في البرنامج التلفزيوني "فسحة فكر" أن الشيوعيين لم يشكلوا خطراً على نظام عبد الناصر لقلة عددهم وتأييد جزء منهم للنظام، ولكن اعتقالهم جاء كردّ فعل انتقامي من النظام الشيوعي في العراق الذي رفض الانضمام لمشروع الوحدة العربية بين مصر وسوريا في "الجمهورية العربية المتحدة" تحت قيادة عبد الناصر، فجاء انتقامه من التنظيمات الشيوعية المصرية.
تصور الرواية أجواء المعتقل من الداخل وفي نقاش بين عبد الله أحد أفراد "الهجانة" النوبيين الذين يتم تجنيدهم لقمع الشعب عند حدوث قلاقل أو شغب والمتعاطف معهم باعتبارهم مهذبين وأبناء أسر كريمة وبين الراوي، يسأل عبد الله عن سبب دخولهم المعتقل. فبينما يعتقد عبد الله أنهم يريدون أن يحلوا محل عبد الناصر يخبره الراوي أنهم يهدفون لحرية الشعب في الحياة والاختيار، مشيراً لقرار عبد الناصر بتهجير أهالي النوبة من قراهم نتيجة بناء السد العالي دون أن تكون لديهم حرية الاعتراض أو الاشتراك في القرار، لتظهر الرواية ما يقوم به النظام الديكتاتوري من الاستعانة بأقلية عرقية لقمع الشعب مقدمة لقمع تلك الأقلية في ما بعد عندما ينعدم أي صوت معترض.
ما يقوم به النظام الديكتاتوري من الاستعانة بأقلية عرقية لقمع الشعب هو مقدمة لقمع تلك الأقلية في ما بعد عندما ينعدم أي صوت معترض
مع فجر اليوم الأول من عام 1959 تبدأ الحملة الأولى من الاعتقالات لتصل إلى سجن القلعة، وبعد ثلاثة شهور تم نقل المعتقلين لمعتقل الواحات من أجل استقبال الحملة الثانية. ويسخر الراوي من خلافات التنظيمات الكبيرة ذات التأثير الضعيف في الشارع قبل وأثناء الاعتقال بشكل أشد من خلافها مع النظام وانقسامها لثلاثة مواقف؛ حزب يرى أن عبد الناصر قام بتأسيس نظام ديكتاتوري فاشيّ يبرز كوجه للرأسمالية الكبرى، والثاني يراه كممثل للرأسمالية الوطنية متردد بين النضال ضد الامبريالية أو الخضوع لها، أما ثالث الأحزاب فهو مؤيد ومحب لعبد الناصر كقائد لنضال الأمة ضد الامبريالية وأنه يجب الثقة في النظام وترويضه وتأييده للوصول للديموقراطية لاحقاً. ويرى هذا الحزب أن سبب اعتقالات الشيوعيين هو استفزاز الحزبين الآخرين للنظام.
مقاومة القمع
وتُظهر الرواية التفاصيلَ الصغيرة لمقاومة القمع داخل المعتقل ومحاولات التحايل على القيود العديدة فيه، كإصرار الراوي على احتفاظه بالخطابات الواردة له من حبيبته أو محاولة المعتقلين صنع كوب من الشاي عن طريق الحصول على الكهرباء من إنارة السجن، وعند قطعها يتم الحصول على النار بطريقة الإنسان الأول في الحصول عليها من خشب الأسرة، وذلك بالاستغناء عن واحد من الألواح الثلاثة في كل سرير. كذلك تؤدي تجربة الاعتقال بما فيها من عداء شديد بين التنظيمات الشيوعية لدرجة فرض كل تنظيم ما يشبه الحجر الصحي لمنع أعضائه من الاحتكاك بالآخرين لإعادة نظر الرواي مع صديقه "أنور" النظر في جدوى تلك التنظيمات واعتبارها مثل الفرق التي ظهرت بعد ظهور الإسلام مع فارق أن الفرق الإسلامية كانت حافظة للقرآن بينما التنظيمات الشيوعية لم تقرأ حرفاً من كتاب رأس المال لكارل ماركس، وأن مصير كليهما في حالة وصول أحد تلك التنظيمات للحكم هو الإعدام بتهمة الخيانة العظمى.
غياب محمود حسين شبه التام عن المشهد الثقافي المصري يبدو غريباً، فكتبهما القليلة المترجمة للعربية صادرة عن دور نشر عربية وليست مصرية
تنتهي الرواية بمزيج من التشاؤم المرتبط بتعرض الراوي للضرب والتعذيب في المعتقل الجديد وانقطاع خطابات حبيبته، ولكن مع إحساسه بقدرة أكثر على المقاومة والقدرة على الاحتمال كبطل إغريقي يحارب الآلهة واللعنات لأن طبيعته تحتم عليه تلك الحرب دون أن تكون هناك إشارات لانتصار قريب.