عمران يونس: دماءٌ وبطّيخ
بحدة وكثافة أصبحتا سِمتين لأسلوبه، يُعبِّر عمران يونس بشكل واضح عن المعاناة السورية. فأعماله التي تحفل بمشاهد مروّعة لجثث ونعوش وأطراف مبتورة لأجساد، ويكتنفها خوف ورعب، تقتفي أثر رموز ووحشية الحرب بطريقة تُدمي شغاف القلب. التفاصيل المروِّعة يتم عرضها بواسطة الفحم فوق طبقات من الأكريليك، كنوع من رد فعل قوي – ونقد اجتماعي – على العالَم من حوله، عبر استخدامه لعناصر متكررة الظهور من كلاب جهنمية وثمار صبار مليئة بالأشواك وشرائح من البطيخ الأحمر. وُلد يونس في مدينة الحسكة عام 1971، ونال درجتي البكالوريوس والماجستير من قسم التصوير في كلية الفنون الجميلة في جامعة دمشق. نالت أعماله إشادة النقاد في داخل البلاد وخارجها، وهو لا زال مقيماً في دمشق.
الفنان عمران يونس في مرسمه
عام 2015، في ذروة الصراع السوري، وَصَفَ يونس تجربة مشاهدة أعماله الفنية، وضربات فرشاته السميكة والدراماتيكية على القماش الأبيض غير الملطخ، والتي تظهر كجروح سكين حاد، تفضي به في نهاية المطاف وكأنه "مع القاتل في نفس الغرفة". تمخّضت عن تلك التجربة أعمال عالقة بين ’صرخة‘إدوارد مونش و’كوابيس‘ غويا. وفي خضم وحشية الحرب، أتى تسربُل الواقع المأساوي المحيط من كل صوب إلى أعماله أمراً حتمياً، وهو ما ينطبق على الكثير من الفنانين السوريين. وقال عن ذلك: "في هذا المسلخ البشري، يصبح الفن بمثابة احتجاج في وجه الألم غير المرئي. لحظة مواجهة الإنسان للخوف والموت تستحيل إلى صرخات على قماش الرسم الأبيض إلى أن تصبح موجعة، والخطوط السوداء تخترق جسد الأرض كالمحراث لتجعل الفن خطّاً واضحاً لليقين: ثمنه هو الحياة نفسها".
عمران يونس، صبار، ٢٠١٩
والآن وبعد مرور خمس سنوات، يتحدث كيف أن ما يقوله أو يختبره المرء في لحظة معينة من الزمن في ظل ظرف معيّن هو ما يظلّ حاضراً في ذاكرة الناس: "الغاية من المقولة السابقة تتمثل بشرح العمل الذي أنجزتُه في أوج الحرب والعنف الذي صاحب تلك الفترة. فما الفن إن لم يكن يُعبّر عن التساؤلات التي تشغل الفنان؟ ولكن ذلك ليس سوى جزء من الصورة. فأنا أنتمي لهذه المنطقة الجغرافية بطولها وعرضها، وبكل تفاصيلها من فرح وحزن وسلام وحرب. فكيف لك أن تُدير ظهرك لما يجري من حولك، وتحلُم بحديقة من زهور بينما الحرب تحتل كل ثانية من يومك، وتزفّ لك كل يوم نبأ موت جديد؟"
العناصر التي تتشبع بها أعمال يونس من عنف دموي – كتلك الجثث والكلاب والوحوش الهمجية– ليست بالنسبة له مجرّد تذكير بالموت بقدر ما هي موقف ينطوي على تحدٍّ في مواجهة الخراب الشامل: "العنف ليس خياراً. العنف حالة مفروضة علينا، والطريقة التي يُفرض بها علينا تحدد شكل مقاومتنا له. أنا أواجه العنف بالرسم، عملي الفني هو سلاحي في هذه المواجهة".
في الواقع، يسهلُ القول إن هذه لوحات "فنان حرب"، إلا أن ما يُقدّمه يونس عصيٌّ على التصنيف المباشر: "أعملُ ضمن الثقافة التي اكتسبتها، إلى جانب تجربتي على اللوحة. والعمل الفني هو لغتي اليومية. لم أسأل نفسي يوماً عن الاتجاه الذي أنتمي إليه، وهو ما قد يُشكِّل مثار جدل بين النقاد الذين يصنفوني ضمن تيار ما بعد الحداثة. لطالما كان الفن بالنسبة لي ملازماً لكلّ تطوّر، وهو انعكاس للواقع الذي تحتكُّ معه. هذا كل ما في الأمر".
تتنقل لوحات يونس من أجواء طيفية إلى تركيبات واضحة، ولا سيما في الأعمال كبيرة الحجم التي تنطوي على رؤوس بألوان متعددة خافتة وعائمة على خلفيات معتمة، بينما تتراءى في أعمال أخرى شخوص شَبَحيّة يُغلّفها ضباب أو غشاوة كثيفة لدرجة طمس أشكالها، وذلك في تجسيد لرؤية شبّهها الفنان بحلم يراوده مراراً وتظهر فيه وجوه ضبابية غير واضحة المعالِم: "لكل مرحلة، خصائصها وماهيتها. والانتقال من مادة لأخرى يخلق أشكالاً مختلفة وفقاً للمادة المستخدَمة، والتي تتراوح بين تلك الشفافة والسميكة. فعند العمل بألوان شفافة، أكون عادة في حالة التجهيز لعمل جديد، أو تنفيذ اسكتش أو تمرين ذهني أو التجريب لحالة الخطوط والأشكال وقدرتها على إيصال فكرة الألم والموت على سبيل المثال. وهنا تفرض المواد المستخدَمة خصائصها على العمل. أما بخصوص الأعمال المكتملة والفجوات في الوجوه والطلاء الأسود بينها، فهي حالة من التعبير عن العذاب والألم، عن أولئك الأشخاص الذين سُرقت منهم الحياة".
عمران يونس، وحوش على جثة، ٢٠١٤
في أعمال أخرى – كما هو الحال في لوحتين بدون عنوان من عام 2007 ضمن مقتنيات مجموعة أتاسي – تهيمن على قماش الرسم كلاب هزيلة تشبه بعض الوحوش الجهنمية، تملئ اللوحة بطاقة خطيرة ومحمومة، تماماً كما لو أنها هاربة للتو من العالم السفلي، تخلق احساساً من القلق النقيض لحالة الصفاء الغريب والقاتم لتلك الرؤوس والأجساد الطافية، وخاصة في أعماله من عام 2014 التي تستحضر لوحة هانس هولباين الابن ’جسدُ المسيح الميت في القبر‘. تندفع هذه الكلاب لتنهش صناديق تشبه توابيت تتراءى بداخلها جثث متحطمة متوهجة باللونين الأحمر والأخضر على خلفية قماش الرسم القاتم الذي يميل نحو السواد. أجواء العمل خانقة حتماً، فتلك الأجساد كانت محمية في نعوشها من تلك الكائنات، ولكنها أصبحت حبيسة في شركها. تبدو فورة الجنون أبدية وكأنها تجسيد حيّ للعنف، أما الخوف والغضب فقد تجسّدا بكلب مسعور.
عمران يونس، أشلاء، ٢٠١٦
لكن حيث الموت، توجد الحياة. فثمرة الصبّار وشرائح البطيخ، التي ترمز لأطايب الصيف السورية، تتكرر بالظهور لتُشكِّل ما يشبه علامة فارقة في أعمال يونس. فعلى سبيل المثال في سلسلة لوحات من عام 2018 ورسومات من عام 2019، تنمو نباتات صبّار عملاقة وتنتشر وكأنها صروحٌ ريّانة من هياكل هندسية قال عنها الفنان: "الصبّار يدعو كل شيء للصراخ، وهذا يُظهر أنه حتى الأرض تأخذ حصتها العادلة من الدمار. لا شيء محصّن، الحروب تطال كل شيء. لكن للصبار رمزية عالية، فهو لا يُقاوم، فقط، لحماية ذاته، إنما يشكِّل أيضاً سياجاً واقياً لنباتات أكثر رقة، يحتضنها كما تحتضن الأم أطفالها. أرسمُ الصبّار كما هو الحال بالنسبة لأي شيء أرسمه،كما أرسم وجوه الناس وهي تصرخ. يُظهِر هذا تعقيد الحياة: جميلة ومريعة، صلبة وحساسة". أما فيما يتعلّق بالبطيخ والنكهة الشهية لهذا النوع الريّان من الفاكهة الحاضر بقوة بألوانه اليانعة، فأوضح يونس: "أردتُ توثيق صورة أتذكرها لمجزرة في أحد الأسواق حيث امتزج الدم الأحمر بالبطيخ الأحمر. إنها صورة انطبعت بذاكرتي".
عمران يونس، خواء، ٢٠١٨
على مستوى الأسلوب، أخذت أعمال يونس تتدرج ببطء خلال العقدين الماضيين نحو الأشكال العضوية. فبينما حملتْ أعمال مطلع العقد الأول من القرن الحادي والعشرين تركيبات خطية هندسية، بدأتْ تمتلئ منذ عام 2013 بتوليفة عائمة من أشخاص ووجوه وأطراف وحيوانات. لكن عند التمعّن في الأعمال، يمكن ملاحظة نوع من النسق ضمن هذه الفوضى، فتبدو معلّقة على إطار هندسي مخفي، وكأنها أنابيب صلبة استحالت لأسلاك ذات زوايا منسابة لتُشكّل هيكلاً غير مرئي تتعشّق عليه مشاهد الهلوسات. في أعمال أخرى، مثل سلسلة ’العشاء الأخير‘ (2018) – والتي تُعتبر من المجموعات القليلة التي منحها يونس عنواناً – تبدو الشخوص مشوّهة وممطوطة وكأنها مرسومة في مركز ثقب أسود بلا ملامح كما لو أنه تكتنفها قوة جذب تصيب المشاهِد بالدوار وضياع البوصلة. وقال يونس عن ذلك: "الفنان هو في مرحلة من البحث الدائم. وفي بعض الأحيان وبعد أن يكتمل العمل، ألحظُ على سبيل المثال أن الخطوط المستقيمة لا تنجح في التعبير عن الحركة التي أردتها في العمل، وعندها تتحوّل المساحات إلى نوع من الصمت. وحالما أُعيدُ التفكير بالحركة، وأحوّلُ الأشكال إلى خطوط منحنية، تبدأ عندها بالحركة وتصبح أشكالاً عضوية وأكثر ذوباناً. ولفعل ذلك، أحاول أن أرسمُ اللحظة – الثواني - ما بين الموت والحياة".
إذاً هل هناك أملٌ وسط هذا الظلام؟ هل هناك أملٌ في مزج الدماء بالبطيخ، وفي تلك النقاط الحمراء القانية في السواد الحالك للفحم؟ بماذا نستطيع أن نتشبث؟ أجاب عمران يونس على ذلك قائلاً: "هناك فكرة في تيار ما بعد الحداثة تقول إن السرديات الكبرى تسقط، وتبقى لكل لغة ومفردة معناها الخاص. ومن هنا، أستطيع أن أتكلّم عن اللون الأحمر الذي يحمُل أكثر من مدلول. ربما يعني بالنسبة لي مقاومة، وربما يعني لون الدم عند المتلقي. في الإمكانات اللانهائية للمعاني المحتملة، ماهو هام بالنسبة لي هو كيف أراه أنا. أرى أنه لون الحياة، بمعنى الألم. وعلى المستوى التشكيلي، البقعة الحمراء في كل تدرُّجات الرمادي والأسود، هي محاولة لإعادة الحياة".
بحدة وكثافة أصبحتا سِمتين لأسلوبه، يُعبِّر عمران يونس بشكل واضح عن المعاناة السورية. فأعماله التي تحفل بمشاهد مروّعة لجثث ونعوش وأطراف مبتورة لأجساد، ويكتنفها خوف ورعب، تقتفي أثر رموز ووحشية الحرب بطريقة تُدمي شغاف القلب. التفاصيل المروِّعة يتم عرضها بواسطة الفحم فوق طبقات من الأكريليك، كنوع من رد فعل قوي – ونقد اجتماعي – على العالَم من حوله، عبر استخدامه لعناصر متكررة الظهور من كلاب جهنمية وثمار صبار مليئة بالأشواك وشرائح من البطيخ الأحمر. وُلد يونس في مدينة الحسكة عام 1971، ونال درجتي البكالوريوس والماجستير من قسم التصوير في كلية الفنون الجميلة في جامعة دمشق. نالت أعماله إشادة النقاد في داخل البلاد وخارجها، وهو لا زال مقيماً في دمشق.
الفنان عمران يونس في مرسمه
عام 2015، في ذروة الصراع السوري، وَصَفَ يونس تجربة مشاهدة أعماله الفنية، وضربات فرشاته السميكة والدراماتيكية على القماش الأبيض غير الملطخ، والتي تظهر كجروح سكين حاد، تفضي به في نهاية المطاف وكأنه "مع القاتل في نفس الغرفة". تمخّضت عن تلك التجربة أعمال عالقة بين ’صرخة‘إدوارد مونش و’كوابيس‘ غويا. وفي خضم وحشية الحرب، أتى تسربُل الواقع المأساوي المحيط من كل صوب إلى أعماله أمراً حتمياً، وهو ما ينطبق على الكثير من الفنانين السوريين. وقال عن ذلك: "في هذا المسلخ البشري، يصبح الفن بمثابة احتجاج في وجه الألم غير المرئي. لحظة مواجهة الإنسان للخوف والموت تستحيل إلى صرخات على قماش الرسم الأبيض إلى أن تصبح موجعة، والخطوط السوداء تخترق جسد الأرض كالمحراث لتجعل الفن خطّاً واضحاً لليقين: ثمنه هو الحياة نفسها".
عمران يونس، صبار، ٢٠١٩
والآن وبعد مرور خمس سنوات، يتحدث كيف أن ما يقوله أو يختبره المرء في لحظة معينة من الزمن في ظل ظرف معيّن هو ما يظلّ حاضراً في ذاكرة الناس: "الغاية من المقولة السابقة تتمثل بشرح العمل الذي أنجزتُه في أوج الحرب والعنف الذي صاحب تلك الفترة. فما الفن إن لم يكن يُعبّر عن التساؤلات التي تشغل الفنان؟ ولكن ذلك ليس سوى جزء من الصورة. فأنا أنتمي لهذه المنطقة الجغرافية بطولها وعرضها، وبكل تفاصيلها من فرح وحزن وسلام وحرب. فكيف لك أن تُدير ظهرك لما يجري من حولك، وتحلُم بحديقة من زهور بينما الحرب تحتل كل ثانية من يومك، وتزفّ لك كل يوم نبأ موت جديد؟"
العناصر التي تتشبع بها أعمال يونس من عنف دموي – كتلك الجثث والكلاب والوحوش الهمجية– ليست بالنسبة له مجرّد تذكير بالموت بقدر ما هي موقف ينطوي على تحدٍّ في مواجهة الخراب الشامل: "العنف ليس خياراً. العنف حالة مفروضة علينا، والطريقة التي يُفرض بها علينا تحدد شكل مقاومتنا له. أنا أواجه العنف بالرسم، عملي الفني هو سلاحي في هذه المواجهة".
في الواقع، يسهلُ القول إن هذه لوحات "فنان حرب"، إلا أن ما يُقدّمه يونس عصيٌّ على التصنيف المباشر: "أعملُ ضمن الثقافة التي اكتسبتها، إلى جانب تجربتي على اللوحة. والعمل الفني هو لغتي اليومية. لم أسأل نفسي يوماً عن الاتجاه الذي أنتمي إليه، وهو ما قد يُشكِّل مثار جدل بين النقاد الذين يصنفوني ضمن تيار ما بعد الحداثة. لطالما كان الفن بالنسبة لي ملازماً لكلّ تطوّر، وهو انعكاس للواقع الذي تحتكُّ معه. هذا كل ما في الأمر".
تتنقل لوحات يونس من أجواء طيفية إلى تركيبات واضحة، ولا سيما في الأعمال كبيرة الحجم التي تنطوي على رؤوس بألوان متعددة خافتة وعائمة على خلفيات معتمة، بينما تتراءى في أعمال أخرى شخوص شَبَحيّة يُغلّفها ضباب أو غشاوة كثيفة لدرجة طمس أشكالها، وذلك في تجسيد لرؤية شبّهها الفنان بحلم يراوده مراراً وتظهر فيه وجوه ضبابية غير واضحة المعالِم: "لكل مرحلة، خصائصها وماهيتها. والانتقال من مادة لأخرى يخلق أشكالاً مختلفة وفقاً للمادة المستخدَمة، والتي تتراوح بين تلك الشفافة والسميكة. فعند العمل بألوان شفافة، أكون عادة في حالة التجهيز لعمل جديد، أو تنفيذ اسكتش أو تمرين ذهني أو التجريب لحالة الخطوط والأشكال وقدرتها على إيصال فكرة الألم والموت على سبيل المثال. وهنا تفرض المواد المستخدَمة خصائصها على العمل. أما بخصوص الأعمال المكتملة والفجوات في الوجوه والطلاء الأسود بينها، فهي حالة من التعبير عن العذاب والألم، عن أولئك الأشخاص الذين سُرقت منهم الحياة".
عمران يونس، وحوش على جثة، ٢٠١٤
في أعمال أخرى – كما هو الحال في لوحتين بدون عنوان من عام 2007 ضمن مقتنيات مجموعة أتاسي – تهيمن على قماش الرسم كلاب هزيلة تشبه بعض الوحوش الجهنمية، تملئ اللوحة بطاقة خطيرة ومحمومة، تماماً كما لو أنها هاربة للتو من العالم السفلي، تخلق احساساً من القلق النقيض لحالة الصفاء الغريب والقاتم لتلك الرؤوس والأجساد الطافية، وخاصة في أعماله من عام 2014 التي تستحضر لوحة هانس هولباين الابن ’جسدُ المسيح الميت في القبر‘. تندفع هذه الكلاب لتنهش صناديق تشبه توابيت تتراءى بداخلها جثث متحطمة متوهجة باللونين الأحمر والأخضر على خلفية قماش الرسم القاتم الذي يميل نحو السواد. أجواء العمل خانقة حتماً، فتلك الأجساد كانت محمية في نعوشها من تلك الكائنات، ولكنها أصبحت حبيسة في شركها. تبدو فورة الجنون أبدية وكأنها تجسيد حيّ للعنف، أما الخوف والغضب فقد تجسّدا بكلب مسعور.
عمران يونس، أشلاء، ٢٠١٦
لكن حيث الموت، توجد الحياة. فثمرة الصبّار وشرائح البطيخ، التي ترمز لأطايب الصيف السورية، تتكرر بالظهور لتُشكِّل ما يشبه علامة فارقة في أعمال يونس. فعلى سبيل المثال في سلسلة لوحات من عام 2018 ورسومات من عام 2019، تنمو نباتات صبّار عملاقة وتنتشر وكأنها صروحٌ ريّانة من هياكل هندسية قال عنها الفنان: "الصبّار يدعو كل شيء للصراخ، وهذا يُظهر أنه حتى الأرض تأخذ حصتها العادلة من الدمار. لا شيء محصّن، الحروب تطال كل شيء. لكن للصبار رمزية عالية، فهو لا يُقاوم، فقط، لحماية ذاته، إنما يشكِّل أيضاً سياجاً واقياً لنباتات أكثر رقة، يحتضنها كما تحتضن الأم أطفالها. أرسمُ الصبّار كما هو الحال بالنسبة لأي شيء أرسمه،كما أرسم وجوه الناس وهي تصرخ. يُظهِر هذا تعقيد الحياة: جميلة ومريعة، صلبة وحساسة". أما فيما يتعلّق بالبطيخ والنكهة الشهية لهذا النوع الريّان من الفاكهة الحاضر بقوة بألوانه اليانعة، فأوضح يونس: "أردتُ توثيق صورة أتذكرها لمجزرة في أحد الأسواق حيث امتزج الدم الأحمر بالبطيخ الأحمر. إنها صورة انطبعت بذاكرتي".
عمران يونس، خواء، ٢٠١٨
على مستوى الأسلوب، أخذت أعمال يونس تتدرج ببطء خلال العقدين الماضيين نحو الأشكال العضوية. فبينما حملتْ أعمال مطلع العقد الأول من القرن الحادي والعشرين تركيبات خطية هندسية، بدأتْ تمتلئ منذ عام 2013 بتوليفة عائمة من أشخاص ووجوه وأطراف وحيوانات. لكن عند التمعّن في الأعمال، يمكن ملاحظة نوع من النسق ضمن هذه الفوضى، فتبدو معلّقة على إطار هندسي مخفي، وكأنها أنابيب صلبة استحالت لأسلاك ذات زوايا منسابة لتُشكّل هيكلاً غير مرئي تتعشّق عليه مشاهد الهلوسات. في أعمال أخرى، مثل سلسلة ’العشاء الأخير‘ (2018) – والتي تُعتبر من المجموعات القليلة التي منحها يونس عنواناً – تبدو الشخوص مشوّهة وممطوطة وكأنها مرسومة في مركز ثقب أسود بلا ملامح كما لو أنه تكتنفها قوة جذب تصيب المشاهِد بالدوار وضياع البوصلة. وقال يونس عن ذلك: "الفنان هو في مرحلة من البحث الدائم. وفي بعض الأحيان وبعد أن يكتمل العمل، ألحظُ على سبيل المثال أن الخطوط المستقيمة لا تنجح في التعبير عن الحركة التي أردتها في العمل، وعندها تتحوّل المساحات إلى نوع من الصمت. وحالما أُعيدُ التفكير بالحركة، وأحوّلُ الأشكال إلى خطوط منحنية، تبدأ عندها بالحركة وتصبح أشكالاً عضوية وأكثر ذوباناً. ولفعل ذلك، أحاول أن أرسمُ اللحظة – الثواني - ما بين الموت والحياة".
إذاً هل هناك أملٌ وسط هذا الظلام؟ هل هناك أملٌ في مزج الدماء بالبطيخ، وفي تلك النقاط الحمراء القانية في السواد الحالك للفحم؟ بماذا نستطيع أن نتشبث؟ أجاب عمران يونس على ذلك قائلاً: "هناك فكرة في تيار ما بعد الحداثة تقول إن السرديات الكبرى تسقط، وتبقى لكل لغة ومفردة معناها الخاص. ومن هنا، أستطيع أن أتكلّم عن اللون الأحمر الذي يحمُل أكثر من مدلول. ربما يعني بالنسبة لي مقاومة، وربما يعني لون الدم عند المتلقي. في الإمكانات اللانهائية للمعاني المحتملة، ماهو هام بالنسبة لي هو كيف أراه أنا. أرى أنه لون الحياة، بمعنى الألم. وعلى المستوى التشكيلي، البقعة الحمراء في كل تدرُّجات الرمادي والأسود، هي محاولة لإعادة الحياة".