"يزن الحاج": وُلدتْ القصةُ لتهمسَ عنّا
دير الزور
القاص "يزن الحاج" هو من جيل الشباب الذين لم يتسرعوا بالنشر، لأن ثقافته تساعده على اختيار المميز في القصة..
مدونة وطن eSyria التقت القاص الشاب يزن الحاج وكان الحوار التالي:
** لم تكن كتابة القصة القصيرة خياراً واعياً. كلُّ ما أتذكره هو أن انطلاقتي لم تكن من الشعر، ولعلّ ذلك كان بتأثير القصص البوليسية التي كانت محور قراءاتي مع بداية المرحلة الإعدادية، ومع ازدياد النضج العمري واتساع أفق القراءة والاطلاع بقي السرد هو مركز القراءات، لتبدأ محاولاتٌ كثيرة متعثّرة في الكتابة والتمزيق حتى عام 2004 حين شاركتُ في مهرجان أدبيّ بدمشق ورأيت تجارب الآخرين. حينها توقفت عن الكتابة فترةً طويلة وغرقت في القراءة مدةً تقارب العامين، إلى أن ظهرت أولى قصصي الحقيقية.
لعلك محق في قولك بأن "القصة تعبّر عن رؤيتي لمشروعي الإبداعي"، إذ أرى في القصة احتمالاتٍ وفضاءاتٍ للتجريب تعجز عنها الرواية، وتزايدَ هذا الشعور مع الانغماس في عالم "فيسبوك" والشّذرات الكتابيّة التي لا تحتمل الاستطرادات والشرح. عالمٌ من التكثيف ينأى عن الصّراخ و"القضايا الكبرى". عالمٌ تكون فيه التفاصيل هي المحور؛ تفاصيل الإنسان المهمّش بالضرورة، والذي لا يستطيع التعبير إلا بالهمس. وأظن بأن القصة القصيرة خُلقت لتهمس عنا. وهذا ما يحيلني إلى الجزئية الأخيرة من سؤالك لأسجّل اعتراضي، إذ لا أرى أن القصة وسيلةٌ سهلة للتعبير؛ بل هي جامحةٌ دوماً ولا تتّسع لاستغراقٍ في الوصف أو الأفكار، هي "رصاصةٌ تصيب هدفها أو تخطئه" على حدّ تعبير المبدع "إبراهيم صموئيل".
** تنطلق القصة من تفصيلٍ هامشيّ. قد يكون حجراً ناتئاً على الرصيف، أو سيجارةً توشك على الانطفاء، أو هواءً يداعب شعر امرأة. بعد ذلك، يبدأ الاشتغال على "الحدث". ووضعت كلمة "الحدث" بين مزدوجتين لأنني أعتقد أن زمن الحدث في القصة القصيرة قد انتهى. لا بمعنى نسف الحياة، بل الحفر في طبقاتها لاكتشاف ما تجاهلته العيون والحواسّ. فمثلاً، طابور الخبز هو ذاته، والناس هم ذاتهم، وما تغيّر هي الهواجس. مضمار القصة القصيرة اليوم هو الهواجس المكبوتة وتقلّباتها، ثم تطلق العنان لخيالك محاولاً اللحاق بواقعٍ أمسى أكثر رعباً وجموحاً وشراسةً من الخيال.
** في الكتابة يصبح لك حرية الخلق. تلتقط تفصيلاً ما وتنسج حياةً أخرى له وحوله؛ حياة قد تكون موازية أو متقاطعة. الذاكرة الشخصيّة والقراءات والتجارب الحياتية هي ينبوع نصّك، وكلّ ما يتبقّى عليك هو أن تعيد ترتيبها بحسب مزاجك الشخصيّ، الذي قد يتوافق مع مزاج القارئ، فيحسّ القارئ حينها بأنك تكتب عنه أو تكتبه بالأحرى. حينها ينفصل نصّكَ عنك ليصبح ملكاً لهذا القارئ الذي خلقه النص.
قد يظنّ المرء أن ذلك الحجر الناتئ على الرصيف، مثلاً، هو ذاكرةٌ شخصية، ولكن حين يراه في نصٍّ ما، يتحوّل هذا الحجر الصغير إلى ذاكرةٍ جمعيّة. وأعتقد أن أحد أهداف الكاتب هو إعادة كتابة التاريخ. ونقطة انطلاق هذا التاريخ قد تكون مجرّد حجر!
** لم يكن ذلك الشكر مرتبطاً بعلاقة الأستاذ والتلميذ، بل كانت مجرّد محاولةٍ لعدم تجاهل تأثير القراءات المتعدّدة في الشكل الأخير للنص. هذه الخطوة متعارفٌ عليها في الكتب الغربيّة، سواء أكانت فكريةً أم إبداعية، ولكنها مفقودةٌ في الكتب العربية، إلا في حالاتٍ نادرة، وكأن الكاتب العربيّ والنصّ العربيّ خُلقا من عدم!
كلّ قراءةٍ للنص هي إعادةُ كتابةٍ بدرجةٍ ما، ويبقى عبءُ إخراج الشكل النهائيّ للنص مسؤوليةَ الكاتب وحده. وهذا ليس هروباً من النقّاد، فقد كنتُ واضحاً في الجملة الأخيرة من الكتاب بأنني أتحمّل المسؤولية الكاملة عن الكتاب شكلاً ومضموناً، ولكن لا بدّ من ردّ الفضل لأصحابه الذين تكبّدوا عناء قراءة المخطوط قبل نشره، وأبدوا ملاحظات أخذتُ ببعضها وأهملتُ بعضها الآخر.
** بشكلٍ عام ثمة فجوةٌ رهيبة بين النص والناقد عربياً. يمكن القول بلا مبالغة بأن الكاتب يسبق الناقد بأشواط، سواء أكان ذلك على صعيد التجريب في الشّكل، أم التقاط التفاصيل، أم حتّى ذخيرة القراءات والتجارب الحياتية. عربياً، المبدع في وادٍ والناقد في وادٍ آخر على مسافة لا تقلّ عن عقدين أو ثلاثة. بالتأكيد، ثمة استثناءات نادرة تؤكّد هذه القاعدة، مثل الدكتور فيصل درّاج الذي يقرأ النص فيعيد كتابته بشكلٍ من الأشكال. هنا يتّحد الناقد مع المبدع، وأظن أن هذه هي مهمة النقد.
** بدايةً، أودّ تسجيل اعتراضٍ على تسمية قصة قصيرة جداً، إذ إني لا أعرف حقيقةً الفرق بين القصة القصيرة و"القصة القصيرة جداً". أفضّل استخدام المصطلح الغربيّ "الفلاش" أو "القصة الصغيرة" كما يسميها "إيتالو كالفينو" معظم الأحيان، أنا لا أعرف طول القصة التي سأكتبها، لذا تجد تلك التباينات في الطول بين قصص (شبابيك) أو قصص مجموعتي الثانية (متر مربع من الحنين).
القصة القصيرة فنٌ يعتمد بشكل أساسيّ على الاختزال، وهنا تكمن صعوبتها. بالتأكيد، تزداد الصعوبة بازدياد الاختزال، إذ يجب عليك إيصال الفكرة بأقل عدد من الكلمات. كذلك، أنا أميل للحذف مع كلّ قراءةٍ أو مراجعةٍ للقصة، بهدف تحقيق حلمٍ أشبه بالمستحيل هو كتابة نصٍّ لا يمكن فيه حذف حرفٍ دون أن يتسبّب بفجوةٍ ما قد تؤدي إلى انهيار النص بأكمله. نصٌّ مشدود لا مكان للترهّل أو الاستطراد فيه.
** شخصياً، لا أحب قراءة النصوص الطويلة، وبالتالي ليس لديّ صبر يكفي لكتابة مثل هذا النص. يصيبني الملل في قراءة معظم الروايات، وقد كانت الروايات القليلة التي أحببتها روايات قصيرة، وهذا الأمر ينطبق على الرواية المكتوبة بالعربية أو بلغة أخرى. في جلساتي الخاصة، أقول مازحاً لأصدقائي بأنني سأكتب روايةً لأنني أكره الرواية، لذلك سأكتب روايةً أحب قراءتها. هذا ما أخطط له حالياً، إذ أحضّر لكتابة رواية يكون فيها الشّكل العام منطلقاً من تلك التفاصيل الصغيرة التي تقوم عليها القصة القصيرة. وقد كان المبدع الراحل إبراهيم أصلان سبّاقاً إلى كتابة هذا النوع في كتابيه (وردية ليل) و(حجرتان وصالة). هو نوع من "المتتالية" كما سمّاها.
** أعتقد أن هدف كل كاتب هو إعادة كتابة التاريخ، كما قلت لك، ومشروعي الشخصيّ لا يبتعد كثيراً عن هذا التوصيف. أحاول كتابة تاريخ المهمَّشين مستنداً على تفاصيلهم الصغيرة. إن لوحة الفسيفساء بإطارها العام وتفاصيلها الصغيرة الملوّنة هدفٌ مغرٍ لكلّ كاتب، وهذا هو هدفي ببساطة. وأعتقد أنني سأبقى مخلصاً للقصة القصيرة، مع محاولةٍ قد تكون وحيدة لكتابة الرواية. قد أكتب سيناريو للسينما أو عملاً مسرحياً، ولكن ستبقى القصة القصيرة هي عالمي الذي أرتاح فيه.
** بدأت الكتابة والترجمة في الفترة ذاتها تقريباً، ولم يكن هناك تفضيلٌ شخصيّ لهذه أو تلك. ومع تفرّغي شبه التام للكتابة والترجمة بعد عملي لسنوات في الصحافة اليومية، أصبحت الترجمة هي مصدر عيشي الوحيد تقريباً، وهذا الأمر قد يُنقص من مكانها في الروح قليلاً، إذ أضطر أحياناً لترجمة ما لا أحب كي أبقى محافظاً على استقلالي الماديّ وتفرّغي الذي بدأ بسنّ صغيرة نسبياً.
مع الاستقرار البطيء التدريجي، بدأت بتحديد خياراتي الشخصية في الترجمة. أعمل الآن على مشروعٍ يندرج ضمن حقل (الدراسات الثقافية) يضم عشرات الكتب التي أسعى لترجمتها، مع استراحاتٍ بين الحين والآخر لترجمة الشعر والسّرد. ولقد أنهيتُ ترجمة كتابٍ عن السينما التعبيريّة الألمانية وبدأتُ بترجمة كتاب فكريّ ورواية. أما القصة القصيرة فقد بقيت هوايتي الأثيرة، لذلك هي أقرب إليّ الآن.
الشاعر "رائد وحش" تحدث عن "يزن" بقوله: «أظنّ أن "يزن الحاج" يكتب بعناد شديد فكثيرٌ من قصصه المنشورة، أو غير المنشورة، تسعى إلى مشاكسة هدوء قارئها وإزعاجه من أجل توريطه بفكرة نصٍّ ستصبح مأزقاً عما قليل».
فيما قال الروائي "أيمن مارديني": «يتمتع بأسلوبٍ خاص يتميز بأدوات البحث عن شكلٍ يميزه، واضحة معالمه في تقسيماته القصصية، واختلاف طول القصة من إحداها الى أخرى. يحاول أن يترك أثراً في القارئ من خلال خلق جوّ مكثف ومعبّر ليتناول من بعده الفكرة التي يريد إيصالها».
بينما رأت القاصة "رشا عبّاس" أنه لا يجد في الموضوع أية مشكلة: «يفضّل أن يتخلص سريعاً من عبء تلك الجمل التي تملأ صدره. يرتاح ليجد وقتاً يجلس فيه معك في قهوة. يقول لكَ ساخراً من تحت خصلات شعره المجعدة: ماذا سنفعل اليوم لنغيظ أصدقاءنا الروائيين؟».
جدير بالذكر أن القاص "يزن الحاج" من مواليد عام 1985ـ مدينة دير الزور. خريج اللغة الإنكليزية في جامعة الفرات عام 2007 وله مجموعة قصصية بعنوان (شبابيك) (دار النهرين- دمشق- عام 2011) وحالياً يحضّر لنشر مجموعة قصصية ثانية (مترٌ مربّعٌ من الحنين)، إضافةً إلى مشروع رواية قيد الكتابة بعنوان مؤقت (ليس كأي ربيعٍ آخر).
أنهى ترجمة كتاب (السينما التعبيرية الألمانية) ، ويعمل على ترجمة عدد من الكتب في حقل (الدراسات الثقافية).
دير الزور
القاص "يزن الحاج" هو من جيل الشباب الذين لم يتسرعوا بالنشر، لأن ثقافته تساعده على اختيار المميز في القصة..
مدونة وطن eSyria التقت القاص الشاب يزن الحاج وكان الحوار التالي:
أظنّ أن "يزن الحاج" يكتب بعناد شديد فكثيرٌ من قصصه المنشورة، أو غير المنشورة، تسعى إلى مشاكسة هدوء قارئها وإزعاجه من أجل توريطه بفكرة نصٍّ ستصبح مأزقاً عما قليل
* لماذا اخترت القصة؟** لم تكن كتابة القصة القصيرة خياراً واعياً. كلُّ ما أتذكره هو أن انطلاقتي لم تكن من الشعر، ولعلّ ذلك كان بتأثير القصص البوليسية التي كانت محور قراءاتي مع بداية المرحلة الإعدادية، ومع ازدياد النضج العمري واتساع أفق القراءة والاطلاع بقي السرد هو مركز القراءات، لتبدأ محاولاتٌ كثيرة متعثّرة في الكتابة والتمزيق حتى عام 2004 حين شاركتُ في مهرجان أدبيّ بدمشق ورأيت تجارب الآخرين. حينها توقفت عن الكتابة فترةً طويلة وغرقت في القراءة مدةً تقارب العامين، إلى أن ظهرت أولى قصصي الحقيقية.
لعلك محق في قولك بأن "القصة تعبّر عن رؤيتي لمشروعي الإبداعي"، إذ أرى في القصة احتمالاتٍ وفضاءاتٍ للتجريب تعجز عنها الرواية، وتزايدَ هذا الشعور مع الانغماس في عالم "فيسبوك" والشّذرات الكتابيّة التي لا تحتمل الاستطرادات والشرح. عالمٌ من التكثيف ينأى عن الصّراخ و"القضايا الكبرى". عالمٌ تكون فيه التفاصيل هي المحور؛ تفاصيل الإنسان المهمّش بالضرورة، والذي لا يستطيع التعبير إلا بالهمس. وأظن بأن القصة القصيرة خُلقت لتهمس عنا. وهذا ما يحيلني إلى الجزئية الأخيرة من سؤالك لأسجّل اعتراضي، إذ لا أرى أن القصة وسيلةٌ سهلة للتعبير؛ بل هي جامحةٌ دوماً ولا تتّسع لاستغراقٍ في الوصف أو الأفكار، هي "رصاصةٌ تصيب هدفها أو تخطئه" على حدّ تعبير المبدع "إبراهيم صموئيل".
- هل تتعامل مع القصة من منطلق الحدث نفسه وما يمكن أن يقودك إليه أم من منطلق التخيل في الحدث نفسه؟
** تنطلق القصة من تفصيلٍ هامشيّ. قد يكون حجراً ناتئاً على الرصيف، أو سيجارةً توشك على الانطفاء، أو هواءً يداعب شعر امرأة. بعد ذلك، يبدأ الاشتغال على "الحدث". ووضعت كلمة "الحدث" بين مزدوجتين لأنني أعتقد أن زمن الحدث في القصة القصيرة قد انتهى. لا بمعنى نسف الحياة، بل الحفر في طبقاتها لاكتشاف ما تجاهلته العيون والحواسّ. فمثلاً، طابور الخبز هو ذاته، والناس هم ذاتهم، وما تغيّر هي الهواجس. مضمار القصة القصيرة اليوم هو الهواجس المكبوتة وتقلّباتها، ثم تطلق العنان لخيالك محاولاً اللحاق بواقعٍ أمسى أكثر رعباً وجموحاً وشراسةً من الخيال.
- في مجموعتك القصصية "شبابيك" اتكاء واضح على الذاكرة واشتغالك يتراوح بين عوالمها ومتخيلك عنها، وفي هذا التراوح ينشغل القارئ في تصيد الواقعي من المتخيل، كيف تفسر الأمر؟
** في الكتابة يصبح لك حرية الخلق. تلتقط تفصيلاً ما وتنسج حياةً أخرى له وحوله؛ حياة قد تكون موازية أو متقاطعة. الذاكرة الشخصيّة والقراءات والتجارب الحياتية هي ينبوع نصّك، وكلّ ما يتبقّى عليك هو أن تعيد ترتيبها بحسب مزاجك الشخصيّ، الذي قد يتوافق مع مزاج القارئ، فيحسّ القارئ حينها بأنك تكتب عنه أو تكتبه بالأحرى. حينها ينفصل نصّكَ عنك ليصبح ملكاً لهذا القارئ الذي خلقه النص.
قد يظنّ المرء أن ذلك الحجر الناتئ على الرصيف، مثلاً، هو ذاكرةٌ شخصية، ولكن حين يراه في نصٍّ ما، يتحوّل هذا الحجر الصغير إلى ذاكرةٍ جمعيّة. وأعتقد أن أحد أهداف الكاتب هو إعادة كتابة التاريخ. ونقطة انطلاق هذا التاريخ قد تكون مجرّد حجر!
- أيضا خرقت التقاليد في آخر المجموعة فتوجهت بالشكر لأساتذة مجهولين علموك وتعلمت منهم وأثروا بك، هل هذا الاعتراف هروب من النقاد؟
** لم يكن ذلك الشكر مرتبطاً بعلاقة الأستاذ والتلميذ، بل كانت مجرّد محاولةٍ لعدم تجاهل تأثير القراءات المتعدّدة في الشكل الأخير للنص. هذه الخطوة متعارفٌ عليها في الكتب الغربيّة، سواء أكانت فكريةً أم إبداعية، ولكنها مفقودةٌ في الكتب العربية، إلا في حالاتٍ نادرة، وكأن الكاتب العربيّ والنصّ العربيّ خُلقا من عدم!
كلّ قراءةٍ للنص هي إعادةُ كتابةٍ بدرجةٍ ما، ويبقى عبءُ إخراج الشكل النهائيّ للنص مسؤوليةَ الكاتب وحده. وهذا ليس هروباً من النقّاد، فقد كنتُ واضحاً في الجملة الأخيرة من الكتاب بأنني أتحمّل المسؤولية الكاملة عن الكتاب شكلاً ومضموناً، ولكن لا بدّ من ردّ الفضل لأصحابه الذين تكبّدوا عناء قراءة المخطوط قبل نشره، وأبدوا ملاحظات أخذتُ ببعضها وأهملتُ بعضها الآخر.
- وعلى سيرة النقاد والنقد، كيف تفسر العلاقة المتأزمة دائماً بين الكتاب والنقاد وعلى مختلف الصعد الإبداعية؟
** بشكلٍ عام ثمة فجوةٌ رهيبة بين النص والناقد عربياً. يمكن القول بلا مبالغة بأن الكاتب يسبق الناقد بأشواط، سواء أكان ذلك على صعيد التجريب في الشّكل، أم التقاط التفاصيل، أم حتّى ذخيرة القراءات والتجارب الحياتية. عربياً، المبدع في وادٍ والناقد في وادٍ آخر على مسافة لا تقلّ عن عقدين أو ثلاثة. بالتأكيد، ثمة استثناءات نادرة تؤكّد هذه القاعدة، مثل الدكتور فيصل درّاج الذي يقرأ النص فيعيد كتابته بشكلٍ من الأشكال. هنا يتّحد الناقد مع المبدع، وأظن أن هذه هي مهمة النقد.
- هناك أشكال كثيرة للقصة القصيرة يعتبر البعض أصعبها القصة القصيرة جداً، لماذا برأيك؟
** بدايةً، أودّ تسجيل اعتراضٍ على تسمية قصة قصيرة جداً، إذ إني لا أعرف حقيقةً الفرق بين القصة القصيرة و"القصة القصيرة جداً". أفضّل استخدام المصطلح الغربيّ "الفلاش" أو "القصة الصغيرة" كما يسميها "إيتالو كالفينو" معظم الأحيان، أنا لا أعرف طول القصة التي سأكتبها، لذا تجد تلك التباينات في الطول بين قصص (شبابيك) أو قصص مجموعتي الثانية (متر مربع من الحنين).
القصة القصيرة فنٌ يعتمد بشكل أساسيّ على الاختزال، وهنا تكمن صعوبتها. بالتأكيد، تزداد الصعوبة بازدياد الاختزال، إذ يجب عليك إيصال الفكرة بأقل عدد من الكلمات. كذلك، أنا أميل للحذف مع كلّ قراءةٍ أو مراجعةٍ للقصة، بهدف تحقيق حلمٍ أشبه بالمستحيل هو كتابة نصٍّ لا يمكن فيه حذف حرفٍ دون أن يتسبّب بفجوةٍ ما قد تؤدي إلى انهيار النص بأكمله. نصٌّ مشدود لا مكان للترهّل أو الاستطراد فيه.
- هل تفكر بالانتقال إلى الرواية؟ ولماذا؟
** شخصياً، لا أحب قراءة النصوص الطويلة، وبالتالي ليس لديّ صبر يكفي لكتابة مثل هذا النص. يصيبني الملل في قراءة معظم الروايات، وقد كانت الروايات القليلة التي أحببتها روايات قصيرة، وهذا الأمر ينطبق على الرواية المكتوبة بالعربية أو بلغة أخرى. في جلساتي الخاصة، أقول مازحاً لأصدقائي بأنني سأكتب روايةً لأنني أكره الرواية، لذلك سأكتب روايةً أحب قراءتها. هذا ما أخطط له حالياً، إذ أحضّر لكتابة رواية يكون فيها الشّكل العام منطلقاً من تلك التفاصيل الصغيرة التي تقوم عليها القصة القصيرة. وقد كان المبدع الراحل إبراهيم أصلان سبّاقاً إلى كتابة هذا النوع في كتابيه (وردية ليل) و(حجرتان وصالة). هو نوع من "المتتالية" كما سمّاها.
- ما هو مشروعك الإبداعي؟ أي أين يقف وأين يبدأ وما هي ملامحه كما تتوقعها بعد سنوات؟
** أعتقد أن هدف كل كاتب هو إعادة كتابة التاريخ، كما قلت لك، ومشروعي الشخصيّ لا يبتعد كثيراً عن هذا التوصيف. أحاول كتابة تاريخ المهمَّشين مستنداً على تفاصيلهم الصغيرة. إن لوحة الفسيفساء بإطارها العام وتفاصيلها الصغيرة الملوّنة هدفٌ مغرٍ لكلّ كاتب، وهذا هو هدفي ببساطة. وأعتقد أنني سأبقى مخلصاً للقصة القصيرة، مع محاولةٍ قد تكون وحيدة لكتابة الرواية. قد أكتب سيناريو للسينما أو عملاً مسرحياً، ولكن ستبقى القصة القصيرة هي عالمي الذي أرتاح فيه.
- بين الترجمة والقصة أيهما أقرب إليك؟
** بدأت الكتابة والترجمة في الفترة ذاتها تقريباً، ولم يكن هناك تفضيلٌ شخصيّ لهذه أو تلك. ومع تفرّغي شبه التام للكتابة والترجمة بعد عملي لسنوات في الصحافة اليومية، أصبحت الترجمة هي مصدر عيشي الوحيد تقريباً، وهذا الأمر قد يُنقص من مكانها في الروح قليلاً، إذ أضطر أحياناً لترجمة ما لا أحب كي أبقى محافظاً على استقلالي الماديّ وتفرّغي الذي بدأ بسنّ صغيرة نسبياً.
مع الاستقرار البطيء التدريجي، بدأت بتحديد خياراتي الشخصية في الترجمة. أعمل الآن على مشروعٍ يندرج ضمن حقل (الدراسات الثقافية) يضم عشرات الكتب التي أسعى لترجمتها، مع استراحاتٍ بين الحين والآخر لترجمة الشعر والسّرد. ولقد أنهيتُ ترجمة كتابٍ عن السينما التعبيريّة الألمانية وبدأتُ بترجمة كتاب فكريّ ورواية. أما القصة القصيرة فقد بقيت هوايتي الأثيرة، لذلك هي أقرب إليّ الآن.
الشاعر "رائد وحش" تحدث عن "يزن" بقوله: «أظنّ أن "يزن الحاج" يكتب بعناد شديد فكثيرٌ من قصصه المنشورة، أو غير المنشورة، تسعى إلى مشاكسة هدوء قارئها وإزعاجه من أجل توريطه بفكرة نصٍّ ستصبح مأزقاً عما قليل».
فيما قال الروائي "أيمن مارديني": «يتمتع بأسلوبٍ خاص يتميز بأدوات البحث عن شكلٍ يميزه، واضحة معالمه في تقسيماته القصصية، واختلاف طول القصة من إحداها الى أخرى. يحاول أن يترك أثراً في القارئ من خلال خلق جوّ مكثف ومعبّر ليتناول من بعده الفكرة التي يريد إيصالها».
بينما رأت القاصة "رشا عبّاس" أنه لا يجد في الموضوع أية مشكلة: «يفضّل أن يتخلص سريعاً من عبء تلك الجمل التي تملأ صدره. يرتاح ليجد وقتاً يجلس فيه معك في قهوة. يقول لكَ ساخراً من تحت خصلات شعره المجعدة: ماذا سنفعل اليوم لنغيظ أصدقاءنا الروائيين؟».
جدير بالذكر أن القاص "يزن الحاج" من مواليد عام 1985ـ مدينة دير الزور. خريج اللغة الإنكليزية في جامعة الفرات عام 2007 وله مجموعة قصصية بعنوان (شبابيك) (دار النهرين- دمشق- عام 2011) وحالياً يحضّر لنشر مجموعة قصصية ثانية (مترٌ مربّعٌ من الحنين)، إضافةً إلى مشروع رواية قيد الكتابة بعنوان مؤقت (ليس كأي ربيعٍ آخر).
أنهى ترجمة كتاب (السينما التعبيرية الألمانية) ، ويعمل على ترجمة عدد من الكتب في حقل (الدراسات الثقافية).