اسبانيا والاستشراق التجربة التشكيلية .. تناقضات النبش في التاريخ للنفاذ لجغرافيا الشرق
لم تكن علاقة اسبانيا بموضوع الاستشراق بالعلاقة العادية في توافق النبش في خصوصيات هذا التيار الفكري الثقافي التوثيقي والتاريخي لمنطقتين، فقد اكتسبت اسبانيا منافذ التعرّف على الشرق طبعت بها تاريخها وهويّتها التي مهما تنصّلت منها بقيت راسخة في لغتها وتواصلها وأرشيف غارق في دراساته وبحوثه الفنية والثقافية والمعمارية.
بدت ملامح هذا الاستشراق منذ بداياتها الأولى عدائية تصنيفية تمثّلت في مصطلح الاستعراب والمستعربين لتضع التصنيف حدا مفصليا بين مرحلتين مختلفين من تاريخ اسبانيا ككل رغم أنه التاريخ الأعمق الذي خصّها بالتنوّع والاختلاف عن بقية دول أوروبا، حيث أنها سعت ومنذ سقوط الاندلس لردم كل ما له علاقة ثقافيا وفكريا ودينيا ومشهديا واجتماعيا بالحضور الشرقي والعربي الإسلامي بالخصوص.
فقد ساهم التاريخ في حفر نزاعات وصدامات لم تتلاش حدّتها إلا في أواخر القرن الثامن عشر عندما تغيّرت النظرة للشرق كجغرافيا أصبحت منفذا للامتداد والتوسّع، كسعي إمبريالي الغاية منه فرض القوة والسيطرة بحثا عن منطلقات الذاكرة الهوية والتفاعلات الغربية معها ومدى تأثرها وتأثيرها فيها، فكيف تكاثفت العلاقة الجمالية بين فكرة التعبير البصري وثقافة الاستشراق في اسبانيا وهل أثّر هذا التيّار على التجارب التشكيلية الاسبانية؟
Mariano Fortuny
Farhat Art Museum Collections
ساهم التراث الإسلامي في اسبانيا في استفزاز الباحثين الأجانب لتقديم دراسات متعدّدة ومختلفة نبشت في توافقات البوابة الأولى للشرق مثل “واشنطن إرفينغ” و”ديفيد روبرتس” و”جوزيف فيليبرت” الذين قدّموا رؤى تنوّعت مع تنوّع التعرف على التاريخ الإسلامي في اسبانيا وقد كانت الدراسات المختلفة عبارة عن ردّة فعل على الباحثين الاسبان الذين أهملوا التراث الإسلامي إلى حد كبير في البحث الفني والتأريخي والتوثيقي بكل جوانبه وخصوصا الجوانب الثقافية والفنية وهو ما شكّل الفجوة الكبرى وبالخصوص جعل من رؤية الاستشراق لدى الاسبان مجرّد ردّة فعل بصرية على المخيال العام حتى أن ترجمة الكتب التي تناولت فكرة الاستشراق بالبحث للغة الاسبانية كادت تبدو مقتضبة وكأنه موضوع لم يتحمّل الاهتمام أو لو يفتح منافذ الصدام الفكري والحضاري لأنها في الأصل موجودة، مثل كتاب ادوارد سعيد “الاستشراق” الذي أقرّ “أن العلاقة بين اسبانيا والإسلام كانت شديدة الكثافة والتعقيد وأن اسبانيا قدّمت استثناء ملحوظا لتحليله الثقافي للاستشراق الفرنسي والبريطاني والأمريكي باعتبار أن الإسلام كان لفترة طويلة جزء من الثقافة الاسبانية وليس قوة خارجية بعيدة”، فالعلاقة بين اسبانيا والشرق علاقة خاصة ومعقّدة انعكست في الأثر الفني والثقافة البصرية.
فقد كان الفنانون والمهندسون والمعماريون والكتاب الاسبان على دراية بالنظرة الاستشراقية للفنانين الأجانب الذين اعتبروا الاسبان غريبين حسب دراسة قدّمها المؤرخ “أسامة مقدسي” رأى فيها أن الغرب كان ينظر لاسبانيا بأنها جزء من الشرق وبأنها الباب المنفذ الممتد للمغرب وهو ما أراد الاسبان تفنيده بتقديم صورة مختلفة تعكس تنوّعهم، ما حمّل موقفهم ازدواجية الانتماء والاندماج والهويّة التي خلقت المفارقات المختلفة والجدل حول الظاهرة باعتبار أن الرسامين صوّروا كما تبادر في ذهنيّتهم وتفاعلوا كما تخزّن في رؤاهم الواعية واللاواعية في تناقضاتها الحسيّة بين الكره والاندماج بين الأيدولوجيا والتذكّر.
وهو ما بدا في تعامل الفنانين مع الأثر الشرقي والإسلامي فهنا يقول الكاتب الاسباني “أسون بيريز غونزاليس” عن ترميم قصر الحمراء بين 1847 و1889من قبل “رافاييل كونتريراس” “على الرغم من أنه كان يسعى للحفاظ على الكنز الوطني واستعادته لم يستطع مقاومة إضافة ملامح استشراقية للقصر حتى تتطابق مع الرؤى الرومنسية التي جعلت المبنى بشهرته المعروفة بل وقف عاجزا أمام عظمتها التي منها اكتسبت اسبانيا هويتها الجمالية المزدوجة”.
فهذه الهويّة تأثّرت بها كل أوروبا وأصبحت تبحث عنها في المجسّمات وفي الزخرف والألوان بما يتيح خلق الدمج البصري الغربي والشرقي كما في مدريد وغرناطة وبالتالي تحوّلت اسبانيا إلى ظاهرة بصرية أثّرت بصريا وثقافيا على كل أوروبا.
كما أتاحت الحرب الاسبانية المغربية 1859-1860 إمكانيات جديدة للفنانين الاسبان لبلورت رؤية جديدة للشرق وتحوّلا آخر على مستوى التعاطي مع الصورة حيث انغمس الفنانون في مواقف متضاربة تمثّلت في تمجيد القوة الاسبانية كردّة فعل حضارية أن الاسباني هو الأقوى الذي حقّق المجد على أرضه وقدم ليحقّقه في بلد رآه متخلّفا، وهنا يقع الاستفزاز البصري من خلال اللوحات التي بالغت في تجسيد المغربي بملامح بشعة ومظهر رثّ وهو ما بدى مع ماريانو فورتي المستشرق الاسباني الأكثر تأثيرا وكذلك “خوسيه تابيرو” و”ماريانو بيرتوتشي” و”إي بارو” الذين نقلو صورة المغرب للإسبان من الداخل المغربي الذي عاشوا فيه أكثر من 20 سنة حيث ركّزوا على الايثنوغرافيا والتنوع العرقي لخلق تناحرات وتداخل صدامي في التعاييش.
baldomero-galofre-y-gimenez
لقد مثّل وجود العرب في اسبانيا المجسّم الأول بتفاصيله المتداخلة فكريا وثقافيا للأثر الشرقي فيها الذي طبع تصورات الهويّة الجديد لها كجغرافيا وثقافة طبعت عاداتها وتقاليدها وميزاتها فكانت متجدّدة مهما حاولت طمس تلك العلامات والأثر عن طريق التعسّف التاريخي لمحو كل ما هو عربي واسلامي.
وهذا الوجود جعل الميزة الأولى في الحضور تُبنى على الصدام وبالتالي كل ما حُمل من تلك الذاكرة كان مبنيا على العدائية والتوحّش في الثقافة والحضور في الفكر والسيطرة ما ترسّخ في المخيال العام لمتساكني المنطقة من حيث ما تحمّلته الصورة الفنية في كل تلك التفاعلات الفكرية والفلسفية التي تم سردها خاصة وأن سقوط الاندلس أحدث رغبات متنوّعة في الطمس والإخفاء والإبقاء على مجرد صور دموية واعتبارات مختلفة في فرض السيطرة مع الاستفادة من المعالم والأثر المعماري والهندسي والفني.
وقد تفاوتت المرحلة الاستشراقية في التعبير الفني بين دلالات مختلفة ومراحل تنوعت بين الحضور العربي والتداخل التعبيري في تحوّل الصورة والرؤى الامبريالية بين التخيّل المتعمّد والخيال المنقول والصور المكتشفة من جنوب ضفة المتوسّط عبر المغرب العربي وهي الرؤية التي تركت صورة الأندلس لتبني صورا أخرى ارتكزت على الواقعية والتعسف في نقل الواقع حسب الأحكام المسبقة في نظرة الاسباني للشرق.
JOSEPH SINTES SPANISH 1829-1913
فقد نقل الرسامون المشاهد العامة ذات الخصوصيات الإسلامية في اسبانيا من معالم وآثار حتى يجسّدوها كمشاهد ومنافذ لفرض الذات الغربية، حيث تفاعلت حركتهم مع المستعربين بنقل تصورات جديدة كان النظر فيها للشرق على أساس أنه دموي محتل فكانت التناقلات ترتكز على المرجعيات المختلفة التي وصفت صور الشرق في ذلك التناحر والحروب والصدام، وهو ما أسّس إلى فكرتين في حضورهما توافقت بين الشرقنة أي نقل الشرق لاسبانيا منذ بداية الفتح والاستعراب أو ما يسمى بالاستشراق أي تحوّل الرؤية من الاسباني الغربي المسيحي إلى هذا الشرق المحتل، وتحويل الشرق إلى منافذ تعبيرية تصويرية تمهيدا للاحتلال.
إن الاختلاف العكسي الذي خلقته فكرة الاستشراق لدى الفنانين الاسبان جعلت التحوّلات المنهجية على مستوى الرسم والتعبير تختلف بدورها في مواضع معنوية شملت المنهج المفهومي فقد صوّرت الشخوص بملامح وحشية بشعة أو حادة عكست تلك الصورة المسرودة من التاريخ الذي اعتبر الوجود العربي تعسفيا على المنطقة فكان التوافق التعبيري معه نمطيا من حيث الحكم المسبق باعتبار المسلم رجل حرب تاريخه بين الحروب والجواري، تمادت تلك الصورة حتى مع رحلات الرسامين الاسبان إلى المغرب حيث تفعّلت الصورة في قبحها الذي جرّد الشخوص من مثالياتها الجمالية التي وقفت بشكل متضاد مع الطبيعة أما المرأة فقد بدت مجرّد صورة تشكّلت كمجرّد تابع مستضعف في مواقف حضورها بين السيطرة والكيد والخضوع والتبعية على مستويات شكلية وحسيّة وإيروتيكية مغلّفة بالمبالغات.
من جهة أخرى تأثّر الاسبان في توظيف العمارة والزخرفة والجماليات الحرفية وتركيب الألوان وخلق التدرج اللوني مع الضوء واستغلال الفراغ والاستفادة من الخط العربي والتوافق معها من حيث الموروث الثقافي وهو ما جعل الفنون الاسبانية تشكّل ميزة في أوروبا كما أثّرت على حركات الفن الحداثية، فالقصور العربية الاندلسية التي حملت دلالات الهيمنة تغيّرت نظرتها وأصبحت رمز الهوية الذاكرة الحاضرة والخاضعة وعلامة انتصار بصرية بالغ المستشرقون الاسبان في توظيفها لتحاكي الروح الاسبانية وهو ما جعلها في حالة تناقض بين الحاضر والماضي بين القبول بالفكرة كثقافة وتثاقف وبين النفور منها من حيث أنها الماضي المهيمن على الجغرافيا، من الصعب طمسه وتجاوزه لأنه مهما غيّب يظهر في كل حركة ولون وتشكيل.
لم تكن علاقة اسبانيا بموضوع الاستشراق بالعلاقة العادية في توافق النبش في خصوصيات هذا التيار الفكري الثقافي التوثيقي والتاريخي لمنطقتين، فقد اكتسبت اسبانيا منافذ التعرّف على الشرق طبعت بها تاريخها وهويّتها التي مهما تنصّلت منها بقيت راسخة في لغتها وتواصلها وأرشيف غارق في دراساته وبحوثه الفنية والثقافية والمعمارية.
بدت ملامح هذا الاستشراق منذ بداياتها الأولى عدائية تصنيفية تمثّلت في مصطلح الاستعراب والمستعربين لتضع التصنيف حدا مفصليا بين مرحلتين مختلفين من تاريخ اسبانيا ككل رغم أنه التاريخ الأعمق الذي خصّها بالتنوّع والاختلاف عن بقية دول أوروبا، حيث أنها سعت ومنذ سقوط الاندلس لردم كل ما له علاقة ثقافيا وفكريا ودينيا ومشهديا واجتماعيا بالحضور الشرقي والعربي الإسلامي بالخصوص.
فقد ساهم التاريخ في حفر نزاعات وصدامات لم تتلاش حدّتها إلا في أواخر القرن الثامن عشر عندما تغيّرت النظرة للشرق كجغرافيا أصبحت منفذا للامتداد والتوسّع، كسعي إمبريالي الغاية منه فرض القوة والسيطرة بحثا عن منطلقات الذاكرة الهوية والتفاعلات الغربية معها ومدى تأثرها وتأثيرها فيها، فكيف تكاثفت العلاقة الجمالية بين فكرة التعبير البصري وثقافة الاستشراق في اسبانيا وهل أثّر هذا التيّار على التجارب التشكيلية الاسبانية؟
Mariano Fortuny
Farhat Art Museum Collections
ساهم التراث الإسلامي في اسبانيا في استفزاز الباحثين الأجانب لتقديم دراسات متعدّدة ومختلفة نبشت في توافقات البوابة الأولى للشرق مثل “واشنطن إرفينغ” و”ديفيد روبرتس” و”جوزيف فيليبرت” الذين قدّموا رؤى تنوّعت مع تنوّع التعرف على التاريخ الإسلامي في اسبانيا وقد كانت الدراسات المختلفة عبارة عن ردّة فعل على الباحثين الاسبان الذين أهملوا التراث الإسلامي إلى حد كبير في البحث الفني والتأريخي والتوثيقي بكل جوانبه وخصوصا الجوانب الثقافية والفنية وهو ما شكّل الفجوة الكبرى وبالخصوص جعل من رؤية الاستشراق لدى الاسبان مجرّد ردّة فعل بصرية على المخيال العام حتى أن ترجمة الكتب التي تناولت فكرة الاستشراق بالبحث للغة الاسبانية كادت تبدو مقتضبة وكأنه موضوع لم يتحمّل الاهتمام أو لو يفتح منافذ الصدام الفكري والحضاري لأنها في الأصل موجودة، مثل كتاب ادوارد سعيد “الاستشراق” الذي أقرّ “أن العلاقة بين اسبانيا والإسلام كانت شديدة الكثافة والتعقيد وأن اسبانيا قدّمت استثناء ملحوظا لتحليله الثقافي للاستشراق الفرنسي والبريطاني والأمريكي باعتبار أن الإسلام كان لفترة طويلة جزء من الثقافة الاسبانية وليس قوة خارجية بعيدة”، فالعلاقة بين اسبانيا والشرق علاقة خاصة ومعقّدة انعكست في الأثر الفني والثقافة البصرية.
فقد كان الفنانون والمهندسون والمعماريون والكتاب الاسبان على دراية بالنظرة الاستشراقية للفنانين الأجانب الذين اعتبروا الاسبان غريبين حسب دراسة قدّمها المؤرخ “أسامة مقدسي” رأى فيها أن الغرب كان ينظر لاسبانيا بأنها جزء من الشرق وبأنها الباب المنفذ الممتد للمغرب وهو ما أراد الاسبان تفنيده بتقديم صورة مختلفة تعكس تنوّعهم، ما حمّل موقفهم ازدواجية الانتماء والاندماج والهويّة التي خلقت المفارقات المختلفة والجدل حول الظاهرة باعتبار أن الرسامين صوّروا كما تبادر في ذهنيّتهم وتفاعلوا كما تخزّن في رؤاهم الواعية واللاواعية في تناقضاتها الحسيّة بين الكره والاندماج بين الأيدولوجيا والتذكّر.
وهو ما بدا في تعامل الفنانين مع الأثر الشرقي والإسلامي فهنا يقول الكاتب الاسباني “أسون بيريز غونزاليس” عن ترميم قصر الحمراء بين 1847 و1889من قبل “رافاييل كونتريراس” “على الرغم من أنه كان يسعى للحفاظ على الكنز الوطني واستعادته لم يستطع مقاومة إضافة ملامح استشراقية للقصر حتى تتطابق مع الرؤى الرومنسية التي جعلت المبنى بشهرته المعروفة بل وقف عاجزا أمام عظمتها التي منها اكتسبت اسبانيا هويتها الجمالية المزدوجة”.
فهذه الهويّة تأثّرت بها كل أوروبا وأصبحت تبحث عنها في المجسّمات وفي الزخرف والألوان بما يتيح خلق الدمج البصري الغربي والشرقي كما في مدريد وغرناطة وبالتالي تحوّلت اسبانيا إلى ظاهرة بصرية أثّرت بصريا وثقافيا على كل أوروبا.
كما أتاحت الحرب الاسبانية المغربية 1859-1860 إمكانيات جديدة للفنانين الاسبان لبلورت رؤية جديدة للشرق وتحوّلا آخر على مستوى التعاطي مع الصورة حيث انغمس الفنانون في مواقف متضاربة تمثّلت في تمجيد القوة الاسبانية كردّة فعل حضارية أن الاسباني هو الأقوى الذي حقّق المجد على أرضه وقدم ليحقّقه في بلد رآه متخلّفا، وهنا يقع الاستفزاز البصري من خلال اللوحات التي بالغت في تجسيد المغربي بملامح بشعة ومظهر رثّ وهو ما بدى مع ماريانو فورتي المستشرق الاسباني الأكثر تأثيرا وكذلك “خوسيه تابيرو” و”ماريانو بيرتوتشي” و”إي بارو” الذين نقلو صورة المغرب للإسبان من الداخل المغربي الذي عاشوا فيه أكثر من 20 سنة حيث ركّزوا على الايثنوغرافيا والتنوع العرقي لخلق تناحرات وتداخل صدامي في التعاييش.
baldomero-galofre-y-gimenez
لقد مثّل وجود العرب في اسبانيا المجسّم الأول بتفاصيله المتداخلة فكريا وثقافيا للأثر الشرقي فيها الذي طبع تصورات الهويّة الجديد لها كجغرافيا وثقافة طبعت عاداتها وتقاليدها وميزاتها فكانت متجدّدة مهما حاولت طمس تلك العلامات والأثر عن طريق التعسّف التاريخي لمحو كل ما هو عربي واسلامي.
وهذا الوجود جعل الميزة الأولى في الحضور تُبنى على الصدام وبالتالي كل ما حُمل من تلك الذاكرة كان مبنيا على العدائية والتوحّش في الثقافة والحضور في الفكر والسيطرة ما ترسّخ في المخيال العام لمتساكني المنطقة من حيث ما تحمّلته الصورة الفنية في كل تلك التفاعلات الفكرية والفلسفية التي تم سردها خاصة وأن سقوط الاندلس أحدث رغبات متنوّعة في الطمس والإخفاء والإبقاء على مجرد صور دموية واعتبارات مختلفة في فرض السيطرة مع الاستفادة من المعالم والأثر المعماري والهندسي والفني.
وقد تفاوتت المرحلة الاستشراقية في التعبير الفني بين دلالات مختلفة ومراحل تنوعت بين الحضور العربي والتداخل التعبيري في تحوّل الصورة والرؤى الامبريالية بين التخيّل المتعمّد والخيال المنقول والصور المكتشفة من جنوب ضفة المتوسّط عبر المغرب العربي وهي الرؤية التي تركت صورة الأندلس لتبني صورا أخرى ارتكزت على الواقعية والتعسف في نقل الواقع حسب الأحكام المسبقة في نظرة الاسباني للشرق.
JOSEPH SINTES SPANISH 1829-1913
فقد نقل الرسامون المشاهد العامة ذات الخصوصيات الإسلامية في اسبانيا من معالم وآثار حتى يجسّدوها كمشاهد ومنافذ لفرض الذات الغربية، حيث تفاعلت حركتهم مع المستعربين بنقل تصورات جديدة كان النظر فيها للشرق على أساس أنه دموي محتل فكانت التناقلات ترتكز على المرجعيات المختلفة التي وصفت صور الشرق في ذلك التناحر والحروب والصدام، وهو ما أسّس إلى فكرتين في حضورهما توافقت بين الشرقنة أي نقل الشرق لاسبانيا منذ بداية الفتح والاستعراب أو ما يسمى بالاستشراق أي تحوّل الرؤية من الاسباني الغربي المسيحي إلى هذا الشرق المحتل، وتحويل الشرق إلى منافذ تعبيرية تصويرية تمهيدا للاحتلال.
إن الاختلاف العكسي الذي خلقته فكرة الاستشراق لدى الفنانين الاسبان جعلت التحوّلات المنهجية على مستوى الرسم والتعبير تختلف بدورها في مواضع معنوية شملت المنهج المفهومي فقد صوّرت الشخوص بملامح وحشية بشعة أو حادة عكست تلك الصورة المسرودة من التاريخ الذي اعتبر الوجود العربي تعسفيا على المنطقة فكان التوافق التعبيري معه نمطيا من حيث الحكم المسبق باعتبار المسلم رجل حرب تاريخه بين الحروب والجواري، تمادت تلك الصورة حتى مع رحلات الرسامين الاسبان إلى المغرب حيث تفعّلت الصورة في قبحها الذي جرّد الشخوص من مثالياتها الجمالية التي وقفت بشكل متضاد مع الطبيعة أما المرأة فقد بدت مجرّد صورة تشكّلت كمجرّد تابع مستضعف في مواقف حضورها بين السيطرة والكيد والخضوع والتبعية على مستويات شكلية وحسيّة وإيروتيكية مغلّفة بالمبالغات.
من جهة أخرى تأثّر الاسبان في توظيف العمارة والزخرفة والجماليات الحرفية وتركيب الألوان وخلق التدرج اللوني مع الضوء واستغلال الفراغ والاستفادة من الخط العربي والتوافق معها من حيث الموروث الثقافي وهو ما جعل الفنون الاسبانية تشكّل ميزة في أوروبا كما أثّرت على حركات الفن الحداثية، فالقصور العربية الاندلسية التي حملت دلالات الهيمنة تغيّرت نظرتها وأصبحت رمز الهوية الذاكرة الحاضرة والخاضعة وعلامة انتصار بصرية بالغ المستشرقون الاسبان في توظيفها لتحاكي الروح الاسبانية وهو ما جعلها في حالة تناقض بين الحاضر والماضي بين القبول بالفكرة كثقافة وتثاقف وبين النفور منها من حيث أنها الماضي المهيمن على الجغرافيا، من الصعب طمسه وتجاوزه لأنه مهما غيّب يظهر في كل حركة ولون وتشكيل.