التعبيرية المعاصرة فلسفة التناقض بين البناء والهدم
مقارنة تجريبية الألماني Anselm Kiefer واللبناني بسام كيرلس
تقترن الرؤى التجريبية لفنون ما بعد الحداثة بالأرض والانسان بالذات المنطلقة في عوالمها والباحثة في واقعها فتستسيغ التفاعل معها وتستنطق جوانبها البصرية بفلسفة تختلف في رؤاها عن التجارب المألوفة وهو ما يضع المتلقي أمام تقاسيم جديدة للمدارس الفنية التي تستلهم التفاصيل الباقية من الأساليب المتعوّد عليها وتبحث عن النقاط التجريبية المجدّدة.
وهو ما يمكن الإشارة له في التجريب التعبيري الذي يخوضه اللبناني بسام كيرلس في خلق ثنائية جدلية بحثية في منجزه الفني النحتي تناولت فكرة الهدم وإعادة البناء وخلق منافذ للأمل بين الحطام والإعمار تلاشت تفاصيله في الكينونة البنيوية التي صنعت للخراب معنى وللفوضى دلالات، ولعل مثل هذا التجريب يحيل إلى العملية العكسية التي ابتكرها التشكيلي الألماني أنسالم كيفر في مفهومية البناء والهدم التي تقدّم تفاصيل متقابلة لكل من الأحاسيس الذهنية والذاكرة التي استجمعها من حرب لم يعشها ولم يعايشها ولكنه خزّنها وكرّرها بصخب كان أكثر تأثيرا في خلق تفاصيل فنية معاصرة جديدة لخّصها في رؤى تتذكّر المستقبل بفرض تماس جدليّ مع الماضي استدرج فيها الترتيب المجازي بين زمنين متناقضين أثّرا على رؤيته الفنية وعلى أسلوبه في التنفيذ.
*بسام كيرلس
للتجربتين تصوّرات مختلفة في تفاصيلها وتشابه يتناقض في التوافق التعبيري عن مراحل احتاجت إلى الكثير من العبث والفوضى لترتّب صخبها وتربّت على الذاكرة بين توازناتها الثقيلة وموازينها الخفيفة التي انفلتت من فراغها لتردّد نحتا ورسما تلك التصورات.
فبين كيفر وكيرلس حرب استحالت إلى ذاكرة استوجب تذكّرها تحويلها لمخزون تاريخي وإرث له منطقه المردّد للفوضى بلغة الهدم التي اعتمدها كيفر وأخرى طبع فيها بسام كيرلس معايشاته للحرب وفعلها الهدّام في الذهن لترتّبه وتستثيره أعمق في البناء الذي يستحق من خلاله الانسان الاستقرار والثبات.
Anselm Kiefer*
تماس الذاكرة بين مستقبلين
ولد كيفر في ألمانيا قبل انتهاء الحرب بخمسة أشهر في بلد طاله الخراب دون أن يحمل من تلك التفاصيل ذاكرة أو ذكريات فردية أو تجربة شخصية عن النازية وتأثير الأيديولوجيا الفاشية وفكرة الحرب وما حلّ بألمانيا من خراب وتقسيم بعدها،فكل تلك التفاصيل والأحداث شكّلت عناصر عميقة في الانتماء للقصص المحكية التي تلت الحرب كفكرة مجرّدة لذلك استهوته تفاصيل السرد الشخصية والتساؤلات الوجودية والبحث المختلف عن الأحاسيس المنفلتة من عمق كل من عايشوا الحرب وسردوا تبعاتها شعرا وأدبا وبصريات وبالتالي تجلت العناصر الأيقونية والعلامات البصرية في رؤاه فغرق في العلوم الاثنية والتاريخ الجرماني والعوالم الروحانية والكونية ليدمج كل تلك العناصر معا في فضائه ويطوّعها وفق مزاجه الذي لم يهمل تفصيلا حادا ولا مشهدا عنيفا ولا حطاما إلا وأعاد به نسج الذاكرة ليحرّرها بربطها بالماضي.
أما بسام كيرلس فقد ولد في لبنان وعاش ذاكرتها الجميلة التي لم يطلها الخراب واستدرجه الانتماء إلى سنوات من الدمار أسّست لها الحرب الأهلية ودعّمتها الأحداث العاصفة التي عرفها التاريخ اللبناني بكل تفاصيلها من الاجتياح العدواني الإسرائيلي إلى التصادم المسلح الداخلي والتقسيم الطائفي كل تلك التجاذبات لم يسمع عنها بل عايشها وخزّنها في ذاكرته التي تأسّست مع مستقبله لتلتقط مفاهيمه التي بناها على الفلسفة والتاريخ والتفاعل مع روح الأساطير الفينيقية والتصورات الإنسانية التي رسّختها أفكار جبران خليل جبران.
وبين الذاكرتين مراحل من الفن أسّست العمق الذي جسّده كلاهما في المفهوم العام لفكرة الذاكرة التي تخزن الحروب إنسانيا تعبيريا وفنيا فبينما يرى كيفر في التدمير والحطام ذاكرة للمستقبل القادم وللأجيال يعتبر كيرلس أن التدمير هو ولادة جديدة وانتماء طبيعي لذات تبحث عن الاستقرار بعيدا عن الشتات في ذواتها التواقة للثبات والأمان وتجنب العبث في فوضى الحرب.
في تصويره الفني نحتا ورسما يغلق كيفر التاريخ ويعيد فتحه بروح العصر من جديد على تصوراته المستقبلية التي يبتكر من خلالها خاماته فيحاول أن يتفادى مأزق ذلك التاريخ وتبعاته وما يترتب عنه من أسئلة وجودية عاشها أغلب أبناء جيله بحثا عن الذات والروح لتفادي المغالطات التي انحصر فيها الوجود الذاتي للانتماء الألماني.
فكأنه يقف مع نفسه ليتحدى ذلك التاريخ من خلال الذاكرة التي تطل على المستقبل بعلامات الماضي وبدمار يستفيض من تلك النتوءات والألوان التي تصنعها الخامات التي يصبها على الحجارة والحديد المذاب والقمامة التي يعيد تدويرها لتتراكم مع السواد المعتم في فراغات الأعمال التي يشكّلها في مساحة اللوحات الضخمة وفي الوسائط التي يشتغل عليها من خلال التركيب المفاهيمي والتعبيرية المعاصرة.
لتتمادى أعماله أبعد في التوصيف الحسي والمادي من خلال تعميقه لفكر اللاهوتي والتصورات الغيبية السرمدية التي تمكّنه من التنقل عبر الأزمنة، فهو لا يؤرّخ بقدر ما يستعير من التاريخ والأسطورة والماضي الأشكال التي يتعمّد توظيفها كجسور تعيده إلى التاريخ نفسه ليفكّكه بالتحرّر منه.
تبدو البناءات التي يتوافق معها العمل المنجز من قبل كيفر قريبة في تواصلها مع المتلقي، حيث يبتكر منها التدرّج اللوني الذي لا يعتمد فيه على اللون بقدر ما يعتمد على الطبقات والنتوءات والكثافة والأبعاد المعتمة والمضيئة في تناقض النور والعتمة من خلال الخامة وما فيها، حتى تكون قادرة على خلق مسافة الاكتشاف للمتلقي وهنا يعمل بصريا وحسيا من خلال التلامس بين العناصر المشتغل عليها والمشاهد المُنجزة.
وبالتالي تساعده التقنيات التي يبتكرها مع كل عمل وفكرة على التحكم في المساحة من خلال تطويع الفضاءات المسطّحة والتي جعلها من خلال رؤاه تخصّصا ألمانيا جمع بين الواقعية التعبيرية والانطباعية بخلق فلسفة جديدة بين الفن والجمال كسرت المألوف في البناء الجمالي، فرغم أنها تبدو غريبة ومستفزة وكئيبة في تفاعلاتها مع حواس المشاهد وهو ما يبلور العلاقة بين المنجز الفني نحتا ورسما وتركيبا وبين الفكرة والرسالة الفنية والمتلقي المعاصر للتاريخ إلا أنها تقدّم له تاريخا يستشرف الواقع والمستقبل بذاكرة واثقة لا تنسى أي تفصيل من الماضي.
في تجربة بسام كيرلس تتسم التصورات بالكثير من المعايشة والتفاعل فهو يتقمّص العمل ويتشكّل معه ليستثير معه الكثير من القيم الفنية التقنية الجمالية والبصرية التي تستنهض فيه العلامات والرموز المحمّلة بالفكرة التي تعاملت مع البناء على الأنقاض من أجل استدراج مخيّلة المتلقي نحو العمارة وبالتالي تحريره من خيالاته السوداوية وترتيبها في النحت المتمازج مع الفوضى حتى يكون قادرا فنيا على تحمّل الموقف والمشاعر المتراكمة التي تفصله عن الذاتي نحو التعبيري والواقعي.
حسب التوافق الذي من خلاله اختار تجميع الخامة الجامدة والصلبة لتكوين عناصر النحت كمنطلق للبناء حتى يكون قادرا على تطويعها لتشكيل حكايات التاريخ والماضي، قام كيرلس بخلق توافق بين انسجامات الحاضر وتناقضاته مستلهما من الأرض تاريخها القديم وعلاقتها مع عناصر الطبيعة.
فبين التاريخ والأرض وفكرة التعايش والسكن تتفجر الطبيعة مع القوة الإنسانية لتمزج الفكرة بالمشاعر وكأنها التربة التي تندمج مع الماء وتتمتن بالهواء والنار كصقل حمل هموم الواقع مع الأساطير الخالدة والمعمار الواضح بمعالمه الباقية والمُحطّمة.
ففي الفوضى والهدم خلق كيرلس فلسفته البصرية التي وحّدت لبنا أرضا وإنسانية في عناصر اكتماله الجغرافي وهو يوظّف العلامة ويقوم بصقلها مع الخامة، ليعيد ابتكار جمالياته الحسيّة من منطلقات فلسفة بصرية جديدة قام بمحاورتها جماليا من منطلق ما عبّر عنه هيجل في الجمع بين الروح والخلود.
فحسب مزاجه الحسي ومشاعره ومواقفه من الواقع الإنساني والانتماء، يستجمع المادة بالفكرة الفلسفية التي تستثير مع الجسد الروح والذاكرة والتذكر والحنين ليلامس المكان والزمان، وهو ما أراده من خلالها أن يكون أقرب لعناصره ويستنطق الفكرة بما حمل معها من مواد جامدة غرانيت برونز طين واسمنت وظّف معها أسطورة لطائر الفينيق المنفلت من صليبه.
يبدو البحث الذي يخوضه كيفر متوافقا من حيث العناصر الجمالية الجديدة مع كيرلس من خلال البناء المرتكز على الذاكرة والانطلاق المنفلت من التاريخ والتحرّر من تبعاته لبناء المستقبل حيث الصور أكثر ثباتا والتواصل مع الأرض أكثر قربا للإنسانية في معايشاتها وفي تحليل حسياتها بالتوافق المشترك بين البحث والمعايشة، من أجل الانتصار على القلق وكابوس الخوف من الذاكرة.
بين كيفر وكيرلس تقف الأحلام في تماس واقعي لتكوّن الفن وتخلق أسس المعرفة الجمالية التي تتجادل مع كل مبدأ متناقض بناء وهدما وترميما من خلال فلسفة أساسية توظّف الصور في تطرّفها الأكثر صدمة لتخبر الذاكرة أن كل ما يتبقى من الدمار هو الأرض هو التراب هو التكوين الأول للعنصر الجمالي في الفن والإنسانية.
مقارنة تجريبية الألماني Anselm Kiefer واللبناني بسام كيرلس
تقترن الرؤى التجريبية لفنون ما بعد الحداثة بالأرض والانسان بالذات المنطلقة في عوالمها والباحثة في واقعها فتستسيغ التفاعل معها وتستنطق جوانبها البصرية بفلسفة تختلف في رؤاها عن التجارب المألوفة وهو ما يضع المتلقي أمام تقاسيم جديدة للمدارس الفنية التي تستلهم التفاصيل الباقية من الأساليب المتعوّد عليها وتبحث عن النقاط التجريبية المجدّدة.
وهو ما يمكن الإشارة له في التجريب التعبيري الذي يخوضه اللبناني بسام كيرلس في خلق ثنائية جدلية بحثية في منجزه الفني النحتي تناولت فكرة الهدم وإعادة البناء وخلق منافذ للأمل بين الحطام والإعمار تلاشت تفاصيله في الكينونة البنيوية التي صنعت للخراب معنى وللفوضى دلالات، ولعل مثل هذا التجريب يحيل إلى العملية العكسية التي ابتكرها التشكيلي الألماني أنسالم كيفر في مفهومية البناء والهدم التي تقدّم تفاصيل متقابلة لكل من الأحاسيس الذهنية والذاكرة التي استجمعها من حرب لم يعشها ولم يعايشها ولكنه خزّنها وكرّرها بصخب كان أكثر تأثيرا في خلق تفاصيل فنية معاصرة جديدة لخّصها في رؤى تتذكّر المستقبل بفرض تماس جدليّ مع الماضي استدرج فيها الترتيب المجازي بين زمنين متناقضين أثّرا على رؤيته الفنية وعلى أسلوبه في التنفيذ.
*بسام كيرلس
للتجربتين تصوّرات مختلفة في تفاصيلها وتشابه يتناقض في التوافق التعبيري عن مراحل احتاجت إلى الكثير من العبث والفوضى لترتّب صخبها وتربّت على الذاكرة بين توازناتها الثقيلة وموازينها الخفيفة التي انفلتت من فراغها لتردّد نحتا ورسما تلك التصورات.
فبين كيفر وكيرلس حرب استحالت إلى ذاكرة استوجب تذكّرها تحويلها لمخزون تاريخي وإرث له منطقه المردّد للفوضى بلغة الهدم التي اعتمدها كيفر وأخرى طبع فيها بسام كيرلس معايشاته للحرب وفعلها الهدّام في الذهن لترتّبه وتستثيره أعمق في البناء الذي يستحق من خلاله الانسان الاستقرار والثبات.
Anselm Kiefer*
تماس الذاكرة بين مستقبلين
ولد كيفر في ألمانيا قبل انتهاء الحرب بخمسة أشهر في بلد طاله الخراب دون أن يحمل من تلك التفاصيل ذاكرة أو ذكريات فردية أو تجربة شخصية عن النازية وتأثير الأيديولوجيا الفاشية وفكرة الحرب وما حلّ بألمانيا من خراب وتقسيم بعدها،فكل تلك التفاصيل والأحداث شكّلت عناصر عميقة في الانتماء للقصص المحكية التي تلت الحرب كفكرة مجرّدة لذلك استهوته تفاصيل السرد الشخصية والتساؤلات الوجودية والبحث المختلف عن الأحاسيس المنفلتة من عمق كل من عايشوا الحرب وسردوا تبعاتها شعرا وأدبا وبصريات وبالتالي تجلت العناصر الأيقونية والعلامات البصرية في رؤاه فغرق في العلوم الاثنية والتاريخ الجرماني والعوالم الروحانية والكونية ليدمج كل تلك العناصر معا في فضائه ويطوّعها وفق مزاجه الذي لم يهمل تفصيلا حادا ولا مشهدا عنيفا ولا حطاما إلا وأعاد به نسج الذاكرة ليحرّرها بربطها بالماضي.
أما بسام كيرلس فقد ولد في لبنان وعاش ذاكرتها الجميلة التي لم يطلها الخراب واستدرجه الانتماء إلى سنوات من الدمار أسّست لها الحرب الأهلية ودعّمتها الأحداث العاصفة التي عرفها التاريخ اللبناني بكل تفاصيلها من الاجتياح العدواني الإسرائيلي إلى التصادم المسلح الداخلي والتقسيم الطائفي كل تلك التجاذبات لم يسمع عنها بل عايشها وخزّنها في ذاكرته التي تأسّست مع مستقبله لتلتقط مفاهيمه التي بناها على الفلسفة والتاريخ والتفاعل مع روح الأساطير الفينيقية والتصورات الإنسانية التي رسّختها أفكار جبران خليل جبران.
وبين الذاكرتين مراحل من الفن أسّست العمق الذي جسّده كلاهما في المفهوم العام لفكرة الذاكرة التي تخزن الحروب إنسانيا تعبيريا وفنيا فبينما يرى كيفر في التدمير والحطام ذاكرة للمستقبل القادم وللأجيال يعتبر كيرلس أن التدمير هو ولادة جديدة وانتماء طبيعي لذات تبحث عن الاستقرار بعيدا عن الشتات في ذواتها التواقة للثبات والأمان وتجنب العبث في فوضى الحرب.
في تصويره الفني نحتا ورسما يغلق كيفر التاريخ ويعيد فتحه بروح العصر من جديد على تصوراته المستقبلية التي يبتكر من خلالها خاماته فيحاول أن يتفادى مأزق ذلك التاريخ وتبعاته وما يترتب عنه من أسئلة وجودية عاشها أغلب أبناء جيله بحثا عن الذات والروح لتفادي المغالطات التي انحصر فيها الوجود الذاتي للانتماء الألماني.
فكأنه يقف مع نفسه ليتحدى ذلك التاريخ من خلال الذاكرة التي تطل على المستقبل بعلامات الماضي وبدمار يستفيض من تلك النتوءات والألوان التي تصنعها الخامات التي يصبها على الحجارة والحديد المذاب والقمامة التي يعيد تدويرها لتتراكم مع السواد المعتم في فراغات الأعمال التي يشكّلها في مساحة اللوحات الضخمة وفي الوسائط التي يشتغل عليها من خلال التركيب المفاهيمي والتعبيرية المعاصرة.
لتتمادى أعماله أبعد في التوصيف الحسي والمادي من خلال تعميقه لفكر اللاهوتي والتصورات الغيبية السرمدية التي تمكّنه من التنقل عبر الأزمنة، فهو لا يؤرّخ بقدر ما يستعير من التاريخ والأسطورة والماضي الأشكال التي يتعمّد توظيفها كجسور تعيده إلى التاريخ نفسه ليفكّكه بالتحرّر منه.
تبدو البناءات التي يتوافق معها العمل المنجز من قبل كيفر قريبة في تواصلها مع المتلقي، حيث يبتكر منها التدرّج اللوني الذي لا يعتمد فيه على اللون بقدر ما يعتمد على الطبقات والنتوءات والكثافة والأبعاد المعتمة والمضيئة في تناقض النور والعتمة من خلال الخامة وما فيها، حتى تكون قادرة على خلق مسافة الاكتشاف للمتلقي وهنا يعمل بصريا وحسيا من خلال التلامس بين العناصر المشتغل عليها والمشاهد المُنجزة.
وبالتالي تساعده التقنيات التي يبتكرها مع كل عمل وفكرة على التحكم في المساحة من خلال تطويع الفضاءات المسطّحة والتي جعلها من خلال رؤاه تخصّصا ألمانيا جمع بين الواقعية التعبيرية والانطباعية بخلق فلسفة جديدة بين الفن والجمال كسرت المألوف في البناء الجمالي، فرغم أنها تبدو غريبة ومستفزة وكئيبة في تفاعلاتها مع حواس المشاهد وهو ما يبلور العلاقة بين المنجز الفني نحتا ورسما وتركيبا وبين الفكرة والرسالة الفنية والمتلقي المعاصر للتاريخ إلا أنها تقدّم له تاريخا يستشرف الواقع والمستقبل بذاكرة واثقة لا تنسى أي تفصيل من الماضي.
في تجربة بسام كيرلس تتسم التصورات بالكثير من المعايشة والتفاعل فهو يتقمّص العمل ويتشكّل معه ليستثير معه الكثير من القيم الفنية التقنية الجمالية والبصرية التي تستنهض فيه العلامات والرموز المحمّلة بالفكرة التي تعاملت مع البناء على الأنقاض من أجل استدراج مخيّلة المتلقي نحو العمارة وبالتالي تحريره من خيالاته السوداوية وترتيبها في النحت المتمازج مع الفوضى حتى يكون قادرا فنيا على تحمّل الموقف والمشاعر المتراكمة التي تفصله عن الذاتي نحو التعبيري والواقعي.
حسب التوافق الذي من خلاله اختار تجميع الخامة الجامدة والصلبة لتكوين عناصر النحت كمنطلق للبناء حتى يكون قادرا على تطويعها لتشكيل حكايات التاريخ والماضي، قام كيرلس بخلق توافق بين انسجامات الحاضر وتناقضاته مستلهما من الأرض تاريخها القديم وعلاقتها مع عناصر الطبيعة.
فبين التاريخ والأرض وفكرة التعايش والسكن تتفجر الطبيعة مع القوة الإنسانية لتمزج الفكرة بالمشاعر وكأنها التربة التي تندمج مع الماء وتتمتن بالهواء والنار كصقل حمل هموم الواقع مع الأساطير الخالدة والمعمار الواضح بمعالمه الباقية والمُحطّمة.
ففي الفوضى والهدم خلق كيرلس فلسفته البصرية التي وحّدت لبنا أرضا وإنسانية في عناصر اكتماله الجغرافي وهو يوظّف العلامة ويقوم بصقلها مع الخامة، ليعيد ابتكار جمالياته الحسيّة من منطلقات فلسفة بصرية جديدة قام بمحاورتها جماليا من منطلق ما عبّر عنه هيجل في الجمع بين الروح والخلود.
فحسب مزاجه الحسي ومشاعره ومواقفه من الواقع الإنساني والانتماء، يستجمع المادة بالفكرة الفلسفية التي تستثير مع الجسد الروح والذاكرة والتذكر والحنين ليلامس المكان والزمان، وهو ما أراده من خلالها أن يكون أقرب لعناصره ويستنطق الفكرة بما حمل معها من مواد جامدة غرانيت برونز طين واسمنت وظّف معها أسطورة لطائر الفينيق المنفلت من صليبه.
يبدو البحث الذي يخوضه كيفر متوافقا من حيث العناصر الجمالية الجديدة مع كيرلس من خلال البناء المرتكز على الذاكرة والانطلاق المنفلت من التاريخ والتحرّر من تبعاته لبناء المستقبل حيث الصور أكثر ثباتا والتواصل مع الأرض أكثر قربا للإنسانية في معايشاتها وفي تحليل حسياتها بالتوافق المشترك بين البحث والمعايشة، من أجل الانتصار على القلق وكابوس الخوف من الذاكرة.
بين كيفر وكيرلس تقف الأحلام في تماس واقعي لتكوّن الفن وتخلق أسس المعرفة الجمالية التي تتجادل مع كل مبدأ متناقض بناء وهدما وترميما من خلال فلسفة أساسية توظّف الصور في تطرّفها الأكثر صدمة لتخبر الذاكرة أن كل ما يتبقى من الدمار هو الأرض هو التراب هو التكوين الأول للعنصر الجمالي في الفن والإنسانية.