معرض بطرس المعرّي..ساحة الموت التي سرقت منّا جبور الدويهي
أتى بطرس المعرّي من بعيد، ومن القارة الأوروبية تحديداً، حيث اختار مكاناً لإقامته، كي يقيم معرضاً في بيروت "الدافئة". الفنان السوري حمل نتاجه من البلاد التي يبدو أنها ستشكو بعض البرد، أو الكثير منه، وبعض القلّة الكهربائية، بعدما صارت تتوسل الغاز من كل مكان، كما نتوسله نحن بلا فائدة حتى الآن. غاز كما الهواء، لكنه، مثله، لا يصلح للتنفس، بل يصبح سمّاً ما لم يشتعل، وينير برجاً حديدياً في العاصمة الفرنسية، لم يسلم من لوثة التقنين، كما أفادتنا بعض الصور، لكن الكهرباء تبقى حاضرة هناك، في حدودها المقبولة شبه الطبيعية.
أما عندنا، في بيروت ولبنان كله، فقد صار حضور الكهرباء إستثناءً، وغيابها واقعاً إعتيادياً. نستعيض عن التيار الكهربائي بالصبر الذي لم يعد جميلاً، وبالخنوع المضرّ بالصحة. صرنا نذهب إلى معارض الفن التشكيلي فيدهشنا العمل الفني وضوء "البروجكتور" الصغير الذي يرمي إشعاعاته عليه.
يأتي معرض بطرس المعرّي، كما المعارض الأخرى المقامة في العاصمة اللبنانية، والتي زاد عددها نسبياً قي الفترة الأخيرة، كردّ فعل واعٍ أو لاواعٍ، أو رمزي ربما، على وضع لم يعد يدعو حتى إلى الإبتسامة المرّة، التي تترافق، بعض الأحيان، مع السخرية والإنكسار والإحباط.
"سمّ في الهواء" هو عنوان المعرض الذي يقيمه المعرّي. سم لم يكن الغاز الطبيعي المذكور مصدره، بل الحياة نفسها، بما تحمله من "هدايا" ليست كلّها شبيهة بما سيتلقاه الأطفال بعد أيام، حين ستحلّ أيام الأعياد، التي لن تُفرح سواهم. العنوان لم يأتِ مصادفة، من حيث تطابقه مع اسم الرواية الأخيرة للراحل جبور الدويهي، بل جاء هذا التطابق في صلب المعرض. كان الفنان قد قرأ روايات عديدة للدويهي، إلى أن تابعت عيناه حوادث رواية الكاتب الأخيرة، التي صارت تسميتها عنواناً للمجموعة من اللوحات لتي تخطت الأربعين من حيث العدد، المعروضة لدى "غاليري كاف"، والتي نحن في صددها. بعد القراءات المذكورة تم لقاء مع الكاتب، الذي كان المرض الخبيث قد فعل فعله في جسده، وجعله هيكلاً ضعيفاً، يتقاوى على أبسط المهمات. رؤية القامة شبه المتهاوية، والوجه النحيل، والإنهاك الظاهر، تركت أثراً عميقاً في نفس الفنان. هذا الأمر دفعه إلى توجيه تحيّة مستحقة إلى الراحل، الذي نصب له الموت شباكاً لا ترحم.
لا يعمد بطرس المعرّي، عادة، إلى رسم سلسلةٍ ما من الأعمال ذات تيمةٍ واحدة، كي تُعرض لاحقاً ضمن مجموعة، كما هي الحال في عروض كثيرة، يتعمّد أصحابها إتّباع هذه الطريقة، وتراها الغاليرهات مناسبة. فالفنان يكتفي بعدد قليل من اللوحات في كل حين، بحسب ما يقتضيه الظرف والحالة السيكولوجية والمزاج الذي قد يقود إلى إنتاج عمل فني، حين يتم إستثمار مؤثراته، أي المزاج المتقلّب، على نحو يعود بفائدة، بدلاً من أن يوقع صاحبة في هوة الضياع. لذا، فإن أعماله تتنوّع بين موضوعات عديدة يجتمع بعضها في بوتقة واحدة تبعاً للأسلوب المرحلي، علماً أن الأسلوب العام للفنان كان تكرّس منذ فترة لا بأس بها. المعرض الحالي يتضمن عملاً ثلاثياً tryptique مُهدى إلى ذكرى الدويهي.
الجو العام للعمل لا يوحي بالراحة: خلفية سوداء، أو ذات كمود واضح، ما يُعتبر أمراً شبه طبيعي لدى المعرّي، الذي يفضّل هذا المدخل، والذي رأيناه في أعمال سابقة له. على هذه الخلفية تتناثر عناصر من طبيعةٍ مختلفة: يدٌ تحمل خنجراً، وقامة بشرية يُظهر صاحبها أسناناً غاضبة. طيور جامحة أعلنت الطلاق مع طبيعتها الرومانسية الملتصقة برسالة السلام المزعومة وهاجمت البشر (عصافير ألفرد هيتشكوك في البال)، لكنها تعود إلى رسالتها الأصلية، السلمية، في الجزء الأيمن. حصان يقف على ظهره وأحد حوافره ينتعل حذاءً نسائياً في الجزء الأيسر.
قد يكون هذا العمل، بحسب إعتقادنا، ممثلاً لطبيعة الهواء الذي تسبح ضمنه العناصر. هواء مسموم يقلب المعايير، وينظّم مجريات الأمور بحسب نسقٍ بعيد من المنطق. هواء أطاح جسد الدويهي، وما زال يفعل فعله في أجسادنا. بعض أعمال المعرض الأخرى لا تخرج عن هذا النهج الذي يتعدّى المنطق إلى أجواء سوريالية، وهناك، دائماً، فراغ يفصل ما بين مكونات اللوحة، التي يبدو اجتماعها مستحيلاً إلاّ في خيال الفنان.
ثمة أعمال صغيرة مربعة أيضاً لا تضم موتيفات كثيرة، كما هي حال الأعمال الكبيرة، بل تكتفي بمتنٍ ذي موضوع أحادي، ولا تغيب عن بعضها الطرافة. هي الحياة مرة أخرى في تناقضاتها وأحوالها المتغيرة، والتي لا تتوقف إلاّ في منطقة واحدة: ساحة الموت التي سرقت منّا جبور الدويهي.
أتى بطرس المعرّي من بعيد، ومن القارة الأوروبية تحديداً، حيث اختار مكاناً لإقامته، كي يقيم معرضاً في بيروت "الدافئة". الفنان السوري حمل نتاجه من البلاد التي يبدو أنها ستشكو بعض البرد، أو الكثير منه، وبعض القلّة الكهربائية، بعدما صارت تتوسل الغاز من كل مكان، كما نتوسله نحن بلا فائدة حتى الآن. غاز كما الهواء، لكنه، مثله، لا يصلح للتنفس، بل يصبح سمّاً ما لم يشتعل، وينير برجاً حديدياً في العاصمة الفرنسية، لم يسلم من لوثة التقنين، كما أفادتنا بعض الصور، لكن الكهرباء تبقى حاضرة هناك، في حدودها المقبولة شبه الطبيعية.
أما عندنا، في بيروت ولبنان كله، فقد صار حضور الكهرباء إستثناءً، وغيابها واقعاً إعتيادياً. نستعيض عن التيار الكهربائي بالصبر الذي لم يعد جميلاً، وبالخنوع المضرّ بالصحة. صرنا نذهب إلى معارض الفن التشكيلي فيدهشنا العمل الفني وضوء "البروجكتور" الصغير الذي يرمي إشعاعاته عليه.
يأتي معرض بطرس المعرّي، كما المعارض الأخرى المقامة في العاصمة اللبنانية، والتي زاد عددها نسبياً قي الفترة الأخيرة، كردّ فعل واعٍ أو لاواعٍ، أو رمزي ربما، على وضع لم يعد يدعو حتى إلى الإبتسامة المرّة، التي تترافق، بعض الأحيان، مع السخرية والإنكسار والإحباط.
"سمّ في الهواء" هو عنوان المعرض الذي يقيمه المعرّي. سم لم يكن الغاز الطبيعي المذكور مصدره، بل الحياة نفسها، بما تحمله من "هدايا" ليست كلّها شبيهة بما سيتلقاه الأطفال بعد أيام، حين ستحلّ أيام الأعياد، التي لن تُفرح سواهم. العنوان لم يأتِ مصادفة، من حيث تطابقه مع اسم الرواية الأخيرة للراحل جبور الدويهي، بل جاء هذا التطابق في صلب المعرض. كان الفنان قد قرأ روايات عديدة للدويهي، إلى أن تابعت عيناه حوادث رواية الكاتب الأخيرة، التي صارت تسميتها عنواناً للمجموعة من اللوحات لتي تخطت الأربعين من حيث العدد، المعروضة لدى "غاليري كاف"، والتي نحن في صددها. بعد القراءات المذكورة تم لقاء مع الكاتب، الذي كان المرض الخبيث قد فعل فعله في جسده، وجعله هيكلاً ضعيفاً، يتقاوى على أبسط المهمات. رؤية القامة شبه المتهاوية، والوجه النحيل، والإنهاك الظاهر، تركت أثراً عميقاً في نفس الفنان. هذا الأمر دفعه إلى توجيه تحيّة مستحقة إلى الراحل، الذي نصب له الموت شباكاً لا ترحم.
لا يعمد بطرس المعرّي، عادة، إلى رسم سلسلةٍ ما من الأعمال ذات تيمةٍ واحدة، كي تُعرض لاحقاً ضمن مجموعة، كما هي الحال في عروض كثيرة، يتعمّد أصحابها إتّباع هذه الطريقة، وتراها الغاليرهات مناسبة. فالفنان يكتفي بعدد قليل من اللوحات في كل حين، بحسب ما يقتضيه الظرف والحالة السيكولوجية والمزاج الذي قد يقود إلى إنتاج عمل فني، حين يتم إستثمار مؤثراته، أي المزاج المتقلّب، على نحو يعود بفائدة، بدلاً من أن يوقع صاحبة في هوة الضياع. لذا، فإن أعماله تتنوّع بين موضوعات عديدة يجتمع بعضها في بوتقة واحدة تبعاً للأسلوب المرحلي، علماً أن الأسلوب العام للفنان كان تكرّس منذ فترة لا بأس بها. المعرض الحالي يتضمن عملاً ثلاثياً tryptique مُهدى إلى ذكرى الدويهي.
الجو العام للعمل لا يوحي بالراحة: خلفية سوداء، أو ذات كمود واضح، ما يُعتبر أمراً شبه طبيعي لدى المعرّي، الذي يفضّل هذا المدخل، والذي رأيناه في أعمال سابقة له. على هذه الخلفية تتناثر عناصر من طبيعةٍ مختلفة: يدٌ تحمل خنجراً، وقامة بشرية يُظهر صاحبها أسناناً غاضبة. طيور جامحة أعلنت الطلاق مع طبيعتها الرومانسية الملتصقة برسالة السلام المزعومة وهاجمت البشر (عصافير ألفرد هيتشكوك في البال)، لكنها تعود إلى رسالتها الأصلية، السلمية، في الجزء الأيمن. حصان يقف على ظهره وأحد حوافره ينتعل حذاءً نسائياً في الجزء الأيسر.
قد يكون هذا العمل، بحسب إعتقادنا، ممثلاً لطبيعة الهواء الذي تسبح ضمنه العناصر. هواء مسموم يقلب المعايير، وينظّم مجريات الأمور بحسب نسقٍ بعيد من المنطق. هواء أطاح جسد الدويهي، وما زال يفعل فعله في أجسادنا. بعض أعمال المعرض الأخرى لا تخرج عن هذا النهج الذي يتعدّى المنطق إلى أجواء سوريالية، وهناك، دائماً، فراغ يفصل ما بين مكونات اللوحة، التي يبدو اجتماعها مستحيلاً إلاّ في خيال الفنان.
ثمة أعمال صغيرة مربعة أيضاً لا تضم موتيفات كثيرة، كما هي حال الأعمال الكبيرة، بل تكتفي بمتنٍ ذي موضوع أحادي، ولا تغيب عن بعضها الطرافة. هي الحياة مرة أخرى في تناقضاتها وأحوالها المتغيرة، والتي لا تتوقف إلاّ في منطقة واحدة: ساحة الموت التي سرقت منّا جبور الدويهي.