نذير جعفر: هناك روايات توغلت في تداعيات الحرب وكشفت الأعماق القصيّة والتحوّلات في المواقف والعلاقات الإنسانية
“البعث الأسبوعية” ــ أمينة عباس
نذير جعفر ناقد وروائي سوري تخرّج في كلية الآداب قسم اللغة العربية عام 1979، ثم حاز الماجستير في فقه اللغات الساميّة، عمل سكرتيراً لتحرير مجلة “البيان” الصادرة عن رابطة الأدباء في الكويت على مدى عشر سنوات، ومحرّراً وأمينا للتحرير في عدد من الصحف والمجلات السورية والكويتية، وهو عضو اتحاد الكتاب العرب وأمين سر جمعية النقد الأدبي فيه. صدرت له روايتان: “تحت سقف واطئ”، و”أساور الورد”، وثمانية كتب نقدية..
حظيت أعماله الروائية والنقدية باهتمام واسع في سورية والأقطار العربية، وكتب عنها الكثير لنقاد من سورية ومصر وتونس على نحو خاص، كما اهتمت مكتبات عربية وعالمية ومواقع إلكترونية كثيرة بأرشفة كتبه بلغات عدة. وهناك كتاب كامل عن تجربته الروائية والنقدية بعنوان “نذير جعفر ما يشبه السيرة”، للكاتب محمد جمعة حمادة، عن الهيئة العامة السورية للكتاب.
معه كان لـ “البعث الأسبوعية” هذا الحوار:
بدأت حياتك الأدبية قاصاً.. لماذا جعلتها تستحوذ على مجمل نشاطك؟
بدأت قاصاً وما زلت أكتب القصة القصيرة بين حين وآخر، وقد استأثرت باهتمامي في بداياتي لأنني ابن بيئة وثقافة شفوية مشبعة بالحكايات التي ألهبت مخيّلتي في الطفولة. شاركت بمهرجانات عدة للقصة القصيرة في المرحلة الجامعية، ونشرَتْ لي حينها جريدة “جيل الثورة” أول قصة بعنوان “العرس”، في العام 1977. لكن القصة القصيرة لم تعد تلبِّي حاجتي للتعبير عن مخزون التجارب التي مررت بها واكتنزتها، لأنها تكتفي بالتركيز على لحظة تحوّل مصيري في حياة الشخصية بعيداً عن أي تفصيلات، فهي ترصد موقفا أو مشهداً في حياة بطلها، بينما الرواية ترصد حياة وتحولات شخصيات متعددة ومتباينة في أفكارها وطباعها وسلوكها من بدايتها إلى نهايتها، وقد شُبِّهت الرواية بالنهر الذي يتم تتبّعه من منبعه إلى مصبه، بينما القصة شُبِّهت بمقطع محدد من مجرى هذا النهر.. لم استحوذ على الرواية بل هي التي استحوذت على مشاعري وتفكيري وهواجسي ومخيلتي قراءةً وكتابةً ونقداً، لا سيّما بعد اختمار تجاربي الحياتية والفكرية التي عشتها في الأزمات التي عصفت بوطننا مع أصدقاء ومعارف وشخصيات ذات منابت ونوازع ودوافع متباينة فكرياً وسياسياً وسلوكياً، وبدأت تلحُّ عليَّ تلك التجارب والشخصيات لأستعيدها وأطلق سراحها من أعماقي التي ناءت بحملها طوال سنين، فكانت الرواية هي الشكل الفني الأمثل للتعبير عنها لما تتيحه من تقنيات فنية وقدرة على التخييل تمنحها فرصة الولادة من جديد. وهكذا بدأت رحلتي مع الرواية على مبدأ ماركيز “عش وتذكَّر، تذكَّر واكتب”.
هل كانت روايتك “تحت سقف واطئ” ما يشبه سيرة ذاتية؟ وأي قاسم مشترك أردته بينها وبين “أساور الورد”؟
بين السيرة الذاتية و”رواية السيرة” خيط رفيع، خاصةً حين يتحدث الراوي فيها بضمير المتكلم؛ و”تحت سقف واطئ” فيها أطياف من سيرتي الذاتية وسيرة كل شخصية من شخصياتها التي ورد بعضها باسمه الحقيقي مثل شخصية الشاعر رياض الصالح الحسين، لكنها في المحصلة ليست سيرة ذاتية تخصني أو تخص بقية الشخصيات، لأن فيها أيضا مساحة من التخييل الفني الذي أعدُّه ضرورة لأي عمل روائي. وسيرة الكاتب أشبه بالخميرة التي يضع منها في كل رواية قدراً ينضجها، فالكاتب تسري روحه في كل عمل يكتبه، ولكن لا يمكن المطابقة بين شخصيته المتخيّلة في الرواية وشخصيته الحقيقية في الواقع.
أما عن القاسم المشترك بين “تحت سقف واطئ” و”أساور الورد” فمن قرأ الرواية الأولى سيرى أن الثانية تتمة مصائر شخصيّات يعرفها، كما سيتعرّف إلى شخصيات وعوالم وأحداث جديدة عليه. ومن لم يقرأها سيتعامل مع “أساور الورد” بوصفها رواية جديدة ومستقلة تماما عن الأولى. وفي الحالتين، فإن قراءة الروايتين معاً ستمنح القارئ فرصة أكبر لتكوين رؤية متكاملة عن الأحداث والشخصيات والصراع ومآلاته.
وصفت كتاباتك الروائية بأنها جريئة فكيف تفهم الجرأة في الكتابة الإبداعية؟
الجرأة في الكتابة الإبداعية لا تعني الخوض المجّاني في المحرّمات بقصد الإثارة كما يعتقد بعضهم، إنما الجرأة تكمن في تصوير أحداث وتحولات مفصلية، سواء في المجتمع أم في حياة أبطال العمل الروائي، لا تخلو من صلة بهذا “التابو” في سياق التخييل الفني الجمالي للعمل الروائي والرؤية غير المسبوقة التي لم يقاربها أحد من قبل خوفاً من الرقابة والمساءلة والمنع؛ لذلك لم يكن هاجسي في روايتي الأولى تصوير سطح الصراع السياسي والدموي الذي شهدته حلب في الثمانينيات مع القوى الظلامية، بل الدمار الروحي الذي لحق بجيل كامل من الشباب الجامعي المتحمّس لقضاياه الوطنية نتيجة هذا الصراع الذي فجّره تنظيم “الأخوان المسلمين”.. عشت تلك المرحلة بكل تفاصيلها، وكنت في قلبها لا على هامشها، وشكّلت لديّ رصيداً وتجربة حياتية عميقة؛ ولأنني كنت مشحوناً بها، ولديّ ما أقوله، فقد كتبت هذه الرواية مستعيداً ما تركته تلك التجربة في نفسي ورؤيتي عبر علاقتي بمجموعة شبابية من الشعراء والمثقفين الحالمين والمتمردين؛ وكانت تلك المرحلة خطّاً أحمر، لكنني تجرأت على اقتحامها بروايتي غير آبه بمنعها من النشر أو التداول، وقد سمحت الرقابة بها، ربما لأنها حاولت أن تنتصر للوطن أولاً وأخيراً، وتقول الحقيقة بقالب فنيّ بعيد عن المباشرة السياسية أو الدعوات الإيديولوجية. أما عن حدود الجرأة فلا حدود لها شرط أن تأتي في قالب فني جمالي ولا تتعمد التضليل والإثارة الرخيصة.
هناك اعتقاد بأن الأدب الروائي يحرك المشاعر والانفعالات أكثر مما يحرك الفكر فهل اعتمدت ذلك؟
الأدب الروائي الرفيع يحرك مشاعر الإنسان وانفعالاته ومخيلته أيضاً بالدرجة نفسها التي يحرك فيها فكره وأسئلته ويدعوه لاتخاذ الموقف والسلوك اللذين يعززان قيم الحق والخير والجمال في مواجهة الباطل والشر والبشاعة. وفي كتابتي الروائية، لا أفكر مسبقاً بتحريك مشاعر القارئ وفكره، بل أكتب على سجيتي التي تحقق هذا الهدف بجمالية التخييل والتصوير الفني واللغوي وباستبطان أعماق الشخصيات وصراعها مع نفسها ومحيطها وشرطها الإنساني الذي لا يرضي طموحها، وسعيها لتغيير حياتها وحياة من حولها نحو الأجمل والأفضل.
هل نجحت في أن تزيح الناقد جانباً في كتاباتك الأدبية؟
النقد والإبداع فعاليتان جماليتان وإن اختلفت طرق ووسائل كل منهما. وليس من سور صيني بينهما، لذلك لا غرابة في تحوّل الناقد إلى مبدع؛ فقد عرف الأدب العربي طه حسين ناقداً ومبدعاً، والعقّاد والمازني كذلك؛ كما عرف الوقت الراهن عدداً كبيراً من النقاد الذين يكتبون الرواية إلى جانب دراساتهم النظرية والتطبيقية للأدب. والسؤال الذي يطرح نفسه في هذا المقام: إلى أي حدّ استطاع هؤلاء النقّاد أن يكونوا مبدعين أيضاً؟
بالنسبة إليّ حاولت قدر الإمكان أن أتحرر من سطوة الناقد بداخلي عند كتابة “تحت سقف واطئ”، و”أساور الورد”، وأعتقد أنني نجحت إلى حدٍّ كبير في ذلك، بدليل أنني بعد طباعتهما وما لاقتاه من انتشار واسع عدت إليهما وقرأتهما بعين الناقد فرأيت فيهما ما يستدعي التعديل، لكني لم أفعل ذلك على الرغم من طباعة “تحت سقف واطئ” ثلاث طبعات، لأن عين الناقد غير عين المبدع، وكلما قرأ عملاً تمنى لو غير هنا وهناك، لأن كل قراءة تقوض ما قبلها، ولن يصل إلى يقين الصواب.
ما تقييمك كناقد لما أنجزته الرواية السورية على صعيد الحرب؟
حتى اليوم، هناك في المدونة الروائية السورية لهذه الحرب العدوانية الدائرة على وطننا ما يزيد على 400 رواية سورية وبضع روايات عربية، مما وقع بين أيدينا لكتاب يعيشون داخل سورية أو خارجها؛ والكثير من هذه الروايات وقع في فخ ردة الفعل المتسرعة والكتابة عما يدور على سطح الحرب وليس ما يستقصي ويستبطن تداعياتها وتأثيراتها الخطيرة على المستويين الاجتماعي والنفسي، وتصوير ما أحدثته من شروخ وتبدّلات درامية في النفوس والمصائر؛ لذلك كانت مجرد رصد وتسجيل للوقائع اليومية، أو لما تفرزه من مآس يعرفها الناس ويعيشونها ويروونها. وقد نجحت بعض الروايات التي اهتمت في المقام الأول بالتوغل في تداعيات الحرب العميقة، وقالت ما لم يقله أو يَروِه الآخرون، وكشفت الأعماق القصيّة والتحوّلات في المواقف والعلاقات الإنسانية، بأساليب وتقنيات جديدة، ومخيّلة تكسر الرتابة والمألوف، ولا تقف على السطح بقدر ما تجترح معجزتها في اكتشاف الجوهر وصياغته بما يحقق المتعة والتشويق والمعرفة ويرتقي بالشعور الإنساني إلى عرش النبالة والجمال ومحاربة النذالة والقماءة.
هل على الكاتب أن يقدم أجوبة وحلولاً؟ وبماذا يرد نذير جعفر الكاتب والناقد؟
تقديم الأجوبة والحلول لما نعاني منه ليس مسؤولية الكاتب الروائي أو الشاعر، بل هي مسؤولية المفكرين ورجال الاقتصاد والقوى السياسية. لكن أي عمل إبداعي ربما يثير كثيراً من الأسئلة المتعلقة بالوضع الإنساني، والتي تحفز القراء على اتخاذ مواقف إيجابية تجاه مجتمعهم وما يواجهه من أزمات وأوضاع صعبة والتفكير بحلول لمعاناتهم.
هل قدمت قيمة مضافة لمسيرة الرواية السورية؟
تحاول التجارب الجديدة في الرواية السورية الخروج عن وصاية المنجز السردي الذي شكّلته كوكبة من الأصوات الروائية والقصصية على مدى نصف قرن بتنويعاتها وخطاباتها الفنيّة والإيديولوجية المتباينة. كما تضرب هذه التجارب عرض الحائط بالترسيمات النقدية التي حاولت تأطير القصة والرواية وتحديد التخوم التي تفصلها عن باقي الأجناس الأدبية. فالمتأمل في التجارب الروائية الجديدة سيجد على الرغم من التحفّظات التي أبداها بعض النقّاد أن حساسية جديدة وتياراً مختلفاً في الكتابة الروائية والقصصية بدأ يفرض حضوره وسماته العامة على الرغم من الخصوصية التي تتمتع بها كل تجربة بمفردها. ولعل أبرز ما يميز هذا التيار ابتعاده عن النمطية وانحيازه إلى التجربة الذاتية في محاولة لـ “تذويت” السرد، وانفتاحه على المسكوت عنه اجتماعياً وسياسياً، وجرأته في مقاربة تابوات الجنس والدين والسياسة، والدخول إلى الأماكن المغلقة والمهمّشة، والتحرّر من سطوة الرقابة بكل أنواعها.
ما تفسيرك لغياب السجالات النقدية التي كانت سائدة في فترة من الفترات؟
غابت السجالات النقدية، وغاب المسرح إلى حد بعيد، وغابت السينما معه، وما أكثر حالات الغياب التي كان لها بريقها في ذلك الزمن الجميل، زمن المدّ القومي وحركات التحرر والنضال من أجل الوحدة وتحرير الأراضي المحتلة. وأعتقد أن غياب السجالات النقدية التي شهدناها على سبيل المثال بين تيار مجلة شعر وتيار مجلة الآداب، أو حتى بين طه حسين وخصومه، وبين ميخائيل نعيمة والمازني والعقاد، كانت انعكاساً للتيارات الفكرية والسياسية التي تغذيها آنذاك، تلك التيارات ضعفت وفقدت حضورها السابق ولم يحل مكانها ما يملأ الفراغ في عصر الصورة والميديا والإنترنت فغابت تلك السجالات.
هناك من يقول أن الرواية أصبحت اليوم ديوان العرب.. هل تؤيد هذا القول ولماذا؟
الرواية العربية تشهد الآن طفرة نوعية على مستوى النتاج والتلقيّ من قبل القرّاء والنقّاد معا؛ فاتساع رقعة الممنوعات، وانكسار الأحلام، يولّدان الحاجة إلى التعبير والرفض والاحتجاج. ولعل الرواية هي الجنس الأدبي الذي يتّسع لكل أشكال التعبير غير المباشر، كما يمكنه استخدام كل التقنيات والأساليب الفنيّة التي تمكّنه من الوصول إلى المتلقّي. وهي ليسـت مرشّحة للتعبير عن أزمة الإنسان العربي فحسب، بل للتبشير أيضا بعصر جديد. وفي مجتمعات لا يمكن للمسرح، كفن جماعي تواصلي أن يزدهر فيها، كما لا يمكن للثقافة البصرية (التشكيل، النحت، الباليه) بوصفها فنوناً أرستقراطية، أن تلقى الاهتـمام، نجد هذا الانصراف إلى الرواية، لأنها عمل فردي بامتياز أولاً، ولأنها تغذي الدراما التي تجد من يموّلها ويسوّقها ثانياً، ولأنها الفن الذي يستوعب كل النبرات والاتجاهات الاجتماعية والإيديولوجية ويوظف كل الفنون في بنيته ثالثاً. وهذا الازدهار على مستوى الكم والنوع يرشح الرواية لتكون بحق ديوان العرب الجديد.
ما أهمية وجود الجوائز في حياتنا الأدبية؟
تكمن أهمية الجوائز الأدبية في تحفيز الكتّاب لتجويد إبداعهم والتنافس فيما بينهم، واكتشاف كُتَّاب جدد، مع أنّها لا تخلو في أغلب الأحيان من اعتبارات لا علاقة لها بمستوى النص الإبداعي. كما أن لكل لجنة من لجان التحكيم أو لكل عنصر فيها رأيه الذي قد يختلف فيه بهذه الدرجة أو تلك مع الآخرين في فهم النّص وتحديد مستواه وجودته الفنيّة، لأن المعايير تختلف تبعاً للرؤية الفكرية والفنية لكل منهم. وتبقى حصيلة الجوائز مهمة رغم كل ما يثار عنها من انتقادات؛ لأنها تسهم في التعريف بالنتاج الجديد وبالكتّاب الجدد أحيانا وتسوّق أعمالهم وتسلّط عليها الأضواء.
ما هو جديدك على صعيد الكتابة الأدبية والنقدية؟
لدي ثلاثة مخطوطات الأول بعنوان “قالت الحرب”، وهو تدوين ليوميات الحرب العدوانية على وطننا، والثاني بعنوان “المتخيل السردي النسوي”، والثالث “أصوات الرواية الفلسطينية المعاصرة”، وهي تنتظر الطباعة.
“البعث الأسبوعية” ــ أمينة عباس
نذير جعفر ناقد وروائي سوري تخرّج في كلية الآداب قسم اللغة العربية عام 1979، ثم حاز الماجستير في فقه اللغات الساميّة، عمل سكرتيراً لتحرير مجلة “البيان” الصادرة عن رابطة الأدباء في الكويت على مدى عشر سنوات، ومحرّراً وأمينا للتحرير في عدد من الصحف والمجلات السورية والكويتية، وهو عضو اتحاد الكتاب العرب وأمين سر جمعية النقد الأدبي فيه. صدرت له روايتان: “تحت سقف واطئ”، و”أساور الورد”، وثمانية كتب نقدية..
حظيت أعماله الروائية والنقدية باهتمام واسع في سورية والأقطار العربية، وكتب عنها الكثير لنقاد من سورية ومصر وتونس على نحو خاص، كما اهتمت مكتبات عربية وعالمية ومواقع إلكترونية كثيرة بأرشفة كتبه بلغات عدة. وهناك كتاب كامل عن تجربته الروائية والنقدية بعنوان “نذير جعفر ما يشبه السيرة”، للكاتب محمد جمعة حمادة، عن الهيئة العامة السورية للكتاب.
معه كان لـ “البعث الأسبوعية” هذا الحوار:
بدأت حياتك الأدبية قاصاً.. لماذا جعلتها تستحوذ على مجمل نشاطك؟
بدأت قاصاً وما زلت أكتب القصة القصيرة بين حين وآخر، وقد استأثرت باهتمامي في بداياتي لأنني ابن بيئة وثقافة شفوية مشبعة بالحكايات التي ألهبت مخيّلتي في الطفولة. شاركت بمهرجانات عدة للقصة القصيرة في المرحلة الجامعية، ونشرَتْ لي حينها جريدة “جيل الثورة” أول قصة بعنوان “العرس”، في العام 1977. لكن القصة القصيرة لم تعد تلبِّي حاجتي للتعبير عن مخزون التجارب التي مررت بها واكتنزتها، لأنها تكتفي بالتركيز على لحظة تحوّل مصيري في حياة الشخصية بعيداً عن أي تفصيلات، فهي ترصد موقفا أو مشهداً في حياة بطلها، بينما الرواية ترصد حياة وتحولات شخصيات متعددة ومتباينة في أفكارها وطباعها وسلوكها من بدايتها إلى نهايتها، وقد شُبِّهت الرواية بالنهر الذي يتم تتبّعه من منبعه إلى مصبه، بينما القصة شُبِّهت بمقطع محدد من مجرى هذا النهر.. لم استحوذ على الرواية بل هي التي استحوذت على مشاعري وتفكيري وهواجسي ومخيلتي قراءةً وكتابةً ونقداً، لا سيّما بعد اختمار تجاربي الحياتية والفكرية التي عشتها في الأزمات التي عصفت بوطننا مع أصدقاء ومعارف وشخصيات ذات منابت ونوازع ودوافع متباينة فكرياً وسياسياً وسلوكياً، وبدأت تلحُّ عليَّ تلك التجارب والشخصيات لأستعيدها وأطلق سراحها من أعماقي التي ناءت بحملها طوال سنين، فكانت الرواية هي الشكل الفني الأمثل للتعبير عنها لما تتيحه من تقنيات فنية وقدرة على التخييل تمنحها فرصة الولادة من جديد. وهكذا بدأت رحلتي مع الرواية على مبدأ ماركيز “عش وتذكَّر، تذكَّر واكتب”.
هل كانت روايتك “تحت سقف واطئ” ما يشبه سيرة ذاتية؟ وأي قاسم مشترك أردته بينها وبين “أساور الورد”؟
بين السيرة الذاتية و”رواية السيرة” خيط رفيع، خاصةً حين يتحدث الراوي فيها بضمير المتكلم؛ و”تحت سقف واطئ” فيها أطياف من سيرتي الذاتية وسيرة كل شخصية من شخصياتها التي ورد بعضها باسمه الحقيقي مثل شخصية الشاعر رياض الصالح الحسين، لكنها في المحصلة ليست سيرة ذاتية تخصني أو تخص بقية الشخصيات، لأن فيها أيضا مساحة من التخييل الفني الذي أعدُّه ضرورة لأي عمل روائي. وسيرة الكاتب أشبه بالخميرة التي يضع منها في كل رواية قدراً ينضجها، فالكاتب تسري روحه في كل عمل يكتبه، ولكن لا يمكن المطابقة بين شخصيته المتخيّلة في الرواية وشخصيته الحقيقية في الواقع.
أما عن القاسم المشترك بين “تحت سقف واطئ” و”أساور الورد” فمن قرأ الرواية الأولى سيرى أن الثانية تتمة مصائر شخصيّات يعرفها، كما سيتعرّف إلى شخصيات وعوالم وأحداث جديدة عليه. ومن لم يقرأها سيتعامل مع “أساور الورد” بوصفها رواية جديدة ومستقلة تماما عن الأولى. وفي الحالتين، فإن قراءة الروايتين معاً ستمنح القارئ فرصة أكبر لتكوين رؤية متكاملة عن الأحداث والشخصيات والصراع ومآلاته.
وصفت كتاباتك الروائية بأنها جريئة فكيف تفهم الجرأة في الكتابة الإبداعية؟
الجرأة في الكتابة الإبداعية لا تعني الخوض المجّاني في المحرّمات بقصد الإثارة كما يعتقد بعضهم، إنما الجرأة تكمن في تصوير أحداث وتحولات مفصلية، سواء في المجتمع أم في حياة أبطال العمل الروائي، لا تخلو من صلة بهذا “التابو” في سياق التخييل الفني الجمالي للعمل الروائي والرؤية غير المسبوقة التي لم يقاربها أحد من قبل خوفاً من الرقابة والمساءلة والمنع؛ لذلك لم يكن هاجسي في روايتي الأولى تصوير سطح الصراع السياسي والدموي الذي شهدته حلب في الثمانينيات مع القوى الظلامية، بل الدمار الروحي الذي لحق بجيل كامل من الشباب الجامعي المتحمّس لقضاياه الوطنية نتيجة هذا الصراع الذي فجّره تنظيم “الأخوان المسلمين”.. عشت تلك المرحلة بكل تفاصيلها، وكنت في قلبها لا على هامشها، وشكّلت لديّ رصيداً وتجربة حياتية عميقة؛ ولأنني كنت مشحوناً بها، ولديّ ما أقوله، فقد كتبت هذه الرواية مستعيداً ما تركته تلك التجربة في نفسي ورؤيتي عبر علاقتي بمجموعة شبابية من الشعراء والمثقفين الحالمين والمتمردين؛ وكانت تلك المرحلة خطّاً أحمر، لكنني تجرأت على اقتحامها بروايتي غير آبه بمنعها من النشر أو التداول، وقد سمحت الرقابة بها، ربما لأنها حاولت أن تنتصر للوطن أولاً وأخيراً، وتقول الحقيقة بقالب فنيّ بعيد عن المباشرة السياسية أو الدعوات الإيديولوجية. أما عن حدود الجرأة فلا حدود لها شرط أن تأتي في قالب فني جمالي ولا تتعمد التضليل والإثارة الرخيصة.
هناك اعتقاد بأن الأدب الروائي يحرك المشاعر والانفعالات أكثر مما يحرك الفكر فهل اعتمدت ذلك؟
الأدب الروائي الرفيع يحرك مشاعر الإنسان وانفعالاته ومخيلته أيضاً بالدرجة نفسها التي يحرك فيها فكره وأسئلته ويدعوه لاتخاذ الموقف والسلوك اللذين يعززان قيم الحق والخير والجمال في مواجهة الباطل والشر والبشاعة. وفي كتابتي الروائية، لا أفكر مسبقاً بتحريك مشاعر القارئ وفكره، بل أكتب على سجيتي التي تحقق هذا الهدف بجمالية التخييل والتصوير الفني واللغوي وباستبطان أعماق الشخصيات وصراعها مع نفسها ومحيطها وشرطها الإنساني الذي لا يرضي طموحها، وسعيها لتغيير حياتها وحياة من حولها نحو الأجمل والأفضل.
هل نجحت في أن تزيح الناقد جانباً في كتاباتك الأدبية؟
النقد والإبداع فعاليتان جماليتان وإن اختلفت طرق ووسائل كل منهما. وليس من سور صيني بينهما، لذلك لا غرابة في تحوّل الناقد إلى مبدع؛ فقد عرف الأدب العربي طه حسين ناقداً ومبدعاً، والعقّاد والمازني كذلك؛ كما عرف الوقت الراهن عدداً كبيراً من النقاد الذين يكتبون الرواية إلى جانب دراساتهم النظرية والتطبيقية للأدب. والسؤال الذي يطرح نفسه في هذا المقام: إلى أي حدّ استطاع هؤلاء النقّاد أن يكونوا مبدعين أيضاً؟
بالنسبة إليّ حاولت قدر الإمكان أن أتحرر من سطوة الناقد بداخلي عند كتابة “تحت سقف واطئ”، و”أساور الورد”، وأعتقد أنني نجحت إلى حدٍّ كبير في ذلك، بدليل أنني بعد طباعتهما وما لاقتاه من انتشار واسع عدت إليهما وقرأتهما بعين الناقد فرأيت فيهما ما يستدعي التعديل، لكني لم أفعل ذلك على الرغم من طباعة “تحت سقف واطئ” ثلاث طبعات، لأن عين الناقد غير عين المبدع، وكلما قرأ عملاً تمنى لو غير هنا وهناك، لأن كل قراءة تقوض ما قبلها، ولن يصل إلى يقين الصواب.
ما تقييمك كناقد لما أنجزته الرواية السورية على صعيد الحرب؟
حتى اليوم، هناك في المدونة الروائية السورية لهذه الحرب العدوانية الدائرة على وطننا ما يزيد على 400 رواية سورية وبضع روايات عربية، مما وقع بين أيدينا لكتاب يعيشون داخل سورية أو خارجها؛ والكثير من هذه الروايات وقع في فخ ردة الفعل المتسرعة والكتابة عما يدور على سطح الحرب وليس ما يستقصي ويستبطن تداعياتها وتأثيراتها الخطيرة على المستويين الاجتماعي والنفسي، وتصوير ما أحدثته من شروخ وتبدّلات درامية في النفوس والمصائر؛ لذلك كانت مجرد رصد وتسجيل للوقائع اليومية، أو لما تفرزه من مآس يعرفها الناس ويعيشونها ويروونها. وقد نجحت بعض الروايات التي اهتمت في المقام الأول بالتوغل في تداعيات الحرب العميقة، وقالت ما لم يقله أو يَروِه الآخرون، وكشفت الأعماق القصيّة والتحوّلات في المواقف والعلاقات الإنسانية، بأساليب وتقنيات جديدة، ومخيّلة تكسر الرتابة والمألوف، ولا تقف على السطح بقدر ما تجترح معجزتها في اكتشاف الجوهر وصياغته بما يحقق المتعة والتشويق والمعرفة ويرتقي بالشعور الإنساني إلى عرش النبالة والجمال ومحاربة النذالة والقماءة.
هل على الكاتب أن يقدم أجوبة وحلولاً؟ وبماذا يرد نذير جعفر الكاتب والناقد؟
تقديم الأجوبة والحلول لما نعاني منه ليس مسؤولية الكاتب الروائي أو الشاعر، بل هي مسؤولية المفكرين ورجال الاقتصاد والقوى السياسية. لكن أي عمل إبداعي ربما يثير كثيراً من الأسئلة المتعلقة بالوضع الإنساني، والتي تحفز القراء على اتخاذ مواقف إيجابية تجاه مجتمعهم وما يواجهه من أزمات وأوضاع صعبة والتفكير بحلول لمعاناتهم.
هل قدمت قيمة مضافة لمسيرة الرواية السورية؟
تحاول التجارب الجديدة في الرواية السورية الخروج عن وصاية المنجز السردي الذي شكّلته كوكبة من الأصوات الروائية والقصصية على مدى نصف قرن بتنويعاتها وخطاباتها الفنيّة والإيديولوجية المتباينة. كما تضرب هذه التجارب عرض الحائط بالترسيمات النقدية التي حاولت تأطير القصة والرواية وتحديد التخوم التي تفصلها عن باقي الأجناس الأدبية. فالمتأمل في التجارب الروائية الجديدة سيجد على الرغم من التحفّظات التي أبداها بعض النقّاد أن حساسية جديدة وتياراً مختلفاً في الكتابة الروائية والقصصية بدأ يفرض حضوره وسماته العامة على الرغم من الخصوصية التي تتمتع بها كل تجربة بمفردها. ولعل أبرز ما يميز هذا التيار ابتعاده عن النمطية وانحيازه إلى التجربة الذاتية في محاولة لـ “تذويت” السرد، وانفتاحه على المسكوت عنه اجتماعياً وسياسياً، وجرأته في مقاربة تابوات الجنس والدين والسياسة، والدخول إلى الأماكن المغلقة والمهمّشة، والتحرّر من سطوة الرقابة بكل أنواعها.
ما تفسيرك لغياب السجالات النقدية التي كانت سائدة في فترة من الفترات؟
غابت السجالات النقدية، وغاب المسرح إلى حد بعيد، وغابت السينما معه، وما أكثر حالات الغياب التي كان لها بريقها في ذلك الزمن الجميل، زمن المدّ القومي وحركات التحرر والنضال من أجل الوحدة وتحرير الأراضي المحتلة. وأعتقد أن غياب السجالات النقدية التي شهدناها على سبيل المثال بين تيار مجلة شعر وتيار مجلة الآداب، أو حتى بين طه حسين وخصومه، وبين ميخائيل نعيمة والمازني والعقاد، كانت انعكاساً للتيارات الفكرية والسياسية التي تغذيها آنذاك، تلك التيارات ضعفت وفقدت حضورها السابق ولم يحل مكانها ما يملأ الفراغ في عصر الصورة والميديا والإنترنت فغابت تلك السجالات.
هناك من يقول أن الرواية أصبحت اليوم ديوان العرب.. هل تؤيد هذا القول ولماذا؟
الرواية العربية تشهد الآن طفرة نوعية على مستوى النتاج والتلقيّ من قبل القرّاء والنقّاد معا؛ فاتساع رقعة الممنوعات، وانكسار الأحلام، يولّدان الحاجة إلى التعبير والرفض والاحتجاج. ولعل الرواية هي الجنس الأدبي الذي يتّسع لكل أشكال التعبير غير المباشر، كما يمكنه استخدام كل التقنيات والأساليب الفنيّة التي تمكّنه من الوصول إلى المتلقّي. وهي ليسـت مرشّحة للتعبير عن أزمة الإنسان العربي فحسب، بل للتبشير أيضا بعصر جديد. وفي مجتمعات لا يمكن للمسرح، كفن جماعي تواصلي أن يزدهر فيها، كما لا يمكن للثقافة البصرية (التشكيل، النحت، الباليه) بوصفها فنوناً أرستقراطية، أن تلقى الاهتـمام، نجد هذا الانصراف إلى الرواية، لأنها عمل فردي بامتياز أولاً، ولأنها تغذي الدراما التي تجد من يموّلها ويسوّقها ثانياً، ولأنها الفن الذي يستوعب كل النبرات والاتجاهات الاجتماعية والإيديولوجية ويوظف كل الفنون في بنيته ثالثاً. وهذا الازدهار على مستوى الكم والنوع يرشح الرواية لتكون بحق ديوان العرب الجديد.
ما أهمية وجود الجوائز في حياتنا الأدبية؟
تكمن أهمية الجوائز الأدبية في تحفيز الكتّاب لتجويد إبداعهم والتنافس فيما بينهم، واكتشاف كُتَّاب جدد، مع أنّها لا تخلو في أغلب الأحيان من اعتبارات لا علاقة لها بمستوى النص الإبداعي. كما أن لكل لجنة من لجان التحكيم أو لكل عنصر فيها رأيه الذي قد يختلف فيه بهذه الدرجة أو تلك مع الآخرين في فهم النّص وتحديد مستواه وجودته الفنيّة، لأن المعايير تختلف تبعاً للرؤية الفكرية والفنية لكل منهم. وتبقى حصيلة الجوائز مهمة رغم كل ما يثار عنها من انتقادات؛ لأنها تسهم في التعريف بالنتاج الجديد وبالكتّاب الجدد أحيانا وتسوّق أعمالهم وتسلّط عليها الأضواء.
ما هو جديدك على صعيد الكتابة الأدبية والنقدية؟
لدي ثلاثة مخطوطات الأول بعنوان “قالت الحرب”، وهو تدوين ليوميات الحرب العدوانية على وطننا، والثاني بعنوان “المتخيل السردي النسوي”، والثالث “أصوات الرواية الفلسطينية المعاصرة”، وهي تنتظر الطباعة.