بغداد للمسرح يجمع بين روسيا وأوكرانيا منتصرا للحياة بحضور عربي وأجنبي
"طلقة الرحمة" كوريغرافيا عراقية تخلق سيزيفا جديدا مؤنّثا.
التأريخ بالأجساد لحكاية البشر
يبقى المسرح من أكثر الفنون تأثيرا رغم انحسار دوره في المجتمعات العربية، فهو فن حي مباشر يخلق تواصلية عميقة مع جمهوره قد تعجز الشاشات عن تحقيقها، وما يؤكد قدرة المسرح الكبيرة جمهور افتتاح الدورة الثالثة من مهرجان بغداد الدولي للمسرح، والذي تفاعل بشكل كبير مع العرض الافتتاحي بصفته عنصرا فاعلا في العرض وليس متلقيا فحسب. وهذا ما يؤكد أهمية عنوان هذه الدورة “لأن المسرح يضيء الحياة”.
على أنغام النشيد الوطني العراقي في فضاء المسرح الوطني ببغداد انطلقت مساء الخميس فعاليات الدورة الثالثة من مهرجان بغداد الدولي للمسرح، الذي يشهد إضافة إلى المشاركة العراقية مشاركة واسعة من عدة دول عربية على غرار المغرب والجزائر وتونس وليبيا وفلسطين وسوريا والأردن وسلطنة عمان والبحرين، علاوة على دول أجنبية هي إيران وفرنسا وبلجيكا وروسيا وأوكرانيا.
انطلقت فعاليات المهرجان صباحا مع الملتقى الفكري الذي يبحث قضية “التمسرح في الخطاب الراهن وممكنات الاستجابة والتلقي” بمشاركة مسرحيين عرب وعراقيين يواصلون مناقشة قضايا المسرح في ربطها بواقعه وبيئته. ليكون مساء حفل الافتتاح الرسمي.
تحدي الظلام
المهرجان يكرم عددا من رواد المسرح العراقي والعربي ويقدم النصوص الفائزة بجوائزه ويعد باستمراره سنويا
شهد حفل الافتتاح عددا من الكلمات للقائمين على التظاهرة التي تأتي هذا العام تحت شعار “لأن المسرح يضيء الحياة”، كانت بطابع ترحيبي بالحضور، وقدمت لمحة عن المهرجان وعن طموحاته المستقبلية في التأسيس لحركية مسرحية وثقافية بالعراق.
في كلمته أكد حسن ناظم، وزير الثقافة والسياحة والآثار العراقي، بعد ترحيبه بالحضور والجمهور الغفير الذي توافد على قاعة المسرح الوطني من المثقفين والكتاب والفنانين وخاصة من الشباب، أن المهرجان يأتي هذا العام في ظروف استثنائية، مشددا على أهمية الفن المسرحي في حياتنا ولذا تأتي هذه التظاهرة لنؤكد رسالته.
وبعد ثنائه على دور دائرة السينما والمسرح ومجهوداتها مع وزارة الثقافة في إنجاز هذه الدورة، حاول الوزير تشخيص الواقع الفني والثقافي عراقيا وعربيا، مبينا انحسار تأثير المسرح والثقافة في البلدان العربية وفي العراق بشكل خاص، وإن كانت الأسباب كثيرة فإنه بيّن ضرورة استعادة الدور الريادي للثقافة.
وقال ناظم إنه لا يكفي أن نحتفل بشكل كرنفالي، يجب النظر إلى انحسار الثقافة والفن وتردي الذوق، والمسرحيون والمثقفون العراقيون تحملوا ظروفا صعبة لإنتاج مسرح له تأثيره، مقترحا إرفاق المهرجان بحلقات نقاشية يقدمها مفكرون وأساتذة جامعيون للتفكير في سبل ترسيخ تأثير المسرح والثقافة.
ولفت إلى أن انحسار أدوار المثقف فتح المجال لصعود غيره للتأثير، داعيا أهل المسرح والثقافة إلى أن يكونوا منافسين أقوياء لمن يصوغون الوعي الجمعي، وأن تكون للفن وللمهرجان اليد الطولى في التغيير.
واستذكر حافظ واقع المسرح الصعب قبل ثلاثين عاما، مبينا المفارقة إذ قدم الفن الرابع رغم التحدي أعمالا مؤثرة، ولكنه لم يخف تخوفه من الواقع اليوم إذ في كل عقد نمضي فيه تختفي أسماء لامعة، أسماء كان لها تأثيرها خاصة من أجيال ستينات القرن الماضي “الحقبة الفوارة للثقافة العربية”.
وأضاف “أقول هذا لأضع المهرجان والحضور أمام التحدي لتستعيد الثقافة والفن دورهما في صياغة العقلية والمزاج العام”، فالمهرجان في رأيه ليس احتفالا ولا مجرد فرصة للقاء بين الفنانين بمعزل عن المحيط، بل هو فرصة لرفع التحدي.
وفي كلمته شدد ممثل هيئة الإعلام والاتصالات الأكاديمي مجاهد أبوالهيل على أهمية المهرجان في هذه الدورة، “المسرح يضيء الحياة”، معتبرا أن المهرجان تحد لصانع الظلام، وأن المناسبة تأتي في توقيت صعب وفي ظرف تهمل فيه الثقافة والفنون.
وبيّن أبوالهيل أن انعقاد هذا المهرجان مهم، لا لكونه فعلا ثقافيا فحسب، بل لكونه أيضا دعوة للضيوف والأسماء من مختلف الثقافات، ما يرسخ الحوار الدائم بين الشعوب. وقال إن “الثقافة هي الوحيدة التي قاومت الوضع الصعب في العراق وبقيت الأداة الوحيدة للتواصل، والحوار الثقافي هو أقصر الطرق للتحاور”.
وذكّر نقيب الفنانين العراقيين جبار جودي بانطلاقة المهرجان منذ سنة 2012، ودور النقابة في تأسيسه، مشددا على أن المهرجان سيتواصل في دورات سنوية، وسيكون مجالا للقاء رغم التخبط الحكومي في دعم الفنون والثقافة، إذ لطالما امتازت الحكومات بـ”البخل الشديد في دعم العمل الثقافي”، مضيفا أن “الفن ثقافة الحياة واللقاء والمحبة”.
وقال رئيس المهرجان أحمد حسن موسى “أخيرا انتصرت قارة المسرح.. روسيا وأوكرانيا ستقدمان عروضا مسرحية في المهرجان. المسرح هو الحل، الثقافة هي الحل”.
أما مدير المهرجان علي محمود السوداني فقال بدوره “كنت مرعوبا من هذه اللحظة، حلمنا وها هو الجمهور الكبير نجاح حقيقي للمسرح، نحن اليوم في فرح بغداد”.
وتلا إلقاء الكلمات الافتتاحية التي تفاعل معها بحفاوة جمهور المسرح الوطني تقديم أغنية تراثية عمرها 70 سنة بتغييرات ترحيبية في كلماتها، وتقديم لجنة تحكيم المسابقة التي يتنافس فيها 24 عرضا عربيا وأجنبيا، ويرأس الفنان العراقي محمود أبوالعباس اللجنة التي تشهد عضوية لبنانية وألمانية، وتحكم العروض لمنح سبع جوائز بداية بأفضل عمل متكامل وأفضل أداء جماعي وأفضل نص وأفضل ممثل وأفضل ممثلة وأفضل مخرج وأفضل سينوغرافيا.
تكريمات وتتويجات
كرم المهرجان في حفل الافتتاح كوكبة من أهم المسرحيين العرب، ممن “أناروا الطريق للفن المسرحي”، وبدأت التكريمات بالممثلة العراقية الرائدة سليمة خضيّر، التي اعتذرت عن الحضور لظروف صحية، ومن العراق أيضا كرم الممثل والمخرج الرائد الذي راوحت مسيرته بين السينما والمسرح والإذاعة سامي قفطان، ومن الأردن كرم الممثلة التي بدأت مسيرتها منذ السبعينات عبير عيسى، ووقع كذلك تكريم الممثلة والمخرجة التونسية دليلة مفتاحي لمسيرتها المميزة في المسرح والدراما التونسيين.
وتواصلت التكريمات لعدد من رواد المسرح العراقي وشملت كلا من المسرحية فوزية عارف والفنانة العراقية خالدة مجيد والكاتب المسرحي العراقي علي عبدالنبي الزيدي ومن كردستان العراق ميديا رؤوف، ختاما بالمسرحي مخلد راسم الجميلي مؤسس مسرح الديليفري.
وإثر التكريمات أعلن رئيس لجنة تحكيم مسابقة النصوص المسرحية الكاتب علي عبدالنبي الزيدي عن النصوص الفائزة في هذه الدورة، إذ تأتي المسابقة وفقا للزيدي “احتفاء بمنجز الكتاب الحاملين لهمومنا”، وهي كما قال أيضا “فرصة للبحث عن كتاب جدد وأسماء احترفت الكتابة”، مبينا أن النصوص الثلاثة الفائزة ستصدر رفقة نصين ينوه بهما في كتاب.
"طلقة الرحمة" عرض كوريغرافي يحكي رحلة الإنسان العراقي في واقع متقلب، داعيا إلى الثورة على الظلام
وآلت الجائزة الأولى إلى نص مسرحية “يوسف” للكاتب مثال غازي الذي امتاز برصانة التجريب، أما الجائزة الثانية فكانت لنص “شكسبير في الرقة” لعواد علي، وذهبت الجائزة الثالثة إلى مسرحية “مذبحة التماثيل المتنكرة” لليث فائز الأيوبي.
وإثر فقرات حفل الافتتاح كان جمهور المسرح الوطني على موعد مع عمل كوريغرافي بعنوان “طلقة الرحمة” للمخرج محمد مؤيد، عمل استمر ما يقارب الساعة وقدم سردا بصريا صارخا لما يواجهه العراقيون والإنسان عموما والمرأة خصوصا.
وقدم العرض أكثر من عشرين مؤديا بين نساء ورجال، كتبوا سيرة الإنسان بأجسادهم على وقع موسيقى متحولة مع تحول المشهد الدرامي، الذي حفل برمزيات كثيرة ومتعددة بداية بالقنص والجنازة والأمومة والرغبة ولبس العباءات السوداء الذي يفرضه المتشددون على أجساد النساء وعقولهن؛ رمزية محاولات الفكاك والتحرر، رمزية الأرض وترابها في الخلفية والجسر والسلّم، رمزية الثورة والانعتاق وطلقات الرصاص والمواجهة وغيرها.
كل حركة لكل جسد سواء كان منفردا أو في أداء جماعي تحمل رمزيتها، ما جعل العرض مشحونا عاطفيا بشكل كبير وهو ما نتبينه في تفاعل الجمهور مع كل ذروة في الحركة، الحركة التي تمثل صراخا جسده المؤدون بدورهم، صراخ الإنسان الحالم بالانعتاق من الظلام، الحالم بالولادة الجديدة والبداية الجديدة والصعود إلى أعلى من مستنقع الجهل والتشدد والقتل والصراعات.
تتصارع الأجساد وتتآلف فيما بينها، تتنافر وتتقارب وتتباعد، حتى الحركات التي تجمع أجساد النساء بأجساد الرجال في تعانق أو انفصال أو حمل أحدهم الآخر، لم تركز على بعد الشهوة بل تبدو واضحة في تعبيرها عن التعاون للانعتاق، انعتاق من الظلام والاضطراب الذي تخلقه الإضاءة وتؤكده الموسيقى.
ولكن الموسيقى كانت صاخبة نوعا ما وأدخلت نوعا من الاندماج العاطفي والانفعال الجسدي الذي وإن كان مسلوبا فإنه أحيانا يربك هدوء الفكرة ورسالتها لصالح التحمس الذي حضر في العرض، ولعل ذروة العمل هي ما قام به الممثلون الرجال من حلق شعورهم بشكل حقيقي بماكنة الحلاقة، حركة قد تفهم بأكثر من زاوية بأنها تضامن مع النساء وحتى أبعد من ذلك، بأن الصراعات تشبه السرطان.
العرض بلغ كما أسلفنا ذرى من التكامل بين الأجساد والموسيقى والحركة وخاصة السينوغرافيا المميزة، وفي تقسيم اللعب على الخشبة بين مقدمتها وخلفيتها، والتلاعب بالإضاءة في العمق وفي المقدمة والدوائر التي كانت أدوات كشف وتركيز وتوجيه.
“طلقة الرحمة” لم يكن بكائيا أو جنائزيا كما يبدو من عنوانه، بل كان دعوة إلى الانعتاق والتحرر، دعوة إلى الصعود حتى السيزيفي، الذي مثلته مؤدية في الخلفية تصعد في حركة دائرية شبكة حديدية، إنه خطاب يحفز على الثورة ضد القتل والجريمة والأفكار المظلمة، وقدم عدد المؤدين الكبير جهدا هاما في تجسيد أفكار المخرج الذي أدار عناصر عرضه بشكل مميز، وتأدية العمل بطريقة مميزة، تنبئ بالمواهب الكثيرة التي يزخر بها العراق.
محمد ناصر المولهي
كاتب تونسي
"طلقة الرحمة" كوريغرافيا عراقية تخلق سيزيفا جديدا مؤنّثا.
التأريخ بالأجساد لحكاية البشر
يبقى المسرح من أكثر الفنون تأثيرا رغم انحسار دوره في المجتمعات العربية، فهو فن حي مباشر يخلق تواصلية عميقة مع جمهوره قد تعجز الشاشات عن تحقيقها، وما يؤكد قدرة المسرح الكبيرة جمهور افتتاح الدورة الثالثة من مهرجان بغداد الدولي للمسرح، والذي تفاعل بشكل كبير مع العرض الافتتاحي بصفته عنصرا فاعلا في العرض وليس متلقيا فحسب. وهذا ما يؤكد أهمية عنوان هذه الدورة “لأن المسرح يضيء الحياة”.
على أنغام النشيد الوطني العراقي في فضاء المسرح الوطني ببغداد انطلقت مساء الخميس فعاليات الدورة الثالثة من مهرجان بغداد الدولي للمسرح، الذي يشهد إضافة إلى المشاركة العراقية مشاركة واسعة من عدة دول عربية على غرار المغرب والجزائر وتونس وليبيا وفلسطين وسوريا والأردن وسلطنة عمان والبحرين، علاوة على دول أجنبية هي إيران وفرنسا وبلجيكا وروسيا وأوكرانيا.
انطلقت فعاليات المهرجان صباحا مع الملتقى الفكري الذي يبحث قضية “التمسرح في الخطاب الراهن وممكنات الاستجابة والتلقي” بمشاركة مسرحيين عرب وعراقيين يواصلون مناقشة قضايا المسرح في ربطها بواقعه وبيئته. ليكون مساء حفل الافتتاح الرسمي.
تحدي الظلام
المهرجان يكرم عددا من رواد المسرح العراقي والعربي ويقدم النصوص الفائزة بجوائزه ويعد باستمراره سنويا
شهد حفل الافتتاح عددا من الكلمات للقائمين على التظاهرة التي تأتي هذا العام تحت شعار “لأن المسرح يضيء الحياة”، كانت بطابع ترحيبي بالحضور، وقدمت لمحة عن المهرجان وعن طموحاته المستقبلية في التأسيس لحركية مسرحية وثقافية بالعراق.
في كلمته أكد حسن ناظم، وزير الثقافة والسياحة والآثار العراقي، بعد ترحيبه بالحضور والجمهور الغفير الذي توافد على قاعة المسرح الوطني من المثقفين والكتاب والفنانين وخاصة من الشباب، أن المهرجان يأتي هذا العام في ظروف استثنائية، مشددا على أهمية الفن المسرحي في حياتنا ولذا تأتي هذه التظاهرة لنؤكد رسالته.
وبعد ثنائه على دور دائرة السينما والمسرح ومجهوداتها مع وزارة الثقافة في إنجاز هذه الدورة، حاول الوزير تشخيص الواقع الفني والثقافي عراقيا وعربيا، مبينا انحسار تأثير المسرح والثقافة في البلدان العربية وفي العراق بشكل خاص، وإن كانت الأسباب كثيرة فإنه بيّن ضرورة استعادة الدور الريادي للثقافة.
وقال ناظم إنه لا يكفي أن نحتفل بشكل كرنفالي، يجب النظر إلى انحسار الثقافة والفن وتردي الذوق، والمسرحيون والمثقفون العراقيون تحملوا ظروفا صعبة لإنتاج مسرح له تأثيره، مقترحا إرفاق المهرجان بحلقات نقاشية يقدمها مفكرون وأساتذة جامعيون للتفكير في سبل ترسيخ تأثير المسرح والثقافة.
ولفت إلى أن انحسار أدوار المثقف فتح المجال لصعود غيره للتأثير، داعيا أهل المسرح والثقافة إلى أن يكونوا منافسين أقوياء لمن يصوغون الوعي الجمعي، وأن تكون للفن وللمهرجان اليد الطولى في التغيير.
واستذكر حافظ واقع المسرح الصعب قبل ثلاثين عاما، مبينا المفارقة إذ قدم الفن الرابع رغم التحدي أعمالا مؤثرة، ولكنه لم يخف تخوفه من الواقع اليوم إذ في كل عقد نمضي فيه تختفي أسماء لامعة، أسماء كان لها تأثيرها خاصة من أجيال ستينات القرن الماضي “الحقبة الفوارة للثقافة العربية”.
وأضاف “أقول هذا لأضع المهرجان والحضور أمام التحدي لتستعيد الثقافة والفن دورهما في صياغة العقلية والمزاج العام”، فالمهرجان في رأيه ليس احتفالا ولا مجرد فرصة للقاء بين الفنانين بمعزل عن المحيط، بل هو فرصة لرفع التحدي.
وفي كلمته شدد ممثل هيئة الإعلام والاتصالات الأكاديمي مجاهد أبوالهيل على أهمية المهرجان في هذه الدورة، “المسرح يضيء الحياة”، معتبرا أن المهرجان تحد لصانع الظلام، وأن المناسبة تأتي في توقيت صعب وفي ظرف تهمل فيه الثقافة والفنون.
وبيّن أبوالهيل أن انعقاد هذا المهرجان مهم، لا لكونه فعلا ثقافيا فحسب، بل لكونه أيضا دعوة للضيوف والأسماء من مختلف الثقافات، ما يرسخ الحوار الدائم بين الشعوب. وقال إن “الثقافة هي الوحيدة التي قاومت الوضع الصعب في العراق وبقيت الأداة الوحيدة للتواصل، والحوار الثقافي هو أقصر الطرق للتحاور”.
وذكّر نقيب الفنانين العراقيين جبار جودي بانطلاقة المهرجان منذ سنة 2012، ودور النقابة في تأسيسه، مشددا على أن المهرجان سيتواصل في دورات سنوية، وسيكون مجالا للقاء رغم التخبط الحكومي في دعم الفنون والثقافة، إذ لطالما امتازت الحكومات بـ”البخل الشديد في دعم العمل الثقافي”، مضيفا أن “الفن ثقافة الحياة واللقاء والمحبة”.
وقال رئيس المهرجان أحمد حسن موسى “أخيرا انتصرت قارة المسرح.. روسيا وأوكرانيا ستقدمان عروضا مسرحية في المهرجان. المسرح هو الحل، الثقافة هي الحل”.
أما مدير المهرجان علي محمود السوداني فقال بدوره “كنت مرعوبا من هذه اللحظة، حلمنا وها هو الجمهور الكبير نجاح حقيقي للمسرح، نحن اليوم في فرح بغداد”.
وتلا إلقاء الكلمات الافتتاحية التي تفاعل معها بحفاوة جمهور المسرح الوطني تقديم أغنية تراثية عمرها 70 سنة بتغييرات ترحيبية في كلماتها، وتقديم لجنة تحكيم المسابقة التي يتنافس فيها 24 عرضا عربيا وأجنبيا، ويرأس الفنان العراقي محمود أبوالعباس اللجنة التي تشهد عضوية لبنانية وألمانية، وتحكم العروض لمنح سبع جوائز بداية بأفضل عمل متكامل وأفضل أداء جماعي وأفضل نص وأفضل ممثل وأفضل ممثلة وأفضل مخرج وأفضل سينوغرافيا.
تكريمات وتتويجات
كرم المهرجان في حفل الافتتاح كوكبة من أهم المسرحيين العرب، ممن “أناروا الطريق للفن المسرحي”، وبدأت التكريمات بالممثلة العراقية الرائدة سليمة خضيّر، التي اعتذرت عن الحضور لظروف صحية، ومن العراق أيضا كرم الممثل والمخرج الرائد الذي راوحت مسيرته بين السينما والمسرح والإذاعة سامي قفطان، ومن الأردن كرم الممثلة التي بدأت مسيرتها منذ السبعينات عبير عيسى، ووقع كذلك تكريم الممثلة والمخرجة التونسية دليلة مفتاحي لمسيرتها المميزة في المسرح والدراما التونسيين.
وتواصلت التكريمات لعدد من رواد المسرح العراقي وشملت كلا من المسرحية فوزية عارف والفنانة العراقية خالدة مجيد والكاتب المسرحي العراقي علي عبدالنبي الزيدي ومن كردستان العراق ميديا رؤوف، ختاما بالمسرحي مخلد راسم الجميلي مؤسس مسرح الديليفري.
وإثر التكريمات أعلن رئيس لجنة تحكيم مسابقة النصوص المسرحية الكاتب علي عبدالنبي الزيدي عن النصوص الفائزة في هذه الدورة، إذ تأتي المسابقة وفقا للزيدي “احتفاء بمنجز الكتاب الحاملين لهمومنا”، وهي كما قال أيضا “فرصة للبحث عن كتاب جدد وأسماء احترفت الكتابة”، مبينا أن النصوص الثلاثة الفائزة ستصدر رفقة نصين ينوه بهما في كتاب.
"طلقة الرحمة" عرض كوريغرافي يحكي رحلة الإنسان العراقي في واقع متقلب، داعيا إلى الثورة على الظلام
وآلت الجائزة الأولى إلى نص مسرحية “يوسف” للكاتب مثال غازي الذي امتاز برصانة التجريب، أما الجائزة الثانية فكانت لنص “شكسبير في الرقة” لعواد علي، وذهبت الجائزة الثالثة إلى مسرحية “مذبحة التماثيل المتنكرة” لليث فائز الأيوبي.
وإثر فقرات حفل الافتتاح كان جمهور المسرح الوطني على موعد مع عمل كوريغرافي بعنوان “طلقة الرحمة” للمخرج محمد مؤيد، عمل استمر ما يقارب الساعة وقدم سردا بصريا صارخا لما يواجهه العراقيون والإنسان عموما والمرأة خصوصا.
وقدم العرض أكثر من عشرين مؤديا بين نساء ورجال، كتبوا سيرة الإنسان بأجسادهم على وقع موسيقى متحولة مع تحول المشهد الدرامي، الذي حفل برمزيات كثيرة ومتعددة بداية بالقنص والجنازة والأمومة والرغبة ولبس العباءات السوداء الذي يفرضه المتشددون على أجساد النساء وعقولهن؛ رمزية محاولات الفكاك والتحرر، رمزية الأرض وترابها في الخلفية والجسر والسلّم، رمزية الثورة والانعتاق وطلقات الرصاص والمواجهة وغيرها.
كل حركة لكل جسد سواء كان منفردا أو في أداء جماعي تحمل رمزيتها، ما جعل العرض مشحونا عاطفيا بشكل كبير وهو ما نتبينه في تفاعل الجمهور مع كل ذروة في الحركة، الحركة التي تمثل صراخا جسده المؤدون بدورهم، صراخ الإنسان الحالم بالانعتاق من الظلام، الحالم بالولادة الجديدة والبداية الجديدة والصعود إلى أعلى من مستنقع الجهل والتشدد والقتل والصراعات.
تتصارع الأجساد وتتآلف فيما بينها، تتنافر وتتقارب وتتباعد، حتى الحركات التي تجمع أجساد النساء بأجساد الرجال في تعانق أو انفصال أو حمل أحدهم الآخر، لم تركز على بعد الشهوة بل تبدو واضحة في تعبيرها عن التعاون للانعتاق، انعتاق من الظلام والاضطراب الذي تخلقه الإضاءة وتؤكده الموسيقى.
ولكن الموسيقى كانت صاخبة نوعا ما وأدخلت نوعا من الاندماج العاطفي والانفعال الجسدي الذي وإن كان مسلوبا فإنه أحيانا يربك هدوء الفكرة ورسالتها لصالح التحمس الذي حضر في العرض، ولعل ذروة العمل هي ما قام به الممثلون الرجال من حلق شعورهم بشكل حقيقي بماكنة الحلاقة، حركة قد تفهم بأكثر من زاوية بأنها تضامن مع النساء وحتى أبعد من ذلك، بأن الصراعات تشبه السرطان.
العرض بلغ كما أسلفنا ذرى من التكامل بين الأجساد والموسيقى والحركة وخاصة السينوغرافيا المميزة، وفي تقسيم اللعب على الخشبة بين مقدمتها وخلفيتها، والتلاعب بالإضاءة في العمق وفي المقدمة والدوائر التي كانت أدوات كشف وتركيز وتوجيه.
“طلقة الرحمة” لم يكن بكائيا أو جنائزيا كما يبدو من عنوانه، بل كان دعوة إلى الانعتاق والتحرر، دعوة إلى الصعود حتى السيزيفي، الذي مثلته مؤدية في الخلفية تصعد في حركة دائرية شبكة حديدية، إنه خطاب يحفز على الثورة ضد القتل والجريمة والأفكار المظلمة، وقدم عدد المؤدين الكبير جهدا هاما في تجسيد أفكار المخرج الذي أدار عناصر عرضه بشكل مميز، وتأدية العمل بطريقة مميزة، تنبئ بالمواهب الكثيرة التي يزخر بها العراق.
محمد ناصر المولهي
كاتب تونسي