"نقيق" مسرحية أبطالها بشر تحولوا إلى ضفادع خيالية
روعة سنبل وعجاج سليم يقدمان على خشبات دمشق مسرحا يثور على التقليديين.
ومضات قصيرة ومكثفة تشظي الحكاية
من لحظة مأزومة حاضرة، ينطلق العرض المسرحي “نقيق” الذي شهد في يوم افتتاحه حضورا جماهيريا كبيرا. يقدم العرض حالة إبداعية تعتمد على مسرح حديث يطرح وجهات نظر مختلفة في حاضر المسرح والحياة. قدمته كاتبة مسرحية تتخطى الحواجز الإبداعية رافقها إخراج اعتمد منهجية حداثوية في العرض.
ينسج العرض المسرحي “نقيق” عالما مفترضا من الخيال المعتمد على أدق تفاصيل الواقع، تأتلف فيه مواجع إنسانية عميقة، مع أشعار موغلة في التمرد لشاعر كان وجعا في وطنه، مع خيالات مسرحية تقدم حدثا حكائيا بعيدا عن الشكلانية التقليدية، تضافر فيه المسرح والرقص والغناء والشعر.
“نقيق” عرض مسرحي يقدم هالة من الألم الإنساني النازف في حياة الناس واللصيق بحيواتهم اليومية، في وطن عانى، ولم يزل، حربا ضروسا فتتت الكثير من عرى الحب فيه وأظهرت بشاعات لبعض الوجوه.
استعارة الضفدع
تبدأ مسيرة العرض من نص للكاتبة روعة سنبل، الآتية من مهنة الصيدلة وصاحبة الحضور الأدبي المتميز، فهي في نصها المسرحي الأول “نقيق”، حصلت على الجائزة الأولى في مسابقة الهيئة العربية للمسرح في دورتها الثالثة عشرة “الخيال والكتابة خارج النمط” متقدمة على مئات النصوص.
كما حققت جائزة ابن المقرب الأدبية في دورتها الأولى عن مؤلفها في أدب الطفل، كما نالت بمؤلفها “صياد الألسنة” المركز الأول في جائزة الشارقة.
في نصها “نقيق”، تحضر عوالم الخوف والانكسارات والهزائم الروحية، وتحضر جدليات الوطن والغربة والحب والفقد والضحية والجلاد والماضي والحاضر. فيه عوالم حقيقية وافتراضية تعنى بتقديم الفكرة العليا التي تريد الوصول إليها من خلال سلوك أي طريق إبداعي يحقق ذلك.
في النقيق مقاربة لصوت يصدر عن الضفدع الذي يعرف عنه قدرته الهائلة على التأقلم مع الجو المحيط به، خاصة الحرارة، فيستطيع أن يعدل من درجة حرارة جسمه حسب المحيط. هذا الحيوان الوديع، سيكون رمزا لموضوع ملتهب، يخص علوم الإنسان في شقها الصحي، فهو حيوان معتمد عند علماء الطب والصيدلة للقيام بعملية التشريح عليه. وعملية التنخيع التي يقوم بها الطلبة، تعني غرز إبرة طويلة في أعلى ظهر الضفدع لكي يتخرب جهازه العصبي من ثم القيام بعملية التشريح عليه وهو حي.
من هذه اللحظة الملتهبة والمؤلمة، يتداخل عالم الطب بالمسرح. ويغدو ذلك الأمر بإسقاطاته موضوعا لحكاية أبطالها بعض الشخوص في زمن الحرب. وما يعانونه من فقدان وألم. فحكاية المرأة التي رحل زوجها عنها وفقدت ابنها وصارت محط عناية حماتها وفقدانها لطفلها فراس ومن ثم مواجهتها من قبل زميل سابق لها بحبه لها منذ أيام الدراسة. ثم النهايات الصادمة التي تصل إليها سيرورة الحكاية. كل هذه التفاصيل ستغدو محطات متلاحقة متصاعدة التوتر الدرامي للوصول إلى كامل الصورة المبتغاة.
حول أسلوبها للكتابة المسرحية تسأل “العرب” روعة سنبل عن السبب في ولوج موضوع بهذا العمق، من هذه الزوايا، هل هو التذكير بالمآسي التي كانت تظهر في الملاحم اليونانية القديمة أم بسبب واقع معاش؟ تجيب الكاتبة “هما السببان معاً، فالواقع المعاش بكل تفاصيله الخانقة والمحاصِرة له بالطبع دور أساسي في تخلّق البذرة الأولية للنص في ذهني، قمت بنفسي بعملية تنخيع الضفدع، فعلت هذا مراراً في مخابر كلية الصيدلة التي درستها في جامعة دمشق، وخلال السنوات الماضية شعرت في لحظات كثيرة بأنني مقيدة اليدين والقدمين، حية بإرادة مشلولة، وكنت حينها أتذكر الضفادع بشيء من الخوف”.
وتضيف “من جهة أخرى، فيما بعد، حين بدأت الكتابة، وجدت أن هذا التوازي بين الحكايتين، حكاية الضفدع وحكاية مي ووفاء (التي هي حكايتنا جميعاً في ظل الراهن) يخلق حالة غريبة وجاذبة، ويعمق مقولة النص فكرياً ونفسيا”.
وعن البنية السردية في النص، التي كانت أصلا ثم ظهرت في العرض المسرحي، وكيف تحولت من خلال عملية الإعداد والإخراج التي قام بها المخرج عجاج سليم تتابع، “هناك تغيير بنيوي كبير طال النص أثناء عملية الإعداد، كنت شخصياً قد بدأت النص بمشهد عادي بسيط شديد الواقعية، لا يشي أبداً بالأجواء الغرائبية التي ستسيطر فيما بعد، لكنه يقدم بعض المفاتيح التي ستساعد المتلقي، أما خيار الدكتور عجاج فقد كان مختلفاً، إذ بدأ النص بومضات قصيرة ومكثفة، شظّت الحكاية”.
وتتابع في حديثها لـ”العرب” “قد لا يفهم المتلقي هذه الومضات على الفور لكنها تهزه نفسياً وتسحبه إلى حالة شعورية متوترة من الترقب، يبدو العرض بما يتضمنه من مقاطع غنائية وإيمائية بالإضافة إلى الحوارات اللاهثة الكثيفة أقرب إلى قطع من الفسيفساء التي سينهمك المتلقي في جمعها ليكوّن صورة كاملة، سيفعل هذا باستمتاع، وحين يفلح في تكوين صورة يعتقدها صحيحة وكاملة، سيتفاجأ بانقلاب الأدوار فجأة (يحدث هذا عند قراءة النص أيضاً)، هذا الخيار الفني جميل وذكي، لكنه جعل التلقي أصعب بالطبع ويحتاج إلى متابَعة منتبهة، اللجوء إلى خيارات أبسط كان سيجعل العرض أقرب، لكنه وللحقيقة سيفقده بالتأكيد الكثير من جمالياته وهويته المختلفة”.
◙ "نقيق" عرض مسرحي يقدم هالة من الألم الإنساني النازف في حياة الناس واللصيق بحيواتهم اليومية بشكل مجدد
وعن السبب في وجود الشعر في النص ومن ثم العرض المسرحي تقول “النص بكل تفاصيله يعمل في الداخل، يحفر عميقا في ‘جوّانية‘ الشخصية البطلة، في قلبها وذاكرتها، وبسبب هذه الحساسية فقد اعتقدت حين بدأت الكتابة أن وجود الشعر سيكون مهماً في تكوين المستوى اللغوي للنص، ليكون موجزاً وكثيفاً وحساساً، بما يتناسب مع المنطقة العميقة التي تسير فيها الحكاية”.
وتضيف “بالنسبة إلي شخصيا لا شيء من الشعر يفعل بي ما يفعله نص لرياض صالح الحسين، كلمات موجزة وحارة وحادة وصور مبتكرة وحساسة، وقصيدة “رقصة تانغو تحت سقف ضيق” بالتحديد تشتبك مع فكرة نصي بشكل كبير، ولهذا فقد اخترت توظيفها لتتلاحم مع النص لغوياً ودرامياً، أتمنى أن أكون قد نجحت في مقاربتها، أما حين انتقل النص إلى العرض، فقد اختار الدكتور عجاج أن يعزز الحالة الشعرية بتضمين مقاطع مغناة من قصائد أخرى للحسين، واختار أن يختم بها أيضا”.
تجديد في الإخراج
لم يقدم مخرج العرض الدكتور عجاج سليم عمله المسرحي في الشكل التقليدي البسيط، بل عمل على إعداده بشكل يتواكب مع طروحات فن المسرح الحديث وما بعده، وتقديمه من خلال فرضيات بصرية مبتكرة، مستغلا كثافة الشعر وعذوبة الموسيقى ودلالة الإيماء وحساسية الضوء والديكور الغرائبي وتشتت وجود الشاشة السينمائية التي قدمت مشاهد مركزة عن أحداث ولحظات بعينها، ومن ثم وجود عنصر الستائر البيضاء التي كانت جدرانا تكشف ما خلفها حينا وسواتر تشي بحقيقة عواطف ونوازع الشخوص حينا آخر وكانت متغيرة الهدف خلال العرض حسب ما تقتضيه طبيعة المشهد.
كل هذا أوجد مشهدية خاصة في العرض. يبين عجاج سليم في حديثه لـ”العرب” ذلك قائلا “النص فيه طاقة إبداع، والذي يريد أن يعمل على هذا النص يحتاج إلى رصيد إنساني كبير وصدق. عملت على النص أولا، وعملت على فكرة التشظي، وهي صفة من صفات مسرح ما بعد الحداثة، هي أبعد من المبدأ البنيوي الذي يفكك ويركب الأحداث، في المسرح الحديث اللوحة تكون متشظية، وما يجمعها هو الموضوع، ثم الرؤية لها من بعيد، في المسرح لا نقدم مرايا، بل أجزاء من الصورة الكاملة، لنعود ونجمعها بترتيب محدد، ونتراجع إلى الخلف كي نراها مجددا في حالتها النهائية، المشاهد يتابع أولا جزءا من اللوحة وكلما تقدمت المشاهد صار وعيه لما يحدث أكبر حتى يصل إلى النهاية فتكون الرؤية الكاملة عن النص قد اكتملت”.
وعن تعامله مع نص مسرحي لكاتبة وافدة إلى الكتابة المسرحية حديثا يقول “أقدم المسرح باعتباره فنا راهنا يحدث الآن وهنا. وبمنظور واقعنا، كم أن الحب يمكن أن يجمعنا كسوريين في مساحات ضيقة. فالأمر ليس شخصين التقيا في علم الكيمياء وانجذبا ولم يستطيعا الابتعاد عن بعضهما البعض، الأمر أبعد بكثير. التجربة مع الكاتبة روعة سنبل، فيها الكثير من الغريب والمدهش، كانت أول تجربة لها في المسرح لكنها صنعت فيها شيئا كبيرا، وصلت إلى عوالم غريبة ناتجة عن موهبة حقيقية وعن إحساسها العالي بكل ما يحدث من حولها”.
في المسرح الحديث لا تهم النهايات
ويضيف “الكاتبة كسيدة سورية رسمت خطوط نصها بإتقان ومعرفة. وهو نص يقدم شيئا مختلفا. خلال التمارين كنت أخبر الفريق بأننا لا نتعامل مع النمط الكلاسيكي في السرد، بحيث أن هنالك أشخاصا قد تعارفوا ثم تزوجوا وواجهو مشاكل وغير ذلك من مفردات الحياة اليومية. هنا نحن نتعامل مع صيغة جديدة. في النمط الفني الكلاسيكي سوف نعرف ما سيجري في النهاية وبالتالي سوف نقضي على أهم عنصر في الفن وهو الإدهاش”.
ويواصل سليم حديثه لـ”العرب” قائلا “أعتز بتجربتي مع روعة سنبل وأتمنى أن تستمر في الكتابة للمسرح لأنها مؤهلة لأن تكون كاتبة مسرحية على المستوى العربي وأبعد”.
وعن الظروف التي أدت إلى تبنيه فكرة تقديم النص المسرحي لها يتابع “كان وجود الشعر في النص علامة فارقة بالنسبة إلي، أعرف الشاعر رياض صالح الحسين، وكنت قرأته، وعندما تقدم النص لمسابقة الهيئة العربية للمسرح لفت نظر الجميع، ولم أكن أعرف من هو صاحب النص، وبالإجماع اتفقنا على فوز النص بالجائزة الأولى. ومن يومها صممت على أن أقوم بتقديم النص في المسرح. وهو الذي يفرض ألا يقدم من خلال الشكل التقليدي، فخياله خارج النمط والإخراج لا بد أن يكون كذلك، وحتى الأداء، فالمغنية مؤدية والمؤدية مغنية والرجل يمثل حالة ضفدع في تركيبة افتراضية”.
ويستشهد سليم بتشيخوف الذي يقول “إننا نقدم المسرح كما في أحلامنا وليس كما الواقع”، ويتابع “لذلك كسرنا الحالة التقليدية وقدمنا ما يناسب أفكارنا في الرمزية والأحلام، وهذا ما يبرر وجود اختلاف بين اللوحة والصورة الفوتوغرافية. كنت حذرا بشأن غرابة النص وأسلوبيته، لا شك أن الأنماط الأخرى أسهل، لكن ما كان يغريني أنه مشبع بالأحاسيس الحقيقية، وخلال التمارين تدربنا على أنماط عمل مختلفة إلى أن وصلنا إلى النتيجة التي أردناها . كانت هناك طاقة خلاقة استطاعت أن تفجر إبداعات العمل وأرجو أننا حققنا شيئا جديدا، مختلفا كليا عن الذي قبله”.
الشعر في قلب الحدث
الشعر حاضر لتكثيف الحدث
الشاعر رياض صالح الحسين صاحب “خراب الدورة الدموية” وأمل دنقل صاحب “البكاء بين يدي زرقاء اليمامة” ومحمد الماغوط صاحب “الفرح ليس مهنتي” وغيرهم من الشعراء كانوا على صفر مسافة من أوجاع أوطانهم فتلاحموا معها، وصاروا صدى لها في وجدان الناس.
أشعار رياض صالح الحسين في النص والعرض لم تكن صدفة أو تزيينا. فهو شاعر سوري مر كالشهاب في المشهد الشعري السوري والعربي. وكان رغم عمره القصير جدا إبداعيا حالة متفردة في شعر النثر، فصاحب خراب الدورة الدموية وأساطير يومية وبسيط كالماء وواضح كطلقة مسدس ووعل في الغابة. كتب ذات قصيدة في وطنه المكلوم سوريا وكأنه يستشرف ما قد يكون: “يا سوريا القاسية، كمشرط في يد جراح، نحن أبناؤك الطيبون، الذين أكلنا خبزك وزيتونك وسياطك، أبدا سنقودك إلى الينابيع، أبدا سنجفف دمك بأصابعنا الخضراء ودموعك بشفاهنا اليابسة، أبدا سنشق أمامك الدروب ولن نتركك تضيعين يا سوريا، كأغنية في الصحراء”.
مسرحية تستحضر عوالم الخوف والانكسارات والهزائم الروحية، وجدليات الوطن والغربة والحب والفقد والضحية والجلاد والماضي والحاضر
والكاتبة روعة سنبل، أيقنت أن ثمة تماهيا بين حالة الصالح الإبداعية والحال الراهن الذي يعيشه وطنه، تسميه “تشابكا” وتلاحما في الظروف المحيطة وربما في الألم المسكوت عنه. وكانت قصيدته “تانغو تحت سقف ضيق” حاضرة في قلب المسرحية كتكثيف لمعنى سردي. كتب فيها: “قلبي سائغ للقضم / ملجأ للأرانب الزرقاء / سمكة قرش بزعانف من صبار شرس/ قلبي سائغ للقضم/ ويتحرك ببطء على بلاطك الشوكي أيتها الأرض / أيتها الأرض الممتدة من الموت بجدارة / على نصال الخناجر/ إلى الموت بجدارة أشد/ بواسطة حبل يتدلى من شجرة زيتون مغبّرة / أيتها الأرض المعبأة بالأخاديد / المطلية بالحصى والرصاص/ المرتدية عباءة من جسور تصل دائمًا/ بين القبور والموتى”.
ويذكر أن المسرحية من إنتاج مديرية المسارح والموسيقى بدمشق في وزارة الثقافة. عن نص للكاتبة روعة سنبل وهي من إعداد وإخراج عجاج سليم وشارك فيها تمثيلا ريم زينو بدور مي ووليد الدبس الذي أدى دور الضفدع وندى العبدالله السيدة المقعدة وأليس رشيد في الإيماء وإيناس رشيد في الغناء.