الحقيقة الغائبة.. الكتاب الذي قتل فرج فودة
9/6/2020حسن العدم
فرج فودة هو كاتب مصري أثارت كتاباته جدلا واسعا في الشارع المصري والعربي عموما، وقد كان كتاب “الحقيقة الغائبة” أكثرها تلك الكتابات صخبا واضطرابا، ذلك أن الكاتب وجَّهَ سهامه إلى شريحة مهمة من المجتمع المصري، وهم الإسلاميون.
ضرب اليسار باليمين.. ضجيج عهد السادات
تعود بدايات القصة إلى أوائل السبعينيات، عندما سمح السادات بعودة الأحزاب، فغطّت التجمعات الفكرية من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار كامل مساحة الرقعة الفكرية والثقافية في مصر.
في تلك الفترة ظهر الإسلاميون بطيفهم المعتدل الذي يريد أن يلتزم بتعاليم الإسلام وأخلاقياته الوسطية، وينصح بالتي هي أحسن، كما ظهر المتطرفون الذين يؤمنون بالقوة والعنف سبيلا للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وكان هناك على الطرف الآخر العلمانيون واليساريون وبعض فلول الشيوعيين وأصحاب الدعوات الإلحادية، ممن ضجت بهم الساحة المصرية آنذاك.
فرج فودة.. الكاتب الذي حكم عليه قلمه بالإعدام
كان كتاب “الحقيقة الغائبة” تصديا وهجوما عنيفا على فكرة كتاب آخر، اسمه “الفريضة الغائبة” لمؤلفه محمد عبد السلام فرج الذي أصَّل فيه لمنهج وفكر الحركات الجهادية في بداية الثمانينيات، وهو كتاب صغير في حجمه يقع في 152 صحفة من القطع الصغير، ولكنه كان مثيرا في محتواه، فقد أثار ضجة كبيرة حين صدر، وألَّب الإسلاميين ضده على اختلاف مشاربهم، واحتوى على وقائع وأفكار صادمة.
“خطايا الحكم”.. تاريخ العصور المزكاة المغيّب
قامت فكرة الكتاب على جمع ما اعتبره فودة “خطايا الحكم” في زمن الخلفاء الراشدين والأمويين والعباسيين، وقدّم هذه “الخطايا” على أنها حقائق غائبة غيَّبها الإسلاميون -على حد رأيه- عن قصد وسوء نية، وأظهروا الصفحات المشرقة فقط لحكم المسلمين، حيث قدَّم المؤلف كتابه في ثلاثة فصول ومقدمة وخاتمة، تناول في الفصل الأول عصر الخلفاء الراشدين ثم جعل الفصل الثاني عن الأمويين، وتوقف في الثالث عند العباسيين، وختم بأنه يفضل التوقف هنا، وإن كان ما زال في جعبته المزيد ليذكره.
انتقاد فودة للخلفاء الراشدين والانتقاص من قدرهم وآرائهم التي أجمعت عليها الأمة، كان لا بد له من ثمن
ويرى بعض الإسلاميين المعتدلين أن هذا الكتاب عبارة عن مجموعة من الأوهام، موجودة في ذهن الكاتب فقط، ولا تمت إلى حقائق التاريخ بصلة، ويفضلون تسميته بـ”الأوهام الحاضرة”، بدل الحقيقة الغائبة.
أما المؤيدون لأفكار الكتاب من العلمانيين واليساريين فهم يرون أن المؤلف سرد وقائع من التاريخ عن بشر يخطئون ويصيبون وينحازون ويحيدون، فليسوا بالملائكة ولا المعصومين، بينما يرى الإسلاميون فيه طعنا في بعض الصحابة، وانتقاصا لهامات وقامات عظيمة في صدر الإسلام، وتطاولا على كثير من الأحاديث والسنة المشرفة.
اجتزاء النصوص.. قراءة منحازة للتاريخ
يقرر المؤلف في كتابه فكرة أن الإسلام دين وليس دولة، وأن الشريعة وسيلة وليست غاية، ولذا فإن تطبيقها في حد ذاته غير ملزم، ويعرض لطرق اختيار الحكام في الإسلام، والفجوة بين الفقهاء والسلاطين، وتجاوز النصوص الشرعية في بعض الأماكن والعصور، ليستخلص في النهاية ما يذهب هو إليه، وهو أن الدين موجود ليس ليحكم، بل ليمارس كشعائر فقط.
من الواضح أن فودة اتخذ في مؤلفاته مسارا ينتقد فيه الدين الإسلامي وأحكامه، لكنه لم يتعرض للدولة وسياساتها
ليست المشكلة في المصادر التي اعتمد عليها فودة مثل الطبري أو المسعودي أو ابن الأثير، ولكن المشكلة تكمن في اجتزائه النصَّ من سياقه، أو تفسيره بما لا يحتمله روح النص. حيث يقول الباحث الإسلامي د. وصفي أبو زيد: نقل فودة في كتابه 83 نقلا من مصادر تاريخية، منها 34 نقلا لم يكن موثقا وليس له مراجع، وهذا العيب وحده يكفي أن يقوِّض الكتاب من رأسه إلى عقبه، ويرميه في مزابل التاريخ.
رأى فودة في كتابه أن نظام الحكم في الإسلام نظام قبلي غير واضح المعالم، ولا يمكن أن يقاس عليه، ولذلك أنكر على الذين يطالبون بالدولة الإسلامية، وأسقط عنهم سمة الاجتهاد وإعمال العقل في تفسير النصوص.
ونزع فودة في كتابه عن الحكم الراشد ذلك النصوع والإشراق في صدر الإسلام، ووصف الحديث عن تطبيق الشريعة بأنه ردة إلى الخلف ونكوص إلى أعماق التاريخ، بل ويزيد: إن تطبيق القوانين الوضعية في عصرنا الحاضر، أفضل بكثير من العودة إلى ما يقولون عنه قرآن وسنة.
جدلية اختيار الحاكم.. وقائع التاريخ ليست نصا
يرى المنتصرون لرأي فودة أنه لم ينكر تطبيق الشريعة بحد ذاته، ولكنه ينكر التوقيت في هذا العصر، ويقولون: إن كثيرا من الحكام في صدر الدولة الإسلامية اضطهدوا العلماء والفقهاء، وكانوا على خلاف معهم مثل الإمام مالك والإمام أبي حنيفة مع العباسيين، بينما يرى المسلم المعتدل المحايد أنه يجب التفريق بين الشريعة الإلهية كما نزلت في النصوص، وبين اجتهادات العلماء التي هي تفاعل العقل مع النص.
لم يعلم فودة بأنه حين تجرأ على ثوابت الدين فإنه قد أهدر دمه مقابل فكرة لم تنفعه بعد ذلك
وكمثال على اجتزاء النصوص وإخراجها من سياقها، يضرب فرج فودة مثالا لعمر بن الخطاب رضي الله عنه (حين عطّل النص) وأبطل حد السرقة، وعلى ذلك يرد الدكتور عبد الرحمن سالم، أستاذ التاريخ الإسلامي، حيث يقول إن عمر لم يعطل النص، وإنما أخذ بنص آخر (ادرأوا الحدود بالشبهات)، واعتبر أن أخذ ما يسد الرمق للإبقاء على الحياة في عام الرمادة لا يعتبر سرقة.
وعن طريقة اختيار الخلفاء يرى فودة أن الاختلاف في طريقة اختيارهم يدل على أن لا طريقة محددة لاختيار الحاكم، وأن ما توافق عليه الناس في عصر من العصور حتى بالانتخاب المباشر، يمكن أن يكون وسيلة شرعية لاختيار الحاكم، بينما يعيب فودة على خصومه المتطرفين أنهم يرون هذه الطرق التي اختير على أساسها الخلفاء الراشدون، هي فقط الطرق الشرعية لاختيار الحاكم، وما سواها فكفر وردة.
استفزاز الخصوم.. فودة يخط نهايته بيده
احتدم الصراع بين الفريقين، وبدا أنه قد تشكَّل معسكران متضادان، يقف فرج فودة على أحدهما وتقف جموع الإسلاميين على الطرف الآخر، حتى أن جبهة علماء الأزهر قد شنّت عليه هجوما عنيفا واتهمته بالردّة، وأصبح واضحا أن الرجل متشبث بموقفه وآرائه ولا سبيل إلى التلاقي أو التحاور، حتى أن بعض أنصاره صاروا يعدّون أيامه الباقية.
جبهة علماء الأزهر شنّت على فودة هجوما عنيفا واتهمته بالردّة، فتصدر شابان جهاديان تنفيذ الحكم
كتبت أفكار فودة نهايته، وتلوّن يوم الثامن من يونيو/حزيران 1992 بلون الدم، فقُتِل فودة أمام مكتبه من قبل شخصين ينتميان للجماعة الإسلامية، وكان قتله ذريعة للعلمانيين ليشنوا حملاتهم المسمومة على الإسلام من خلال مهاجمة مجموعة مخطئة من المتطرفين. بينما يرى الإسلاميون المعتدلون أن قتله كان خطأ، وأن أي اختلاف في الرأي يجب ألا يفضي إلى القتل.
“لا يقتل مسلم بكافر”.. إقامة حد الردة
كان من بين الشهود الذين استدعتهم المحكمة للإدلاء بشهادتهم في حادثة مقتل فودة، كلٌ من الشيخ محمد الغزالي والدكتور محمود مزروعة، حيث قال الشيخ الغزالي إن ما قاله وكتبه فودة ينزع عنه صفة الإسلام ويوقعه في الردة والكفر، ولكن إقامة الحد تكون من قبل الحاكم، ولا يجوز لأي مسلم أن ينصب نفسه مفتيا وشرطيا، ووصف الفاعلين بالنزق وقلة العلم.
الغزالي اعتبر أقوال فودة ردة عن الدين، وأما الدكتور محمود مزروعة فاعتبره كافرا ولا يقتل المسلم بالكافر
وجاء في شهادة الدكتور مزروعة أنه لا يقتل مسلم بكافر، وفرج فودة محكوم عليه بالردة، وهؤلاء الشباب مسلمون، ولا يجوز قتلهم به.
“هلك” فودة، وقال عنه بعض المتشددين من المسلمين: “إلى جهنم وبئس المصير”، في حين أشفق عليه بعض المعتدلين، وقالوا: “كان بإمكانه أن يطرح كل القضايا التي طرحها، ولكن بأسلوب علمي معتدل بعيد عن الاستفزاز والصدامية”. وهو في النهاية أفضى إلى ما قدّم، وأقبل على الملك الذي لا يَظلم أحدا، ولا يسمح بأن يُشرك معه في حكمه أحد. فهل ينفع فودة فكره وكتبه يوم القيامة؟