“أنيلكا غير المفهوم”.. العبقري الذي خذلته كرة القدم فانتصرت له السينما
4/10/2020عبد الكريم قادري
من أكثر لاعبي كرة القدم تعرضا للظلم والقهر، فما من محطة في مساره أو تجربة عاشها مع نادٍ من الأندية العريقة إلا وأسال فيها الكثير من الحبر بسبب القضايا التي لا تنتهي، ليس بسبب بشرته السمراء التي لا يتقبلها بعض العنصريين في المجتمع الأبيض، بل جاءت كل هذه المشاكل لأنه لاعب نجم يُساء فهمه دائما، حتى أنه طرد من الفريق الفرنسي بسبب خبر كاذب نشرته صحيفة، لتنكشف الحقيقة بعد ثمانية أعوام ويظهر ما كان مختبئا.
طرحت منصة “نتفليكس” فيلما وثائقيا استقصائيا مهما (ساعة و34 دقيقة) عن أحد صناع أفراح الساحرة المستديرة لعقدين من الزمن، وهو اللاعب الفرنسي “نيكولا أنيلكا” تحت عنوان “أنيلكا غير المفهوم” (Anelka L’Incompris)، وقد أنتج الفيلم عام 2020، وقام بإخراجه الفرنسي “فرانك ناتاف”.
تطرق الفيلم لأهم المحطات التي اجتازها هذا اللاعب الفرنسي الموهوب، فرغم موهبته الاستثنائية فإنه عاش مسيرته الكروية في جحيم لا يطاق بسبب الأضواء التي سلطت عليه عن طريق الصحافة الرياضية التي تترصد كل حركة له أو فعل يأتي به.
بدأ الأمر يلاحقه منذ أيام مراهقته، خاصة أنه دخل عالم كرة القدم وهو طفل صغير في نادي “باريس سان جرمان” التي جاءها من مدرسة تكوين لاعبي كرة القدم، وقد دخلها هي الأخرى وهو طفل بعد امتحان وتجارب أداء مكثفة شارك فيها المئات من الأطفال.
مغادرة باريس سان جرمان.. بداية الحرب مع الإعلام الفرنسي
رغم أن النادي الفرنسي باريس سان جرمان قد احتضن أولى تجارب “أنيلكا” -ذي الـ17 عاما- فإن “أنيلكا” قرر المغادرة والمجازفة في ناد آخر، حيث اتصل به المدرب المشهور “أرسين فينغر” ليلعب في النادي الإنجليزي العريق أرسنال، وحين تعاقد معهم قامت قيامة الإعلام الفرنسي ومسؤولي كرة القدم بسبب هذه الخطوة التي اعتبرت غير قانونية، من ناحية أن الطفل قاصر من جهة، ومن جهة ثانية أن القوانين لا تسمح له بهذا التنقل المبكر.
أما من الناحية الأخلاقية فقد اعتبر بأن هذا الفعل الذي صدر من “أنيلكا” غير مسؤول لأنه لم يحترم ما قدمه له النادي الذي اكتشف موهبته، كما أن الصحافة دخلت له من باب الأسرة، على اعتبار أن من يدير العلاقات العامة لهذا اللاعب هو أخوه الأكبر الذي تلاعب بمصيره من أجل المال.
لا أحد نقل وجهة نظر هذا الطفل بعد ما وجد من التهميش في هذا النادي الذي لم يشركه في المباريات رغم موهبته الكبيرة التي أبان عنها، لهذا تنقل ولعب في نادي أرسنال الإنجليزي، ومن هناك تبدأ رحلة أخرى مع المشاكل والتنقلات.
صورة بانورامية في الصحراء تظهر “أنيلكا” مهموما يتنقل من كثيب إلى آخر بدون أي موجودات باستثناء الرمال
“لا تفعل شيئا مما فعلتُه لأنه سيكسبك العداء”.. ضريبة قول الحقيقة
بدأ الفيلم الوثائقي بصورة بانورامية في الصحراء الشاسعة تظهر “أنيلكا” مهموما يتنقل من كثيب إلى آخر بدون أي موجودات باستثناء الرمال الممتدة، وكأن المخرج يعكس بصورة ما هذا الخواء والتيه الفكري وامتداد السؤال الوجودي الذي ينعكس في مسار وتجارب هذا اللاعب المميز.
فتعكس هذه الصحراء الممتدة محطات حياته، وتصور ما يجول بخاطره وعقله، لهذا نسمعه بعدها يسرد جملا لها قيمة فلسفية كبيرة، وكأنها نصيحة يوجهها لكل من يحاول التأثر به أو دخول عالم كرة القدم أو أي مهارة أو حرفة أو تجربة أخرى، فيقول: لا تفعل شيئا مما فعلتُه، لأنه سيكسبك العداء.
بمعنى أن الأشياء التي قدمتها خلال مساري لا تقدمها أنت، لأنها ستكسبك الكثير من الأعداء، ولم يقل إن هذا المسار خاطئ، وحسب دلالة القول بعد ربطه بمحتوى الوثائقي يقول إن الحقيقة تؤلم دائما، والصراحة ليس لها مكان في الوجود، لأنهما خصلتان تولدان العداء الدائم.
بمعنى آخر أنه يختصر العالم بمفهوم قوله “العالم لا يحب الحقيقة ولا من يقولها”، وسيسبب الكثير من المشاكل لمن يتبع المسار الذي اتبعه “أنيلكا”، لكونه صريحا ولا يجامل ولا يقول سوى الحقيقة فقط، وهو المفهوم الذي يعكسه عنوان الفيلم الوثائقي “أنيلكا غير المفهوم”، أو “أنيلكا” الذي يساء فهمه في كل شيء تقريبا، لأنه لاعب لا يجامل ويقول الحقيقة ولا يتراجع أبدا عن مواقفه.
وقد تسببت هذه المواقف الصلبة في حرمانه من المشاركة عدة مرات من اللعب مع الفريق الوطني الفرنسي لكرة القدم في كأس العالم، رغم أنه لاعب موهوب.
صورة تجمع “أنيلكا” مع مدرب المنتخب الفرنسي “ريمون دومينيك” الذي غيّرت الصحافة الفرنسية من حواره مع أنيلكا وكانت سببا في طرد الأخير من المنتخب
طرد من المنتخب الفرنسي.. حملة من أعلى هرم السلطة
ربما تكون أكثر التجارب قسوة ومرارة في حياة “أنيلكا” هي تلك التي قبل فيها اللعب مع المنتخب الفرنسي في كأس العالم الذي نظم في جنوب أفريقيا سنة 2010، وهذا بعد هزيمة المنتخب الفرنسي أمام نظيره المكسيكي بهدفين لصفر.
فقد توجه المدرب “ريمون دومينيك” مباشرة إلى غرفة الملابس في نهاية الشوط الأول، ووجه نقدا إلى “أنيلكا” الذي كان يعاني ضغطا كبيرا بسبب انعدام الحلول في تلك المباراة، لهذا رد عليه بشكل عادي، لكن العالم تفاجأ بعنوان بالخط العريض لصحيفة “ليكيب” الفرنسية تنقل كلاما نابيا على لسان “أنيلكا” موجها للمدرب.
قامت قيامة فرنسا والعالم وقدم الرئيس الفرنسي “نيكولا ساركوزي” خطابا ناريا، كما طُلب من “أنيلكا” الاعتذار رسميا، لكنه رفض بشكل قطعي، وهذا ما جعل الإدارة تطرده من الفريق ليعود أدراجه من جنوب أفريقيا إلى فرنسا.
بعد 8 سنوات ظهرت براءة “أنيلكا” لكن الصحاف لم تحتف بالبراءة كما احتفت بالخبر الكاذب الذي حطّم مسيرته الكروية
إثبات البراءة.. عنصرية الصحافة والقضاء الفرنسي
احتج الفريق على طرد “أنيلكا” واتخذ موقفا جماعيا امتنع من خلاله عن التدريب أو التصريح للصحافة، لتكون تلك آخر مباراة يلعبها “أنيلكا” مع الفريق الفرنسي، وبعد 8 سنوات قدم المدرب الفرنسي “ريمون دومينيك” تصريحا في فيلم وثائقي قال فيه إن اللاعب الفرنسي “أنيلكا” لم يوجه له ذلك الكلام النابي، لتظهر براءة “أنيلكا” بعد سنوات.
لكن الصحافة لم تحتفِ بهذه البراءة كما احتفت بذلك الخبر الكاذب الذي حطّم مسيرته الكروية، كما تعجب المهتمون بتلك الحادثة من أن المدرب لم يُكذب الخبر في ذلك الحين، وكأن تسليط الضوء على “أنيلكا” وتحميله مسؤولية خسارة الفريق أنقذه من ورطة تحمل نتائج الخسارة.
وأكثر ما يحز في نفس “أنيلكا” أنه رفع دعوى قضائية ضد الصحيفة بتهمة الكذب والقذف والتشهير، غير أن القضاء اعتبر الأمر عاديا، وهي سابقة قضائية رأى بعض ضيوف الفيلم أنها غير منطقية، ولمحوا إلى كون الأمر عنصريا لأنه لو حدث مع شخص آخر بنفس المعطيات لكان الحكم يدين الصحيفة، لكن هذا ما لم يحدث مع “أنيلكا” صاحب البشرة السمراء.
“أنيلكا” أكثر لاعبي كرة القدم تعرضا للظلم والقهر والكذب من قبل الصحافة
شهادات النجوم.. تمدد أذرع الكاميرا في المحيط العائلي والمهني
اعتمد الفيلم الوثائقي الاستقصائي “أنيلكا غير المفهوم” بشكل رئيسي على الشهادة المباشرة من “أنيلكا” نفسه فسُلطت الكاميرا عليه وعلى زوجته وأطفاله لخلق حلقة تواصلية بينهم وبين الجمهور، وإظهار الجانب الإنساني الغائب أو المغيّب في حياة هذا الرجل الذي ركن للراحة.
كما استعان مخرج العمل بالأشخاص المقربين منه كأبيه وأمه وأخيه وبعض زملاء الدراسة، ورفقاء كرة القدم مثل النجم “ديدي دروغبا”، أما أكثر الأصدقاء قربا فهو زميل طفولته ومساره نجم المنتخب الفرنسي “تيري هنري”، كما نقل الفيلم شهادة المدرب “أرسين فنغر” وغيرهم ممن عاشوا وعاصروا هذه التجربة عن قرب.
“أنيلكا يسجل أول هدف له”.. خديعة الإعلام الإسباني
ركزت الشهادات في الفيلم على الجانب الإنساني غير المفهوم في حياة “أنيلكا”، وهو الأمر الذي سيساعد على تقديمه بشكل أوضح، كما استعان المخرج بالأرشيف السمعي البصري لمساره الكروي من مقابلات كروية وصحفية، وأهمها تلك التي أثارت الجدل.
من بينها مثلا الإشارة التي رفعها في أحد ملاعب إنجلترا وفُهمت على أنها إشارة معادية للسامية، وكذلك لعبه في نادي ريال مدريد من خلال أكبر صفقة في ذلك الوقت، لكن تتبع الصحافة له حتى في منزله شكل عليه ضغطا كبيرا.
وأكثر من هذا فقد خدعته صحيفة “ماركا” الإسبانية حين استدرجته للعبة إلكترونية في مكتبها، وفي يوم غد كتبت في ظهر الصفحة الأولى “أنيلكا يسجل أول هدف له”، وهي إحالة على عدم تسجيله أي هدف بعد انتقاله للريال، وقد شعر “أنيلكا” وقتها بالخديعة التي تعرض لها من قبل الصحيفة، ليدخل في حالة نفسية خطيرة وكآبة أكبر.
اللاعب الفرنسي “أنيلكا” تجمعه علاقة استثنائية وناضجة جدا مع زوجته “باربرا” وابنته
“أحبك”.. صناعة الدفء العائلي
نقل الفيلم بشكل استثنائي العلاقة القوية بين “أنيلكا” الذي أصبح ناضجا جدا وبين أسرته، إذ يشرف شخصيا على حاجياتهم وتدريبهم ونقلهم إلى المدرسة، ويقول إنه بحاجة إلى أن يرى نموهم أمامه، وأكثر من هذا يريد أن يخلق بينهم جوا من المحبة، حتى يسمع على لسان كل فرد منهم وبشكل دائما كلمة “أحبك”.
فيلم “أنيلكا غير المفهوم” فيلم إنساني يعرف كيف يستخرج الحقيقة ويقدمها للمشاهد، وهو مثير وسلس فلا يمكن أن يحس الجمهور أثناء مشاهدته بأي ثقل في المشاهدة، لأنه يعتمد بشكل أساسي على تنوع المشاهد وطرق معالجتها والتنقل بينها.
إضافة إلى تطرقه للعديد من المسائل المهمة التي كانت مغيّبة أو غائبة عن الرأي العام، ليكون هذا الفيلم مناسبة مهمة لجميع الأطراف ليعرفوا الكثير من الأشياء حول مسار ومحطات هذا اللاعب النجم “نيكولا أنيلكا” الذي ظلمه الإعلام.