“نساء خلف المِقود”.. رحلة سينمائية لاكتشاف عوالم النساء الملهمة في آسيا الوسطى
17/11/2022
قيس قاسم
قامت المخرجة البريطانية المستقلة “هانا كونغدون” وزميلتها المختصة بصحة المرأة “كاثرين هيغ” رحلة طويلة من لندن إلى بعض دول آسيا الوسطى دامت 55 يوميا، وقد قطعتا خلالها بسيارة رباعية الدفع طريق “بامير” السريع الذي يعد ثاني أطول خط طريق بري سريع في العالم، ويتميز بشدة انحداراته وممراته الضيقة، وتجلي هذه الرحلة جوانب من الحياة في دول آسيا الوسطى وبشكل خاص أحوال النساء فيها.
وقد مرّتا بمدن وقرى واقعة في ثلاث دول هي أوزبكستان وطاجكستان وقرغيزستان، وخلالها قابلتا نساء من دون تخطيط مسبق. فصانعتا الوثائقي البريطاني “نساء خلف المِقود” (Women Behind the Wheels) أرادتا أن تكون اللقاءات عفوية، وعبرها يمكن معرفة أحوال المرأة في تلك المنطقة، وطبيعة العلاقات الاجتماعية السائدة فيها، من دون موقف مسبق منها.
مدينة أوش.. لقاء حول المناهج التعليمية في مدرسة البنات
الروح الإيجابية من الآخر، والرغبة في التعرف عليه متأتية من التجربة الحياتية لصانعتيه، فالمشهد التعريفي بهن يشي بانفتاح على ثقافات أجنبية وبعلاقات طيبة مع الغير في بلدهن، وهذا ينسحب على منجزهن السينمائي المفعم بروح مُحِبة لا تُغيّرها بعض المواقف السلبية التي واجهتهن أثناء رحلة طريق طويلة وشاقة، بسبب طبيعة المنطقة الجغرافية المعروفة بارتفاعها الشاهق عن مستوى سطح البحر، وأيضا لقلة الخدمات المقدمة على الطريق، فلولا تعاون الناس لما استطاعتا تجاوزها بسهولة.
كرم وضيافة النساء في كل بقاع آسيا الوسطى
ولإضفاء مزيد من الحيوية وتجاوز الأنماط السردية التقليدية اختارتا المشاركة الشخصية الفاعلة في الفيلم، وسرد تفاصيل أحداثه بأسلوب شائق بسيط يأخذ طابع يوميات رحلة طريق. وفي أول لقاء لهن في مدينة أوش الأوزبكية يتضح ذلك الميل، من خلال زيارتهن لمدرسة بنات تقع في أطراف المدينة، وقد حكت مديرة مدرسة البنات عن المناهج التعليمية فيها، وركزت على تلقين الطالبات القراءة والكتابة إلى جانب التعاليم الإسلامية حول علاقة الرجل بالمرأة.
تلاحظ صانعتا الفيلم الانفتاح الجلي على متطلبات العصر من دون تعارض مع قيم المجتمع. وأثناء لقاءاتهن بنساء من المنطقة تتضح شدة إدراكهن لضرورة إجراء تغيير هادئ في وضع المرأة، يستند بالأساس على حاجة المجتمع لدورها ومشاركتها الرجل في الحياة اليومية من دون تغليب طرف على آخر.
مدينة سمرقند.. آثار السوفيات في ملتقى ثقافات الشرق والغرب
لمتابعة مسار الرحلة يستعين الوثائقي بالرسومات التوضيحية التي تظهر على الشاشة على شكل خرائط تبين مسار السيارة والمدن المارة بها أو التي تقصدها، مع نبذة قصيرة عن طبيعتها وعدد سكانها ومستوى ارتفاعها عن سطح البحر. تصف المخرجة مدينة سمرقند أثناء انتقال الرحلة من أوش إليها، بأنها النقطة الحضارية التي اجتمعت فيها الثقافتان الشرقية والغربية.
المخرجة السينمائية تعرض ما وثقته بكاميرتها لسيدة قبلت المشاركة في الفيلم
في المدينة تستقبل امرأة أوزبكية تعمل في شركة استشارية مختصة بالأعمال التجارية الضيفتين البريطانيتين، وتشرح لهن جانبا مهما يتعلق بصلة دول آسيا الوسطى بالاتحاد السوفياتي تاريخيا، وتأثير ذلك على الحياة فيها حتى بعد نيل دولها استقلالها الوطني.
تشير أولا إلى حقيقة أن المرأة في العهد السوفياتي تمتعت بدور ملحوظ ومشاركة فاعلة في المجتمع، بما فيها مجتمعات دول آسيا الوسطى، فقد كان التعليم مجانيا، وأتاح لكثير من النساء الحصول على شهادات أكاديمية عالية.
أوزبكستان.. عودة للإرث الثقافي الوطني بعد الاستقلال
بعد سنوات التسعينيات وبداية الألفية الثالثة ظهرت ميول قومية في الدول المستقلة تطالب بالعودة إلى الإرث الوطني القديم، ورافق الدعوة للجذور الثقافية بروز ميل متشدد نحو بعض التقاليد الإسلامية التي تراجعت في العهد السوفياتي، من بينها كما تشير المضيفة ارتداء الحجاب، ومنح الأولوية للرجل في مجال العمل.
امرأة مشاركة في الوثائقي تتأمل محيطها بهدوء
بعيدا عن التحليل والتنظير يدخل الوثائقي بيت عائلة أوزبكية من غير موعد مسبق، تستقبلهم فيه شابة تجيد الإنجليزية، توضح لهم أن العلاقات الاجتماعية وبشكل خاص بين المرأة الرجل ما زالت محافظة، لكن المرأة فيه لها دور مهم وفاعل.
تحكي الفتاة عن تجربتها في رعاية أخيها المعاق جسديا، وكيف تكرس كل وقتها لمساعدته، وقد دفعت شجاعتها وطيب قلبها البريطانيتين لمعانقتها والتعامل معها كمثال على غلبة الحس الإنساني للمرأة الأوزبكية على المعوقات الاجتماعية التقليدية.
مدينة تيرميز.. خطة نسائية لإحداث تغيير مجتمعي هادئ
تمضي الرحلة من سمرقند إلى مدينة تيرميز في طاجكستان، وهناك تسجل الكاميرا مشاهد يومية تظهر فيها المرأة كعاملة في كافة المجالات. الحديث مع بعضهن ينقل حالة الاستقرار الحالية التي تمر بها البلاد بعد تجربة حرب أهلية مريرة شهدتها بعد نهاية الحقبة السوفياتية، ففي وسط المدينة تجتمع فتيات شابات في مقهى يتوفر على حواسيب وشبكة اتصال (إنترنت).
رحلة سينمائية طويلة بين دول اسيا الوسطى، أثمرت فيلما رائعا
تتواصل الشابات مع غيرهن من النساء ويتبادلن معهن الأفكار التي من شأنها إحداث تغير مجتمعي هادئ، سيما أن النظرة للمرأة -حسب ما سمعت صانعتا الوثائقي من بعضهن- ما زالت في طاجيكستان لم ترتق إلى مستوى الطموح.
اللافت في المشهد أن الشابات يرفضن كمبدأ نقل الحوارات الشخصية أو الصور عبر وسائل التواصل الاجتماعي، لأنهن لا ينشدن ظهورا شكليا، بل يبحثن عن الأفكار الجادة التي تساعد على خلق مناخ تفاعلي بين المرأة ومجتمعها.
في هذا المكان تتقدم تجربة الشابة “سابينا” التي حازت على ألقاب عالمية في رياضة للدفاع عن النفس، فبعد زواجها تركت الرياضة، لكنها بفضل ابنها -الذي أخذت بتدريبه- عادت لممارسة الرياضة التي تحبها كمدربة، وذلك رغم التحفظ العائلي الذي أخذ يتفهم بالتدريج معنى رياضة الدفاع عن النفس وفائدته بشكل خاص للفتيات، كي يتمكنّ عبرها من الدفاع عن أنفسهن من أي اعتداء محتمل.
مدينة تشارم.. مشروع اقتصادي يتحدى قسوة الشتاء
حين وصلتا صانعتا الوثائقي إلى مدينة تشارم كانت درجات الحرارة فيها مرتفعة، مما دفعهن للتوقف عند جمعية “أغا خان” النسوية لغرض الاستراحة، ومن دون تخطيط اكتشفتا تجربة ملهمة قادتها النساء المنضمات إليها، وذلك عبر مشروع تربية النحل.
طبيبية نسائية تعمل بالرغم من الظروف الصعبة في المنطقة
لقد حقق المشروع نجاحا مهما، وساعد على تجاوز عوائل كثيرة لمشاكلها الاقتصادية المتأتية أغلبها من بطالة رجالها، وبشكل خاص في مواسم الشتاء الباردة، حين تنقطع الطرقات ويصعب التنقل بين المدن.
ففي أغلب مدن دول آسيا الوسطى تظهر مشكلة البطالة وهجرة الأيدي العاملة إلى روسيا، وما يتبعها من أعباء تقع على عاتق المرأة، والمفارقة البارزة هنا أن هذا البعد يمنح المرأة دورا أكبر في البيت والمجتمع، فغياب الرجال لمدة زمنية طويلة يضع على عاتق المرأة واجبات كبيرة تتعدى العناية بالبيت والأطفال إلى تأمين الحاجات الأساسية للعيش.
أغلب النساء اللواتي التقى بهن الوثائقي يقمن بزراعة المحاصيل الزراعية بأنفسهن، ويُدِرن بيوتهن وفقا للظروف المناخية الصعبة شتاء، بما فيها تعليم الأطفال داخل المنازل.
يرصد الوثائقي ميلا كبيرا عند شابات منطقة خوروغ القريبة من الحدود الأفغانية للتعلم والدراسة خارج البلد، وبذلك تزداد فرصهن للمشاركة في العمل وتحسين موقف المرأة في المجتمع.
مدينة مرغاب.. طبيبة سبعينية ذات تجربة ملهمة
من المقابلات الملهمة تلك التي يجريها الوثائقي في مدينة مرغاب مع طبيبة نسائية، فرغم بلوغها من العمر أكثر من سبعين عاما، فما زالت تعمل في المستوصف الوحيد في المنطقة.
تجربتها ثرية لأنها تقوم بمساعدة النساء على الولادة، وتجري عمليات جراحية عند الحاجة إليها، بأدوات بسيطة وفي ظل انقطاع الكهرباء أحيانا وعدم توفر المستلزمات الطبية الضرورية.
يقابل صناع الوثائقي ممرضات يعملن معها، إحداهن تعلمت قيادة السيارة رغم سخرية رجال القرية منها، لكن إصرارها على القيادة دفعهم مع الوقت لتقبل الفكرة، وكانت تقوم بتوصيل بعضهم إلى بيوتهم بعد انتهاء العمل.
زواج النهب.. حركات نسائية تكسر صمت المجتمع الذكوري
رغم التجارب الملهمة، هناك ظاهرة سلبية يتوقف عندها الوثائقي البريطاني الممتع والحيوي، لكثرة ما ترد على لسان فتيات من المنطقة، وتتمثل بزواج النهب الذي ما زال موجودا حتى اليوم، إذ يرفض كثير من النساء فكرة خطفهن عنوة وتزويجهن للرجل الخاطف من دون سابق معرفة.
تتلقى النساء تعليما إسلاميا متوافقا مع متطلبات العصر
لم يرفض المجتمع الذكوري الظاهرة، لكن النساء يحاولن الحد منها، وربما يأملن في سنوات قادمة التخلص منها نهائيا. هذه الظاهرة موجودة أيضا في قرغيزستان التي وصلت إليها صانعتا الوثائقي، ومكثتا فيها قبل الشروع في رحلة العودة، حيث وجدتا حركة نسوية نشطة فيها تهدف للحد من الظاهرة، وتعمل على معالجة ظاهرة أخرى لا تقل سوءا عنها، وتتمثل بالعنف الأسري.
تتخذ الحركة لمعالجة المشكلة أسلوبا يتناسب مع وضع المجتمع الذي ما زال بعض رجاله يعاملون بغضاضة مع نسائهم، واللافت أن نساء الجمعية كلهن متفقات تقريبا على إبعاد صفة النسوية عن نشاطهن، ويفضلن تسميته نشاطا اجتماعيا يتكامل مع أنشطة أخرى تهدف إلى تحسين ظروف عيش الرجل القرغيزي، مثلما يهدف إلى تحسين مستوى حياة المرأة أيضا.
مع اقتراب نهاية مسار الرحلة تشعر الناشطة النسوية “كاثرين هيغ” وزميلتها المخرجة “هانا كونغدون” بالحزن لأنهن سيودعن نساء ملهمات كريمات اجتمعن معهن دون سابق موعد في رحلة سينمائية، تعرفن بفضلها أيضا على جوانب إيجابية موجودة في دول آسيا الوسطى ما زال الغرب يجهلها، ولهذا يأملن أن يصحح الوثائقي النظرة الغربية لتلك المجتمعات وما يجري فيها من عمليات تغيير تلعب المرأة فيها الدور الكبير.