التشكيلي "عيَّاش".. بين "البليخ" و"الفرات"
- جاسم العيادة
الرقّة
«ما أذكره عن طفولتي وبداية علاقتي بالرسم، هو أنني كنت أنتقي بعضاً من أعواد الحطب المتفحم من تحت "الصاج"، بعد أن تنتهي والدتي من صناعة الخبز، لأرسم بها بعضاً من مشاهداتي على الجدران الخارجية لمنزلنا، مشكلاً ما يسمى بالمناظر الطبيعية، فيتجمع من حولي أقراني من الأطفال بين معجب ومتفرج وناقد ومقلِّد، وقد لازمني هاجس الفن منذ ذلك الوقت حتى يومنا هذا».
هذا ما قاله الفنان التشكيلي "محمد عيَّاش" لموقع eRaqqa والذي راح يحدثنا عن بداياته الأولى مع الفن التشكيلي، حيث يقول: «كما ذكرت سابقاً، أن موهبة الرسم رافقتني منذ سنوات الطفولة الأولى، وبعد دخولي إلى المدرسة، في منتصف الستينيات من القرن العشرين، والتي كان اسمها مدرسة "الرشيد" الابتدائية، لقيت تشجيعاً كبيراً من معلميَّ في الصف ومن إدارة المدرسة، مما دفعني لصقل موهبتي، وتدعيمها بالعمل الجاد.
إن أهم ما يميز تجربة "العياش" الفنية، اهتمامه الزائد بالبيئة، ومفرداتها اليومية، وانحيازه المطلق إلى "الفرات" بكل ما يحمل من صور جميلة، كما أن إنسان وادي "الفرات" حاضر بقوة بلوحاته، التي تبرز ملامحه القاسية، والمفعمة بالطيبة، فلا تنفصل الطبيعة عن الإنسان، بل يتجلّى حضورهما اللافت معاً للتعبير عن مكنوناتها
وفي المراحل الدراسية الأخرى، كانت خبرتي قد ازدادت، حيث تتلمذت على يد الأستاذ "أنور ذياب" وهو معلم مادة الرسم في المدرسة، كما تتلمذت على يد الأستاذ القدير "فواز اليونس"، ناهيك عن اختلاطي بالتشكيليين من أبناء مدينة "الرقة"، ولا أنسى المساعدات التي قدمها لي صديقي الفنان "علاء الأحمد" في مجال الفن، أضف لذلك مشاهداتي لأعمال وطريقة عمل كل من التشكيليين الكبار كـ"طلال معلا" و"أحمد معلا" و"عنايت عطار" والرائع "محمد صفوت" و"بسام الحلو".
البيئة الفراتية من أهم الموضوعات التي تناولها العياش في أعماله
وجدير بالذكر أنني شاركت بمعظم المعارض الفنية المدرسية وغير المدرسية، التي كانت تقام في السبعينيات من القرن الماضي، وقد اكتسبت من خلالها خبرة كبيرة، ساهم بوجودها تلك الحالة التنافسية التي كانت تسود بين المشاركين بالمعارض الجماعية، وأنا شخصياً استفدت كثيراً من تجارب زملائي الذين كنت أعرض أعمالي معهم».
ويضيف "عيَّاش" وفي السياق ذاته: «في عام /1980/م، انقطعت عن الفن وابتعدت عن ساحة الفن التشكيلي، وذلك لظروف خاصة تتعلق بالعمل، ثم عدت إلى هذه الساحة في عام /1996/م، لكن هذه المرة من العاصمة اللبنانية "بيروت"، حيث أمضيت فيها قرابة عشرين عاماً، حيث تعرفت هناك وفي السنوات الأخيرة لوجودي في "بيروت" على عدد من الفنانين التشكيليين اللبنانيين، وشاركت معهم في العديد من المعارض الجماعية، كما عملت مع النحات المعروف "ميشال حداد" حتى عودتي إلى مدينة "الرقة" عام /2002/م، حيث شاركت بالعديد من المعارض الجماعية مع فناني المحافظة، كما كنت مشاركاً دائماً في المعارض الفنية التي يقيمها متحف "طه الطه"».
من أعمال عياش الأخيرة
وعن العصر الذهبي للفن التشكيلي في مدينة "الرقة"، يقول "عيَّاش": «برأيي أن هذا العصر يمتد من سبعينيات القرن العشرين وحتى منتصف التسعينيات من ذات القرن، وهناك العديد من الأسباب التي ساهمت بهذه النهضة الفنية في ذلك الوقت، وأعتقد أن أهمها هو اجتماع عدد جيد من الفنانين التشكيليين في مدينة "الرقة" في تلك الفترة الزمنية، والذين يعتبرون بحق أعلام الفن التشكيلي الرقي، حيث كانوا في أوج عطائهم الفني، وغالبيتهم حققوا نتائج باهرة، سواء على الصعيد المحلي أو الإقليمي أو العالمي.
وأنا شخصياً أعتبر أنهم من أرسى دعائم الفن التشكيلي في "الرقة"، وللأسف فإن قسماً منهم اليوم يقيم خارج "الرقة"، وقسم آخر يعيش خارج القطر، أما القسم الذي بقي في هذه المدينة، فما زال يقدم عطاءاته الفنية بسوية راقية، لكن ضمن مناخ فني أستطيع أن أنعته بأنه مناخ غير صحي، أو على الأقل أنه لا يصل بأي حال من الأحوال لمستوى المناخ الذي كان سائداً في الفترة السابقة، والتي كما ذكرت، هي الفترة الممتدة من سبعينيات إلى منتصف تسعينيات القرن العشرين، ولهذا التغير أسباب عديدة، لا مجال لذكرها في هذه العجالة.
الفنان محمد عياش بريشة أحد الأصدقاء
لكن مع كل ذلك، فإن هناك حراك ثقافي فني، بدأت بوادره في السنوات الخمس الأخيرة، ولعلَّ الدور الأبرز في ظهوره يعود لمديرية الثقافة بـ"الرقة"، فلا يخفى على أحدٍ اليوم أن "الرقة" باتت تعتبر إحدى أهم عواصم الثقافة في سورية، فالمهرجانات المسرحية المنتظمة والمهرجانات الأدبية المختلفة، والمعارض الفنية، والملتقيات الفنية الدولية التي تقام في "الرقة" دليل على نهضة ثقافية، نأمل أن تساهم بالارتقاء الفكري والثقافي في هذه المدينة، وأودُّ أن أنتهز الفرصة هنا لأشكر الأستاذ "حمود الموسى" مدير الثقافة في "الرقة"، الذي له أيادٍ بيضاء على الحركة الثقافية في مدينة "الرقة"».
وفي إطار الحديث عن تجربة التشكيلي "عياش"، يقول الفنان "جورج شمعون": «إن أهم ما يميز تجربة "العياش" الفنية، اهتمامه الزائد بالبيئة، ومفرداتها اليومية، وانحيازه المطلق إلى "الفرات" بكل ما يحمل من صور جميلة، كما أن إنسان وادي "الفرات" حاضر بقوة بلوحاته، التي تبرز ملامحه القاسية، والمفعمة بالطيبة، فلا تنفصل الطبيعة عن الإنسان، بل يتجلّى حضورهما اللافت معاً للتعبير عن مكنوناتها».
ومن الجدير ذكره أن الفنان "محمد عيَّاش" ولد عام /1960/م، في قرية "حويجة عبدي" المحاذية لنهر "البليخ"، في منطقة "تل أبيض" التابعة لمحافظة "الرقة"، وله العديد من الأعمال الفنية داخل "الرقة"، ولعلَّ أشهرها بوابة "دار التراث"، والتي تمثل نموذجاً لـ"باب بغداد"، أشهر أبواب "الرقة" التاريخية.