"ليندا إبراهيم".. كتابةُ الأنوثة والياسمين
طرطوس
هي شاعرة متميّزة حقّقت حضوراً محليّاً وعربيّاً، تأخذها فيما تكتبُ غنائيّةٌ تتقاطعُ في إيقاعها الحيّ جذورُ الماضي وشرفاتُ المُستقبل، هي الشاعرة "ليندا إبراهيم".
مدوّنة وطن "eSyria" التقت الشّاعرة ليندا ابراهيم للحديث عن تجربتها الشّعريّة، وكان معها هذا الحوار:
ديوانها "لدمشق هذا الياسمين"
** لماذا الشّعر! سؤالٌ طالما طرحته على نفسي، ولم أجد سوى جوابٍ واحدٍ هو أنّي وعيتُ حالمةً في طبيعة جميلة، وفي أسرةٍ مثقّفة تحبّ الأدب والشّعر تحديداً ويحفظه ويتذوّقه أفرادها دون استثناء. أسمع الشّعر الموزون وأستسيغ الموسيقا وأعشق النّشيد، ولطالما كنتُ أسرح في هذه الطبيعة وأتأمّلها وأتذوّق جمالها، وأُضيفَتْ لكلّ هذا موهبة اللغة العربية المتوارثة في العائلة. كلّ هذا أتى بالشّعر إليّ طوعاً وحبّاً، و"اقتحمني حبره" حقّاً فكنتُ أميّز أوزان الخليل سماعيّاً وأنا طفلة، وأحفظ الأناشيد والقصائد ولو لم أعِ معناها. تأثّرت في البداية بالشّعر التقليديّ، ووفقاً لتدرّج الأدب العربيّ قرأتُ الجاهليّ وصدر الإسلام والأمويّ والعباسيّ، وتابعتُ حتّى العصر الحديث. تأثّرت بكلّ هذا موضوعاً وأوزاناً وشكلَ قصيدة، وهنا أقول: إنّ "المتنبّي" ما يزال يمارس تأثيره فيّ أكثر من أيّ شاعرٍ آخر في العربيّة.
من إحدى أمسياتها
** سؤالٌ ذكيّ أضعهُ برسمِ ذائقتي التي تعوّدت وألِفت وأدمنت أغلبَ الشّعر العربيّ الذي يضجّ بالغنائيّة، وشهدَ ولادة قصيدة التّفعيلة وتطوّرها المذهل وذلك قبيل حركة الحداثة لدرجةِ أنّها تجد صعوبةً في الانعتاق منها، ومن الصّعب أن تتلمّس طريقك في التّميّز وصولاً إلى رسم خطوط الخصوصيّة التي تسمكَ أنت لا سواك في خضمّ هذا اليمّ العائمِ من الكتابات التّقليديّة والتّفعيلة والحداثويّة. ولكن يمكن أن أرسم هذه الخصوصيّة من خلال ما أنتجه من نصوصٍ تحمل الغنائيّة، لكنّها في الوقت ذاته متفرّدة لجهة اللغة الثّرّة والصّورة الشّعريّة بالغةِ التّكثيف، وهندسةِ بناء القصيدة الذي أدأب لجعلِه متنوّعاً ومتقناً ومتميّزاً لجهة الفكرة الشّعريّة التي تنتجها التّجربة في الحياة الإنسانية، والتي أحمّلها القصيدة. أمّا عن الغنائيّة التي تكاد تكون تهمة في سؤالك، فأقول: إنّني أكتب القصيدة بروحي ومن روحي ولروحي فتأتي ملامسة لأرواح الآخرين، وهذا من بعض تجليّات الشّعريّة، ثمّ تأتي الغنائيّة لتضفي عليها جمالاً هو الآخر من صفات الشّعر ومهمّاته.
الشاعرة ليندا إبراهيم
** جاءت مشاركتي في المسابقة لتضيف إليّ الكثير، فعلى الصّعيد الشّخصيّ انتقلتُ من المحلّيّ المتواضع شهرةً وكتابةً إلى العربيّ الأعمّ الأكثر تميّزاً، وعلى الصّعيد الشّعريّ وُضِعتْ تجربتي على أوسع نطاق وأعلى مستوى أمام جمهورٍ عريضٍ من القرّاء والنّقاد والشّعراء فأضافت لي مسؤوليةً أكبر في إنتاج النّصّ الشّعريّ المُتميّز الّذي أتحمّل مسؤوليته سلفاً، وساعدتني في عرض تجربتي الشّعريّة والتفكير بإعادة إنتاج النّصّ لجهةِ التّجارب الفريدة والمميّزة التي احتككت بها مع أهمّ التّجارب الشّعريّة الشّابّة على مستوى الوطن العربي، وهنا في ظنّي يمكن التّمييز بين شهرةٍ نوعيّةٍ لجهة أنّ الشّعر والتّجربة الشّعرية المُميّزة تفرض نفسها وتصل إلى جمهورها، وتملك مصداقية واستمراريةً لا تملكها الشّهرة الكمّيّة التي تنتشر هذه الأيّام عبر وسائل كثيرة، أهمّها الكتابة باستسهالٍ ومجانيّةٍ في الأعمّ عبر وسائل النّشر الإلكترونيّ، والاستماتة في الظّهور على المنابر، والاستقتال في "الشّللية"، والتّدافع إلى الشّهرة الإعلاميّة التي يظنّ من يسعون إليها أنّها قد ترسّخ لتجاربهم الشّعريّة مهما كانت متواضعة. وفي تقديري: إنّ الزّمن وحده كفيلٌ بغربلة هذه التّجارب بغضّ النّظر عن تسليط الضّوء عليها أو ترويجها إعلاميّاً، لأنّ التّجربة التي تثبتُ صلاحَها وصلاحيّتها تملك مقوّمات استمرارها إن لم يكن خلودها.
** النقد جنسٌ أدبيّ لاحقٌ للنّصّ الإبداعيّ لأنّه موضع النّص النّقديّ، ولكن لكثرة الأجناس الأدبيّة نجد النقد مقصّراً عن مواكبة الإبداعات كلّها وذلك كلٌّ حسب نوعه لأسباب عديدةٍ، منها: المناخ النّقديّ في كلّ بلدٍ، وقلّة عدد المشتغلين بالّنقد، والتّجارب الإبداعيّة الكثيرة جدّاً قياساً للتّجارب الإبداعيّة النّقديّة التي تطرح نفسها. ولكن في كلّ فترة زمنيّة تُسيطر الرّواية في السّاحة الأدبيّة على حساب الشّعر، أو القصّة القصيرة على حساب الرّواية، أو الشّعر على حساب الرّواية لأسباب جمّة وعميقة. ولكي يستعيد الشّعر جمهوره أطالبه أن يكون أكثرَ نخبويّةً لجهة الشّكل والفنّيّة والمواضيع التي تُلامس روحَ الجماهير والقرّاء ونبضهم، وتحاكي معاناتهم وتقارب همومهم. وحين أقول نخبويّةً أعني التّعبير لجهةِ أنّ الشّعر إن لم يكن نخبويّاً لن يكون راقياً، وبالتّالي قد يبتعد عن الشّعر فاسحاً مجالاً واسعاً للفنون الأخرى. ولكنّ الشّعر مُطالبٌ بأن يعود ويأخذ دوره اللائق كأرقى شكلٍ من أشكال التّعبير عن القيم الإنسانيّة والنّفس البشريّة عند جميع الأمم، فنحن نقول عن لوحةٍ تشكيليّة عالية الفنّيّة: "تكاد تكون شعراً"، ونقول عن لحظة سينمائيّة إبداعيّة: تكاد أن تكتبَ بها شعراً، ونقول عن أكثر المواقف التي تؤثّر في أنفسنا وترتقي بها جماليّاً وروحيّاً: إنّها تنطق شعراً، فالشّعر هو أرقى وأسمى حالات التّعبير عن الفكر والجمال والشّعور الإنسانيّ على الإطلاق. والشّعر من هذه الزاوية مُطالب بأن يعودَ ويأخذ دوره اللائق.
أمّا أين النقد من نصوصي؟ فأقول ربّما كان القارئ قريباً من تجربتي -على الرغم من تواضعها- وكذلك النّاقد إلا أنّه لم يتسنّ لتجربتي أن تُقاربَ نقديّاً بشكلٍ جدّيّ من قبل النّقاد حتّى الآن لأسباب عديدة، وأتمنّى أن تُوضع تجربتي الشّعريّة على بساط النّقد الأكاديميّ الحقيقيّ حال نضوجها أكثر، لأنّني أعتبر هذا حالةً صحّيّة جدّاً في التّجارب الإبداعيّة.
** في سؤالكَ هذا ذكوريّة مطلقة وطافحة "احتلال مواقع الرّجل في اللغة والحياة"، وأقول رداً على سؤالكَ: إنّ الذات الشّاعرة هي من تنتج الشّعر سواء صدرتْ عن رجلٍ أو امرأة، وككلّ شيء في الحياة وفي ظلّ مجتمعٍ ذكوريّ خالص فإنّنا نتجاهل حقيقةً راسخةً ثابتة هي أنّ الشّعر أرفع ما تنتجه نفس الإنسان، ولا تفريق بين شعرٍ ذكوريّ وشعرٍ أنثويّ إلا بما اختلقه أصحاب هذا القول قاصدين به ربّما أنّ هذا الشعر تكتبه امرأة، وهذا يكتبه رجلٌ، وبالتالي هذا أدبٌ نسائيّ، وذاك أدبٌ ذكوريّ، وننسى حقيقةَ أنّ رجالاً شعراء كتبوا بلسان حال المرأة وتقمّصوا دورها، وكذلك فعلتِ النّساء وهذا ليس مستحيلاً. ولكن أليست اللغة واحدة والنّفس البشريّة الشّاعرة هي من تصوغها؟ فكيف نقول عن مفردةٍ أو تركيبٍ هو تركيبٌ نسائيّ وآخر ذكوريّ؟! الأمر الذي يحيلنا إلى أنّ التّصنيف غير منصفٍ وغير دقيق؛ فعندما نسمع شعراً نقول: هذا شعرٌ، وهذا ليس شعراً بغضّ النّظر عن جنس كاتب النّصّ، وأنا عندما أُنتِج نصّاً ويُقرَأ بعيداً عن اسمي وجنسي ويُقال: إنّه شعرٌ، فهو إثباتٌ لخصوصيّتي الأنثويّة الشّعرية، فالمقولة النّقدية التي أوردتَها تتجاهل الشّعرَ كنتاجٍ إبداعيّ إنسانيّ، وتنزله منزلة التّصنيف فتضعفه.
** اللغة بلا فكرٍ هي سفسطة وكلامٌ لا يَحمِل سوى صفّ الكلام ورصفه، والفكر بلا لغةٍ كيف يعبّر عن نفسه؟ ولذلك أعتبر اللغةَ بحكم النّشأة سابقة على الفكر، ولكنّها من دونه ليس لها مغزى، فما بالك إذا أتينا لنكتب شعراً لا فكر فيه؟ فمن مقوّمات الشّعر الفكرة، الشّعر الحامل للفكرة وجمالية صوغها وفنّيّة بنائها، وذكاءِ وجمال اللّغة التي تصبّ فيها، ثمّ تأتي روح الشّاعر لتكسبها الرّوح الشّعريّة والجوانح التي تحلّق بالقارئ. أما الحداثة فأنظر إليها أنّها بمعزلٍ عن الشّكل الفنّيّ للنّصّ الإبداعيّ، فأنا أراها في الفكرة المُدهشة، وفي الشّيء الجديد الذي ينتجه النّصّ خارج سياق العادة والتّداول بدءاً من الفكرة الشّعريّة والتّركيب اللّغوي والصّورة وحتّى بناء النّص شرطَ أن تحملَ الفنّ والذّوق العالي حتّى الإدهاش. هنا في رأيي تكمن الحداثة، أن تأتيَ بشيءٍ جديدٍ لم يأته أحدٌ قبلك أو غيرك. والحداثة أمرٌ بديهيٌ في تطوّر أيّ شيء فما بالك بالشّعر!! وهذا ما أعمل عليه جاهدةً في تجربتي المتواضعة حتى الآن.
الشّاعر"صالح سلمان" تحدّث عن بداياتها وتجربتها بالقول: «حين جاءت إليّ لأوّل مرّة تعرضُ عليّ قصائدها، وجدتُ لديها موهبةً شعريّة واضحة، وقصائد جيّدة من حيث اللغة والسّبك والخيال. وبعدها اقترحت عليها قراءة بعض الكتب الشّعريّة والنقديّة، وقد فعلَتْ، وأعتقد أنّها زادت عليه الكثير، هذا الأمر إضافةً إلى إمكاناتها الشّعريّة وموهبتها المتميّزة، ومشاركاتها المستمرّة في لقاءات التّوأمة الثقافيّة بين أدباء "منطقة الشّيخ بدر" ومحافظتي "السّويداء وإدلب"، إضافةً إلى طموحها الشّعريّ، وجهدها المتواصل، كلّ ذلك ساهم في تميّزها المستمرّ، وتطوّر إبداعاتها بشكلٍ جليّ، إلى أن وصلت إلى ما وصلت إليه من حضورٍ إبداعيّ على مستوى واسع. وإنّني أرى أنّ تطوّرها الشّعريّ مستمرّ وبفنّيةٍ عالية، ممّا سيزيد من تفوّقها الدّائم».
الشّاعر "حسن بعيتي" الحائز على جائزة "أمير الشّعراء" قال: «لا شكّ أنّها استطاعت أن تكرّس اسمها كواحدة من أهمّ الشّاعرات السّوريّات، وقد عرفتْ كيف تتجاوز نفسها، فشهدت تجربتها تطوّراً ملحوظاً في العامين الأخيرين ولا سيّما مع دخولها السّباق في "أمير الشعراء"، فقدّمت أثناء المسابقة وبعدها العديدَ من النّصوص العالية الفنيّة سواء في شعر التفعيلة أو الشّعر العموديّ، وفي بعض التّجارب النثريّة، وهي تمتلكُ لغةً لا تخلو منْ خصوصيّةٍ في تكثيفها وعلوّ الإحساس فيها، وننتظر منها الكثير».
قصيدة "خالقة" من ديوانها "لدمشق هذا الياسمين":
"في أوّل الوقتِ الجميلْ
منذُ اجترحتكَ من حنيني، من نشيجِ الطّينِ، من قلقي، اشتهائي.. ثمّ أعلنتُ الزمّانْ..
أسبغتُ من نِعمِي وآلائي عليكَ صفاتيَ الأبهى، وأجريتُ الجمالَ على يديكَ، وقلتُ للأزهارِ كوني عرشَه القدسيَّ، للغدرانِ صيري من رحيقٍ خالصِ التّأنيثِ، من عسلٍ شهيٍّ عتّقتهُ لوجهكَ الحنّانِ ربّاتُ الدّنانْ..
ولممتُ أطرافَ الغمامِ نسجتُ منهُ رداءكَ الملكيّ، وشّيتُ المطارفَ بالحكايا، صغتُ من صدفِ البحار ولازوردِ الموجِ إكليلاً، صنعتُ الصّولجانْ..
وجمعتُ آهاتِ القرنفلِ، كلّ أوجاعِ الجوى، وجعلتها شجناً لروحكَ، فاستويتَ -كما أشا- خلقاً بهيّاً كامل التّكوينِ، ثمّ لبثتُ في ملكوتيَ الأعلى أمجّدُ ما خلقتُ، وقلتُ يا روحُ استريحي من عناء الخلقِ..
ثمّ منحتكَ الاسمَ الجليلْ".
يُذكر أنّ الشّاعرة "ليندا إبراهيم" من مواليد "دمشق"، وتقيم حاليّاً في "طرطوس". وصدر لها ديوانان:
- رضوان أبوغبرة
طرطوس
هي شاعرة متميّزة حقّقت حضوراً محليّاً وعربيّاً، تأخذها فيما تكتبُ غنائيّةٌ تتقاطعُ في إيقاعها الحيّ جذورُ الماضي وشرفاتُ المُستقبل، هي الشاعرة "ليندا إبراهيم".
مدوّنة وطن "eSyria" التقت الشّاعرة ليندا ابراهيم للحديث عن تجربتها الشّعريّة، وكان معها هذا الحوار:
لا شكّ أنّها استطاعت أن تكرّس اسمها كواحدة من أهمّ الشّاعرات السّوريّات، وقد عرفتْ كيف تتجاوز نفسها، فشهدت تجربتها تطوّراً ملحوظاً في العامين الأخيرين ولا سيّما مع دخولها السّباق في "أمير الشعراء"، فقدّمت أثناء المسابقة وبعدها العديدَ من النّصوص العالية الفنيّة سواء في شعر التفعيلة أو الشّعر العموديّ، وفي بعض التّجارب النثريّة، وهي تمتلكُ لغةً لا تخلو منْ خصوصيّةٍ في تكثيفها وعلوّ الإحساس فيها، وننتظر منها الكثير
- لماذا الشّعر، وكيفَ اقتحمكِ حبرُه؟ بمن تأثّرت؟ ومن لا يزال يواصل تأثيره في لغتكِ الشّعريّة؟
ديوانها "لدمشق هذا الياسمين"
** لماذا الشّعر! سؤالٌ طالما طرحته على نفسي، ولم أجد سوى جوابٍ واحدٍ هو أنّي وعيتُ حالمةً في طبيعة جميلة، وفي أسرةٍ مثقّفة تحبّ الأدب والشّعر تحديداً ويحفظه ويتذوّقه أفرادها دون استثناء. أسمع الشّعر الموزون وأستسيغ الموسيقا وأعشق النّشيد، ولطالما كنتُ أسرح في هذه الطبيعة وأتأمّلها وأتذوّق جمالها، وأُضيفَتْ لكلّ هذا موهبة اللغة العربية المتوارثة في العائلة. كلّ هذا أتى بالشّعر إليّ طوعاً وحبّاً، و"اقتحمني حبره" حقّاً فكنتُ أميّز أوزان الخليل سماعيّاً وأنا طفلة، وأحفظ الأناشيد والقصائد ولو لم أعِ معناها. تأثّرت في البداية بالشّعر التقليديّ، ووفقاً لتدرّج الأدب العربيّ قرأتُ الجاهليّ وصدر الإسلام والأمويّ والعباسيّ، وتابعتُ حتّى العصر الحديث. تأثّرت بكلّ هذا موضوعاً وأوزاناً وشكلَ قصيدة، وهنا أقول: إنّ "المتنبّي" ما يزال يمارس تأثيره فيّ أكثر من أيّ شاعرٍ آخر في العربيّة.
- في كتاباتك غنائيّة تحاكي غنائيّةِ الشّعر العموديّ وقصيدة التّفعيلة، كيف يمكنُ لشاعرة أن ترسم خصوصيّتها الشّعريّة بغنائيّةٍ سابقة؟
من إحدى أمسياتها
** سؤالٌ ذكيّ أضعهُ برسمِ ذائقتي التي تعوّدت وألِفت وأدمنت أغلبَ الشّعر العربيّ الذي يضجّ بالغنائيّة، وشهدَ ولادة قصيدة التّفعيلة وتطوّرها المذهل وذلك قبيل حركة الحداثة لدرجةِ أنّها تجد صعوبةً في الانعتاق منها، ومن الصّعب أن تتلمّس طريقك في التّميّز وصولاً إلى رسم خطوط الخصوصيّة التي تسمكَ أنت لا سواك في خضمّ هذا اليمّ العائمِ من الكتابات التّقليديّة والتّفعيلة والحداثويّة. ولكن يمكن أن أرسم هذه الخصوصيّة من خلال ما أنتجه من نصوصٍ تحمل الغنائيّة، لكنّها في الوقت ذاته متفرّدة لجهة اللغة الثّرّة والصّورة الشّعريّة بالغةِ التّكثيف، وهندسةِ بناء القصيدة الذي أدأب لجعلِه متنوّعاً ومتقناً ومتميّزاً لجهة الفكرة الشّعريّة التي تنتجها التّجربة في الحياة الإنسانية، والتي أحمّلها القصيدة. أمّا عن الغنائيّة التي تكاد تكون تهمة في سؤالك، فأقول: إنّني أكتب القصيدة بروحي ومن روحي ولروحي فتأتي ملامسة لأرواح الآخرين، وهذا من بعض تجليّات الشّعريّة، ثمّ تأتي الغنائيّة لتضفي عليها جمالاً هو الآخر من صفات الشّعر ومهمّاته.
- شاركتِ في مسابقة "أمير الشّعراء"، ماذا أضافت لكِ؟ وكيف يمكن التّمييز بين شهرةٍ نوعيّةٍ، وشهرةٍ كمّيّة برأيك؟
الشاعرة ليندا إبراهيم
** جاءت مشاركتي في المسابقة لتضيف إليّ الكثير، فعلى الصّعيد الشّخصيّ انتقلتُ من المحلّيّ المتواضع شهرةً وكتابةً إلى العربيّ الأعمّ الأكثر تميّزاً، وعلى الصّعيد الشّعريّ وُضِعتْ تجربتي على أوسع نطاق وأعلى مستوى أمام جمهورٍ عريضٍ من القرّاء والنّقاد والشّعراء فأضافت لي مسؤوليةً أكبر في إنتاج النّصّ الشّعريّ المُتميّز الّذي أتحمّل مسؤوليته سلفاً، وساعدتني في عرض تجربتي الشّعريّة والتفكير بإعادة إنتاج النّصّ لجهةِ التّجارب الفريدة والمميّزة التي احتككت بها مع أهمّ التّجارب الشّعريّة الشّابّة على مستوى الوطن العربي، وهنا في ظنّي يمكن التّمييز بين شهرةٍ نوعيّةٍ لجهة أنّ الشّعر والتّجربة الشّعرية المُميّزة تفرض نفسها وتصل إلى جمهورها، وتملك مصداقية واستمراريةً لا تملكها الشّهرة الكمّيّة التي تنتشر هذه الأيّام عبر وسائل كثيرة، أهمّها الكتابة باستسهالٍ ومجانيّةٍ في الأعمّ عبر وسائل النّشر الإلكترونيّ، والاستماتة في الظّهور على المنابر، والاستقتال في "الشّللية"، والتّدافع إلى الشّهرة الإعلاميّة التي يظنّ من يسعون إليها أنّها قد ترسّخ لتجاربهم الشّعريّة مهما كانت متواضعة. وفي تقديري: إنّ الزّمن وحده كفيلٌ بغربلة هذه التّجارب بغضّ النّظر عن تسليط الضّوء عليها أو ترويجها إعلاميّاً، لأنّ التّجربة التي تثبتُ صلاحَها وصلاحيّتها تملك مقوّمات استمرارها إن لم يكن خلودها.
- نقديّاً لا ينقص الشّعر سوى القرّاء الذين انحسروا لمصلحة الرّواية والفنّ التشكيلي، كيف يمكن للشّعر أن يستعيد جمهوره؟ وأين النّقد والقارئ من نصوصك؟
** النقد جنسٌ أدبيّ لاحقٌ للنّصّ الإبداعيّ لأنّه موضع النّص النّقديّ، ولكن لكثرة الأجناس الأدبيّة نجد النقد مقصّراً عن مواكبة الإبداعات كلّها وذلك كلٌّ حسب نوعه لأسباب عديدةٍ، منها: المناخ النّقديّ في كلّ بلدٍ، وقلّة عدد المشتغلين بالّنقد، والتّجارب الإبداعيّة الكثيرة جدّاً قياساً للتّجارب الإبداعيّة النّقديّة التي تطرح نفسها. ولكن في كلّ فترة زمنيّة تُسيطر الرّواية في السّاحة الأدبيّة على حساب الشّعر، أو القصّة القصيرة على حساب الرّواية، أو الشّعر على حساب الرّواية لأسباب جمّة وعميقة. ولكي يستعيد الشّعر جمهوره أطالبه أن يكون أكثرَ نخبويّةً لجهة الشّكل والفنّيّة والمواضيع التي تُلامس روحَ الجماهير والقرّاء ونبضهم، وتحاكي معاناتهم وتقارب همومهم. وحين أقول نخبويّةً أعني التّعبير لجهةِ أنّ الشّعر إن لم يكن نخبويّاً لن يكون راقياً، وبالتّالي قد يبتعد عن الشّعر فاسحاً مجالاً واسعاً للفنون الأخرى. ولكنّ الشّعر مُطالبٌ بأن يعود ويأخذ دوره اللائق كأرقى شكلٍ من أشكال التّعبير عن القيم الإنسانيّة والنّفس البشريّة عند جميع الأمم، فنحن نقول عن لوحةٍ تشكيليّة عالية الفنّيّة: "تكاد تكون شعراً"، ونقول عن لحظة سينمائيّة إبداعيّة: تكاد أن تكتبَ بها شعراً، ونقول عن أكثر المواقف التي تؤثّر في أنفسنا وترتقي بها جماليّاً وروحيّاً: إنّها تنطق شعراً، فالشّعر هو أرقى وأسمى حالات التّعبير عن الفكر والجمال والشّعور الإنسانيّ على الإطلاق. والشّعر من هذه الزاوية مُطالب بأن يعودَ ويأخذ دوره اللائق.
أمّا أين النقد من نصوصي؟ فأقول ربّما كان القارئ قريباً من تجربتي -على الرغم من تواضعها- وكذلك النّاقد إلا أنّه لم يتسنّ لتجربتي أن تُقاربَ نقديّاً بشكلٍ جدّيّ من قبل النّقاد حتّى الآن لأسباب عديدة، وأتمنّى أن تُوضع تجربتي الشّعريّة على بساط النّقد الأكاديميّ الحقيقيّ حال نضوجها أكثر، لأنّني أعتبر هذا حالةً صحّيّة جدّاً في التّجارب الإبداعيّة.
- غالباً ما تسعى الأنثى الكاتبة إلى احتلال مواقع الرّجل في اللغة والحياة، كيف لنا أن نفهم خصوصيّتك الأنثويّة؟ وهل أنتِ مع التصنيف النقديّ: أدب ذكوريّ، وأدب أنثويّ؟
** في سؤالكَ هذا ذكوريّة مطلقة وطافحة "احتلال مواقع الرّجل في اللغة والحياة"، وأقول رداً على سؤالكَ: إنّ الذات الشّاعرة هي من تنتج الشّعر سواء صدرتْ عن رجلٍ أو امرأة، وككلّ شيء في الحياة وفي ظلّ مجتمعٍ ذكوريّ خالص فإنّنا نتجاهل حقيقةً راسخةً ثابتة هي أنّ الشّعر أرفع ما تنتجه نفس الإنسان، ولا تفريق بين شعرٍ ذكوريّ وشعرٍ أنثويّ إلا بما اختلقه أصحاب هذا القول قاصدين به ربّما أنّ هذا الشعر تكتبه امرأة، وهذا يكتبه رجلٌ، وبالتالي هذا أدبٌ نسائيّ، وذاك أدبٌ ذكوريّ، وننسى حقيقةَ أنّ رجالاً شعراء كتبوا بلسان حال المرأة وتقمّصوا دورها، وكذلك فعلتِ النّساء وهذا ليس مستحيلاً. ولكن أليست اللغة واحدة والنّفس البشريّة الشّاعرة هي من تصوغها؟ فكيف نقول عن مفردةٍ أو تركيبٍ هو تركيبٌ نسائيّ وآخر ذكوريّ؟! الأمر الذي يحيلنا إلى أنّ التّصنيف غير منصفٍ وغير دقيق؛ فعندما نسمع شعراً نقول: هذا شعرٌ، وهذا ليس شعراً بغضّ النّظر عن جنس كاتب النّصّ، وأنا عندما أُنتِج نصّاً ويُقرَأ بعيداً عن اسمي وجنسي ويُقال: إنّه شعرٌ، فهو إثباتٌ لخصوصيّتي الأنثويّة الشّعرية، فالمقولة النّقدية التي أوردتَها تتجاهل الشّعرَ كنتاجٍ إبداعيّ إنسانيّ، وتنزله منزلة التّصنيف فتضعفه.
- الشعر ليس انفعالاً، وإنما هو فكرٌ انفعاليّ. كيف تنظرين إلى ثنائية الفكر واللغة؟ وأين أنت من الحداثة وهمومها؟
** اللغة بلا فكرٍ هي سفسطة وكلامٌ لا يَحمِل سوى صفّ الكلام ورصفه، والفكر بلا لغةٍ كيف يعبّر عن نفسه؟ ولذلك أعتبر اللغةَ بحكم النّشأة سابقة على الفكر، ولكنّها من دونه ليس لها مغزى، فما بالك إذا أتينا لنكتب شعراً لا فكر فيه؟ فمن مقوّمات الشّعر الفكرة، الشّعر الحامل للفكرة وجمالية صوغها وفنّيّة بنائها، وذكاءِ وجمال اللّغة التي تصبّ فيها، ثمّ تأتي روح الشّاعر لتكسبها الرّوح الشّعريّة والجوانح التي تحلّق بالقارئ. أما الحداثة فأنظر إليها أنّها بمعزلٍ عن الشّكل الفنّيّ للنّصّ الإبداعيّ، فأنا أراها في الفكرة المُدهشة، وفي الشّيء الجديد الذي ينتجه النّصّ خارج سياق العادة والتّداول بدءاً من الفكرة الشّعريّة والتّركيب اللّغوي والصّورة وحتّى بناء النّص شرطَ أن تحملَ الفنّ والذّوق العالي حتّى الإدهاش. هنا في رأيي تكمن الحداثة، أن تأتيَ بشيءٍ جديدٍ لم يأته أحدٌ قبلك أو غيرك. والحداثة أمرٌ بديهيٌ في تطوّر أيّ شيء فما بالك بالشّعر!! وهذا ما أعمل عليه جاهدةً في تجربتي المتواضعة حتى الآن.
الشّاعر"صالح سلمان" تحدّث عن بداياتها وتجربتها بالقول: «حين جاءت إليّ لأوّل مرّة تعرضُ عليّ قصائدها، وجدتُ لديها موهبةً شعريّة واضحة، وقصائد جيّدة من حيث اللغة والسّبك والخيال. وبعدها اقترحت عليها قراءة بعض الكتب الشّعريّة والنقديّة، وقد فعلَتْ، وأعتقد أنّها زادت عليه الكثير، هذا الأمر إضافةً إلى إمكاناتها الشّعريّة وموهبتها المتميّزة، ومشاركاتها المستمرّة في لقاءات التّوأمة الثقافيّة بين أدباء "منطقة الشّيخ بدر" ومحافظتي "السّويداء وإدلب"، إضافةً إلى طموحها الشّعريّ، وجهدها المتواصل، كلّ ذلك ساهم في تميّزها المستمرّ، وتطوّر إبداعاتها بشكلٍ جليّ، إلى أن وصلت إلى ما وصلت إليه من حضورٍ إبداعيّ على مستوى واسع. وإنّني أرى أنّ تطوّرها الشّعريّ مستمرّ وبفنّيةٍ عالية، ممّا سيزيد من تفوّقها الدّائم».
الشّاعر "حسن بعيتي" الحائز على جائزة "أمير الشّعراء" قال: «لا شكّ أنّها استطاعت أن تكرّس اسمها كواحدة من أهمّ الشّاعرات السّوريّات، وقد عرفتْ كيف تتجاوز نفسها، فشهدت تجربتها تطوّراً ملحوظاً في العامين الأخيرين ولا سيّما مع دخولها السّباق في "أمير الشعراء"، فقدّمت أثناء المسابقة وبعدها العديدَ من النّصوص العالية الفنيّة سواء في شعر التفعيلة أو الشّعر العموديّ، وفي بعض التّجارب النثريّة، وهي تمتلكُ لغةً لا تخلو منْ خصوصيّةٍ في تكثيفها وعلوّ الإحساس فيها، وننتظر منها الكثير».
قصيدة "خالقة" من ديوانها "لدمشق هذا الياسمين":
"في أوّل الوقتِ الجميلْ
منذُ اجترحتكَ من حنيني، من نشيجِ الطّينِ، من قلقي، اشتهائي.. ثمّ أعلنتُ الزمّانْ..
أسبغتُ من نِعمِي وآلائي عليكَ صفاتيَ الأبهى، وأجريتُ الجمالَ على يديكَ، وقلتُ للأزهارِ كوني عرشَه القدسيَّ، للغدرانِ صيري من رحيقٍ خالصِ التّأنيثِ، من عسلٍ شهيٍّ عتّقتهُ لوجهكَ الحنّانِ ربّاتُ الدّنانْ..
ولممتُ أطرافَ الغمامِ نسجتُ منهُ رداءكَ الملكيّ، وشّيتُ المطارفَ بالحكايا، صغتُ من صدفِ البحار ولازوردِ الموجِ إكليلاً، صنعتُ الصّولجانْ..
وجمعتُ آهاتِ القرنفلِ، كلّ أوجاعِ الجوى، وجعلتها شجناً لروحكَ، فاستويتَ -كما أشا- خلقاً بهيّاً كامل التّكوينِ، ثمّ لبثتُ في ملكوتيَ الأعلى أمجّدُ ما خلقتُ، وقلتُ يا روحُ استريحي من عناء الخلقِ..
ثمّ منحتكَ الاسمَ الجليلْ".
يُذكر أنّ الشّاعرة "ليندا إبراهيم" من مواليد "دمشق"، وتقيم حاليّاً في "طرطوس". وصدر لها ديوانان:
- "فصول الحبّ والوحشة"، 2013.
- "لدمشق هذا الياسمين"، 2013.