تدفقات السوري موسى الحمد تعيدنا إلى الفرات وزمن النقاء

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة

  • تدفقات السوري موسى الحمد تعيدنا إلى الفرات وزمن النقاء

    تدفقات السوري موسى الحمد تعيدنا إلى الفرات وزمن النقاء


    أعمال واقعية تنشد الامتزاج بالنهر والطبيعة في الرقة.


    ألوان مستوحاة من الفرات والطبيعة في الرقة

    هو الساكن في الفرات أم الفرات من يسكنه، لا أحد يعلم، فأعمال الفنان السوري موسى الحمد لا تبتعد عن نهر الفرات إلا لتعود إليه وتبحث في جمال الرقة الشامخة على ضفافه، ويرصد آثار النهر فيها وفي أهاليها، والتحولات السريعة التي تصيبهم دون أن تمحو منهم أهم محاسنهم.

    أن تكون رقاويا أو رقيا (نسبة إلى الرقة)، أن تكون ابن الفرات، وقد رضعت من مائه، يعني أنك تتفق مع طير حر في واقع الأمر، فأنت أيضاً مثله لا تُقَيَٓد بقفص ولا حدود لك، وإذا كان لا بد فحدودك السماء، يعني أنك تعيش شعورا عاليا بالرغبة في فعل شيء، ترفض أن تغدو من غير معنى، هناك دائماً لديك أشياء أفضل من أشياء أخرى، لديك حب الطبيعة والحياة، حب الإنسان والتفاصيل البسيطة لنثرياته بين غبار الرعاة وهم يسوقون حلالهم إلى المراعي لتنتشل ما تيسر لها من نعم الرب، وبين ضفاف الفرات وقصباته، هذا النهر الكبير كقلوب أبنائه، دون أي محاولة منك لالتماس الأعذار.

    أنت لا يمكن أن تكون هامشيا، تتصرف بعفوية تحمل ثقة هذا النهر بخريره وجريانه، لا تغريك المظاهر ولا المعرفة السطحية فجذورك ممتدة في الزمن، يعني أنك كالفرات أيام كان ينحت في البوادي كي يبقى دائم الجريان، يمنح الروح للأرض حتى تبدو أكثر كروية، أكثر جمالاً.

    أسوق هذا الكلام عن الرقة وطبعها، وأنا بصدد قراءة أعمال أحد فنانيها، فهي غزيرة بالفنانين كفراتها، أسوق هذا الكلام وأنا بصدد قراءة تجربة موسى الحمد (الرقة 1966)، الفنان العصامي الذي اعتمد على نفسه في شق طريقة في هذا العالم الشائك والجميل في الآن ذاته.



    إنه محكوم مسبقاً بالعفوية التي تمنحه الثقة والقوة معا، وتجعل لاختياراته قيمة، فلا يتردد في تحمل مسؤولياته نحوها، حتى لا تقع عليه اللائمة فيما بعد، ومهما يكن من اختياراته فهو جزء من هذه الحياة، وشاهد عليها، حلت عليه هذه الرغبة كي يتلقف الكلام والصور والاستعارات كي يكشفها تماما، ويتجلى ذلك في تفرسه الذي قد لا يفي حاجاته الجمالية التي ينشدها فيهفو إلى الاحتماء بما يمكن أن يساعده في استعادة كل التدفقات الراغبة بالخروج.

    موسى الحمد يعيدنا إلى زمن النقاء، نقاء الفنان والإنسان والطبيعة والأشياء، إلى زمن البساطة والصدق والصراحة والحب. فهو ينتج أعماله وكأنه لا يريد أن يستيقظ من ذلك الزمن الذي بات حلماً نجهد كثيراً في استعادته، إن كان من الذاكرة البعيدة فندغدغ به مشاعرنا المتبقية إن كانت ما زالت تنبض بشيء منها أم لا، أو بوقوفنا على الشفا الخطير، حيث بات كل شيء فينا وحولنا في خطر، فنسرع إلى استحضاره بصريا نجمل به فضاءاتنا البيضاء.

    ما يفعله موسى الحمد يصب في هذا الاتجاه، فهو يرتاد الذاكرة تلك ويقتفي أثرها علّه يلتقطها من جذورها لتثمر جيدا، فيسحب حبالها وكل ما يوهمه بأنها حاجاته ومستلزماته، ولا يعدل عن ذلك مهما تردى الاحتجاج بل يستنهض مشاهده من عقالها حتى يحقق الإيضاح الذي يبتغيه، والإبانة التي ينشدها، فتنكشف للقراءة المعمقة، وتدور مشاهده حول نفسها بعيدة عن التلميحات والاستعارات والدلالات، فكل ضلوعها تسبح بين سكاكينه وفراشيه علها تتقدم وتتوالد، ويتم توظيفها ومسايرتها حتى تتخذ لنفسها معبرا جماليا ويسترد جماليتها به.

    والفنان لا يريد أن يوهم الواقع ولا أن يوهمنا بهذا الواقع، ولهذا يلجأ إلى ما يمكن أن نسميه بـ”النثر اللوني” القائم على التصوير دون أي تعليل أو استدراك، وفي ذلك تتكون جملته الفنية وبالتالي نصه الجمالي / مشهده البصري، مصرحا بمراده على نحو غير قسري، بل بكل ما يمثله في حد ذاته.

    هذه المجاهرة تسوق غيوم الفنان السوري لتسقط بحملها على شكل زخّات أمطار على عوالمه التي لا يريد الخروج منها، ويحمي طقوسه بموجب الواقع الذي يضعه في حضرة مواقفه وقناعاته وعرضها بما يلبي حاجاته وحده، وبالتوازي مع ما تذرفه المروج من دموع على ضفاف باتت المناحة تملأ قلبها، وليست قادرة أن تشرب قطرة من ماء ذاتها، فلم تعد الحياة على قيدها.


    انتباه إلى تفاصيل الحياة في الرقة


    يقترن نص موسى الحمد بالزمان وبالمكان، فإذا كان الزمان يهرم الحياة عادة، فهي عنده اقترانها بدمه الحقيقي الذي لا يتخلى عنه، ولا يحتاج إلى النقل من دم آخر، من خارج جسده، ربما أتلف بذلك ذلك الجسد، ولهذا فهو حريص على بقاء أشد عناصره نقاء، وهذا هو سبيله إلى التطهر من الأدران جميعها، وهو الذي قد يبعد عنه التفسخ والانحلال أينما وجدا.

    من هنا تبدأ الحياة عند الحمد ولا تتلاشى، وهي ليست مغامرة، بل اقتناص جمالي يلبس تفاصيل لحظاته المتشابكة منها والمنفلتة، حتى يعلن عن نفسه متلبسا بالألوان في مواضع محددة، في مواضع تتشابك فيها حركاته وصوره وكأنها تسري بتفاصيلها في نصه الذي يديره بالشكل الذي يريد، وبالشكل الذي يرى دون مخاطرة وإن كانت دروب الحياة كلها باتت دروباً لها، أقصد للمخاطرة.

    هذا الفنان لا عدول له عن المكان الذي له سلطانه عليه، المكان الذي يشكل حركيّة نصه ومشروعيته، إن كان بالافتتان بالعتبات وسر جاذبيتها، أو بالجوهر وصميمه، والتعاقب بينهما بتراتبية معهودة قد تجعل المدركات التي تأتي لتبني كل معنى لها حتى تتراءى له وكأنها ترتقي إلى ذراها، فهو يلملم الشظايا التي بعثرها الزمان في المكان وكأنها ومضات تقارب الواقع وتجسده بالشكل الذي يريد ويرى. وهو يكاد يجبر نصه على التشكل عنوة إن لم يرد الحشود عنه، ويقف عند حدود وصفه، فبعض وجوه الإيقاع فيه قديمة ومتعارف عليها، ومن أبناء الفرات لم يقبض على المرئي منها وكذلك المحجب.
    الفنان ينجز أعماله وكأنه لا يريد أن يستيقظ من زمن النقاء الذي بات حلماً نجهد كثيراً في استعادته

    ولا بد من الإشارة إلى أن هذه القراءة ستمضي بنا في اتجاهين اثنين، ستكون في البداية كما رأينا نوعاً من الترحال في نص موسى الحمد والإصغاء إليه إلى أن يمتثل لنا بكل محسناته وآهاته حتى يشرع في رصف اتفاق بينهما لينتشل ما يهدد تقدمه. أما في المرحلة الثانية أو في الاتجاه الثاني فلا بد من الاعتناء بكيفية امتثال النص لمقولة تخص حضوره في المجتمع ومدى استجابته لمتطلبات لحظته المندفعة والتي لا تهدأ، فيفتح مجراه قريبا من الناس حتى يتكئ كل منهما على الآخر ويخرجا معا من المأزق، ويبقى الفنان بنصه في مواجهة لحظة تشابكهما وتقاطعاتهما مهما كان النص ممتلئا بحنين الماضي ودموعه.

    إن الناظر إلى تجربة موسى الحمد بتصوراتها ومقدماتها، بمشاهدها وموضوعاتها، سرعان ما يدرك أنها تجربة ابنة لحظتها التاريخية، ومن خلالها ستتراءى له لحظات أخرى تشده إلى ماض بعيد وقريب، وتجعلها أصداء لذلك الماضي، وبمعنى آخر وأكثر وضوحاً فإنها، أقصد تجربته، تمثل لحظة من لحظات عودة رؤيته البيانية ومداخلتها للرؤية التي تدير العملية الإبداعية وتنظمها، فهي لا تتملص من ماضيها كما أنها تعلن عن نفسها بأنها ابنة الفرات القديم وضفافه، كما هي ابنته الآن لكن بصياغاتها التي تحمل في تلوينها نفحة الماضي وعبقه.

    لهذا كانت كل من الواقعية والانطباعية أقرب إلى حس موسى الحمد الشعبي الذي ينشد الامتزاج بالفرات، وبملاحقة سريعة لتلك التجربة سنجد أنها قالت الكثير عن نهر الفرات وعن الطبيعة في الرقة، وعن عادات وتقاليد وتراث الرقة. وتكفي الزائر جولة قصيرة بين أعماله حتى يتنشق حضارة مدينته، وأنها توثق الكثير من لحظاتها التي ذهبت ولن تعود، بقيت في الذاكرة يستحضرها الفنانون فقط في أعمالهم كما فعلها موسى الحمد، الفنان الذي تخرج من مركز الفنون التشكيلية بالرقة عام 1988، وقدم أكثر من خمسة وثلاثين معرضا فنيا فرديا وجماعيا.
    PreviousNext


    غريب ملا زلال
    كاتب سوري
يعمل...
X