"أبو صابر"... سطوة التاريخ على العمل الروائي
- ولاء عربي
السويداء
الروايات لا تتحدث بمجملها عن حوادث متخيلة في ذهن الروائي، إذ يتحدث معظمها عن قصص أناس حقيقيين عاشوا حياتهم ووهبوها لقضايا الوطن والوجود، "لسلامة عبيد" رواية يتيمة عنوانها (أبو صابر الثائر المنسي مرتين) كتبت وفاء لشخصية حقيقية معروفة، شخصية الثائر "حمد ذياب".
وقد تحدث الدكتور "ثائر زين الدين" مدير الثقافة في "السويداء" عن رواية "أبو صابر" للراحل "سلامة عبيد" قائلاً: «لقد أراد "سلامة" لروايته هذه أن تكون وثيقة صادقة، فقد دلت مقدمة الرواية على تقييد حرفي بسيرة حياة "حمد ذياب" حين كتب "سلامة": "لو كنت قاصاً لأبدعت له نهاية غير تلك النهاية، ولكنني كتبت ما سمعت وما رأيت"، كتبت رواية "أبو صابر" في مطلع الستينيات، وفازت في بداية عام 1966م بالجائزة الثانية في مسابقة الرواية التي أقامها المجلس الأعلى لرعاية الفنون والآداب والعلوم الاجتماعية، لكن طباعتها تأخرت حتى عام 1971م، وقد أكد الناقد الدكتور "سمر روحي الفيصل" أنها كانت تستحق الجائزة الأولى.
لابد من النظر إلى رواية "أبو صابر" ضمن سياقها التاريخي، وضمن ظهور الرواية في "السويداء" وفي سورية بشكل عام، ومن الإنصاف والموضوعية أن ننظر لها على أنها بنت زمانها وظروفها، فلا نحاكمها بالمعايير الفنية الثابتة أو المتعارف عليها في الفن الروائي، ولاسيما أنها صياغة أدبية روائية لحادثة واقعية، كان على الكاتب ألا يغفل تفصيلاً من تفاصيلها، أو جزئية من جزئياتها لأن همه كان منصباً على التوثيق والتأريخ، أكثر من انصبابه على فنية العمل الروائي وقد أشار في المقدمة إلى أنه لو كان يمتلك موهبة قصصية، لاختار نهاية غير تلك النهاية التي أثبتها في روايته والتي تتفق تمام الاتفاق مع الحادثة الحقيقية
إن رواية "أبو صابر" رواية تاريخية، اعتمدت السيرة شكلاً لها فروت سيرة حياة "حمد ذياب"، إن جمال هذا العمل يعود إلى نصيبه الكبير من المادة الإنسانية التي سمت به، وإلى أسلوبه الرشيق الأنيق الرصين، والأسلوب أحد أركان الشكل الروائي، وهو الوسيلة التي يقوم الروائي من خلالها بربط جسد الكلام بالأحداث، وهو الذي يحدد سبب اختياره هذه المفردة أو تلك، وهذه الجملة عوضاً عن تلك.
الكاتب والباحث "محمد طربيه"
ولعل نصيباً هاماً من نجاح هذا العمل يعود كما يؤكد الدكتور "سمر روحي الفيصل" إلى صدقه الفني، والصدق مبدأ جمالي وفكري معاً.
وإذا تناولنا بعض الجوانب الفنية والتقنية من الرواية، حيث سنبدأ بموقع الروائي وصورة الراوي، فمن المعروف نقدياً أن الروائي لا يسرد حوادث روايته بنفسه، بل يخلق لهذه المهمة راوياً أو سارداً، وربما أكثر ويضطلع هذا الراوي بسرد حكاية الرواية، ويصبح مكوناً هاماً من مكوناتها في حين يبقى الروائي خارج النص يبني لكنه ينسب ذلك للراوي، وفي رواية "سلامة عبيد" المكونة من خمسة عشر فصلاً وخاتمة، نجد مزجاً موفقاً بين موقفين اثنين للروائي، ففي الفصل الأول فقط نراه يقف من عمله موقف المشارك المنحاز، لقد اتخذ لنفسه راوياً يتقمص إحدى الشخصيات وهو الأستاذ، الذي سيدخل مع مجموعة من الأشخاص دار "حمد ذياب" بهدف الزيارة والاستماع إلى أخباره حيث تبدأ الحكاية زمنياً من النهاية.
الروائي "منير بو زين الدين" مدير المركز الثقافي في "شهبا"
إن شخصية الأستاذ التي تقود السرد بضمير المتكلم تبدو موفقة جداً في جعل القارئ ملتصقاً بالنص السردي، متعلقاً به متوهماً أن المؤلف هو هذه الشخصية التي تنهض عليها الرواية، وسيتمكن ضمير المتكلم هنا من جعل الحكاية مسرودة بروح المؤلف، فيذوب ذلك الحاجز الزمني الذي يفصل بين زمن السرد وزمن السارد، ولكن شخصية الأستاذ لن تكون قادرة على الاضطلاع بسرد الأحداث، حين يتعلق الأمر بالحديث عن "حمد ذياب" والأهوال التي عاشها في السجن، والروائي بموهبته وذكائه أدرك ذلك فكان عليه أن ينيب عنه راوياً آخر غير الأستاذ في الفصول المتبقية، وكان لديه عدة خيارات منها مثلاً أن يترك لشخصية حمد نفسها أن تسرد القصة كاملة، بأسلوب السيرة الذاتية وبضمير المتكلم.
ولكن "سلامة عبيد" لم يفعل ذلك لإحساسه الفطري وربما لمعرفته، أن مثل هذا الحل سيجعل كل الأحداث والأماكن والوقائع وغيرها تقدم من خلال شخصية بطله "حمد"، وهذه الشخصية لن تكون قادرة على الإحاطة بكل شيء، إنها ستقدم ما تراه أو تسمعه أو تعيشه أو تفكر به بمعنى أن سلطة هذه الشخصية تقتصر على ما تعرفه هي.
غلاف الرواية
أما في بناء الشخصيات: فلابد لي من الإشارة إلى أن رواية "أبو صابر" لا تشهد كغيرها من الروايات التاريخية طغياناً لشخصية واحدة فقط، بل أستطيع أن أقول تدور حول شخصية "حمد ذياب" وحدها في حين نرى الشخصيات الأخرى، وعددها غير قليل بالنسبة لحجم الرواية التي لا يزيد عدد كلماتها على خمسين ألف كلمة، تمر أمام القارئ فلا يعرف على الأغلب منها إلا اسمها وعبارة قد تقولها أو مصيراً تؤول إليه، وهناك عدد كبير من الشخصيات ذكرت في النص بدافع التوثيق أو التأريخ لدورها النضالي، بقي أن نذكر أنه في الزمن الروائي، فإن الرواية تقدم زمناً روائياً يحيل القارئ إلى ماضي الزمن الخارجي، الذي يعيش فيه المتلقي.
فالزمن الذي يعيش به القارئ هو الستينيات أو السبعينيات من القرن الماضي، والزمن الروائي زمن يمتد من بداية الثورة وحتى الاستقلال وما بعده بقليل، وبرأيي أن "سلامة عبيد" رغم رغبته العارمة بالمطابقة التامة بين الزمنين الروائي والخارجي، فقد أجاد في استخدام نمطين من الأنماط الزمنية للسرد دون المزج بينهما، وهما السرد المتزامن والسرد اللاحق مع غلبة النمط الثاني بقوة، ففي الفصل الأول فقط رأينا سرداً متزامناً بمعنى إقامة تطابق بين زمن السرد وزمن ما يروى في النص، منذ الفصل الثاني ننتقل إلى ما يسمى السرد اللاحق الذي يعني تقديم الراوي للأحداث، بعد أن تكون قد انتهت معلناًً صراحة انتماء هذه الأحداث للماضي، ومحدداً على الأغلب الفاصل الزمني بينه وبينها، والحقيقة أن "سلامة عبيد" في مقدمته للنص صرح أنه سيقدم للقارئ قصة رواها ثائر صادق، وكتبها قلم آثر أن يكون صادقاً، وكي نكون موضوعيين علينا أن نشير إلى أن كل الروايات السورية التاريخية التي سبقت وزامنت "أبو صابر" وربما حتى نهاية الثمانينيات قد استخدمت تقنية السرد اللاحق ولا يمكننا طبعاً اعتبار السرد لاحقاً إلا إذا حوى العمل إشارات زمنية أو مقدمات تنص صراحة أن الحوادث التي يضمها تنتمي إلى الماضي».
الباحث والكاتب "محمد طربيه" رئيس فرع "السويداء" لجمعية العاديات بدوره تحدث عن الرواية قائلاً: «لابد من النظر إلى رواية "أبو صابر" ضمن سياقها التاريخي، وضمن ظهور الرواية في "السويداء" وفي سورية بشكل عام، ومن الإنصاف والموضوعية أن ننظر لها على أنها بنت زمانها وظروفها، فلا نحاكمها بالمعايير الفنية الثابتة أو المتعارف عليها في الفن الروائي، ولاسيما أنها صياغة أدبية روائية لحادثة واقعية، كان على الكاتب ألا يغفل تفصيلاً من تفاصيلها، أو جزئية من جزئياتها لأن همه كان منصباً على التوثيق والتأريخ، أكثر من انصبابه على فنية العمل الروائي وقد أشار في المقدمة إلى أنه لو كان يمتلك موهبة قصصية، لاختار نهاية غير تلك النهاية التي أثبتها في روايته والتي تتفق تمام الاتفاق مع الحادثة الحقيقية».
وإذا كان قد أشير في الكثير من الدراسات إلى سطوة التاريخ على العمل الروائي، فإن ثمة جوانب أخرى واقعية يجب ألا تبقى خارج دائرة اهتمامنا، سواء فيما يتعلق ببطل الرواية أو كاتبها، فبطل الرواية أحس بالكثير من الإحباط وخيبة الأمل بعد رجوعه إلى الوطن، وقد عانى ما عاناه في سبيل البحث عن عمل ليحفظ ماء وجهه وكرامته، حتى عين مستخدماً بإحدى المدارس.
أما فيما يتعلق بالكاتب فمن المعروف أن روايته نالت جائزة وزارة الثقافة، فقام الكاتب بتقديم القيمة النقدية التي حصل عليها من الوزارة إلى "حمد ذياب"، إن الحديث عن فنية الرواية لا يكون ذا قيمة إلا إذا قرأها الشخص واستمتع بها، لأنها معاناة هذا الشخص هي غريبة من نوعها، وإن كان نمو شخصيته بطيئاً إلا أنه يؤكد حقيقة أن الثورة تصهر الأفراد في أتونها، وتجمع أبناءها في صف واحد بغض النظر عن المستوى الفكري لأي منهم، المسألة أولاً وأخيراً مسألة وطن واحتلال».
الروائي "منير بو زين الدين" مدير المركز الثقافي العربي في مدينة "شهبا" أضاف: «ما أحوجنا لتوثيق ذاكرتنا المنسية، الأديب المرحوم "سلامة عبيد" من أوائل الكتاب في محافظة "السويداء"، الذين تناولوا الحديث عن الفترة الذهبية من تاريخ سورية، وخاصة الوقائع والبطولات الخارقة التي جرت أثناء الثورة، وروايته "أبو صابر" ما هي إلا تدوين لهذه الذاكرة التي توجد في ذاكرة من شارك في الثورة، وقد سبق هذه الرواية كتاب للمرحوم "سلامة عبيد" بعنوان: "الثورة السورية على ضوء وثائق لم تنشر"، وذلك في عام 1968م.
أما بالنسبة للرواية فسأكتفي بالتعليق الذي كتبه الروائي في مقدمة روايته: "سيختلف الأدباء والأصدقاء في تقييم هذا العمل الأدبي، فناً ولغة وتأثيراً، ولكنهم يتفقون جميعاً على أنها قصة رواها ثائر صادق، وكتبها قلم آثر أن يظل صادقاً"، وبعد قراءة الرواية سيكتشف القارئ تلقائياً كم كان "أبو صابر" صادقاً، والروائي أكثر صدقاً».
هذا الثائر الذي لم ينصفه مجتمعه، أنصفته رواية كتبها عنه مديره في العمل عندما كان يعمل مستخدماً، ليدون اسمه مع من دون في صفحات التاريخ.