"محمد علي الخياط".. "مايكل أنجلو" العرب*
- عزة آقبيق، تحرير: ضياء الصحناوي
دمشق
ولد في "دمشق" بحيّ "العمارة"، عام 1880، وأخذ عن عائلته الفنية التي تعمل في تصنيع الخشب وزخرفته وتزيينه، مهنة الحفر والتزيين، كما كان أجداده ماهرين في هذه المهنة، فكان عبقرياً، حتى لقّبه أحد المؤرّخين الإيطاليين بأنه "مايكل أنجلو" العرب.
أحبَّ "محمد الخياط" مهنته، واهتم بأنواع الفنون والزخرفة على مواد مختلفة، مثل: (الخشب، والرخام، والحجر)، كان موهوباً في تصميم القطع الفنية في مخيلته، وإنجازها على أرض الواقع، ولعل أهم إبداعاته الكسوة الخشبية الداخلية للقاعات في البيوت الدمشقية، وتقديم الأثاث المناسب لكل قاعة، فكل ما احتاج إليه في إبداعه بضع أدوات بسيطة، فاستطاع أن يذهل العالم.
إن الفنّ العربي قد تأثر بفنون أخرى، فخرج بصورته الأخيرة مزيجاً راقياً من فنون عريقة أصيلة، لقد أخذ الفن العربي من "فارس والهند ومصر القديمة"، وقد انقرضت هذه الفنون، ولم يعد لها وجود ملموس، لكن الفنّ العربي الذي أخذ منها ما زال يتنفس، إنه فنٌّ حي، ويستطيع أن ينمو من جديد، ويعيش طويلاً
مدونة وطن "eSyria" التقت الفنان الحرفي "معن الصناديقي"، الذي أتقن مهنة "الخياط"، وله بصمات كثيرة في هذا المجال، حيث تحدث عن بدايات "الخياط" في تعلّم فنّ الزخرفة، فقال: «بدأ عمله بهذا الفن عام 1922م، وفي لبنان أعاد حفر وتزيين القصر التاريخي المشهور "بيت الدين"، حتى أصبح هذا القصر تحفة فنية.
القاعة الشامية في المتحف الوطني
درس أنواع الفنون وتطورها عبر العصور، وكان يخالط العلماء والفنانين وتربطه علاقة جيدة بـ"أبي الفرج العش"، حيث كانت لهما جلسات طويلة اطَّلع من خلالها على مختلف القطع الأثرية وتاريخها وأسلوب تصنيعها وميزاتها، وأنواع الزخارف العربية عبر العصور "الأموية، والعباسية، والفاطمية، والأتابكية، والأيوبية، والمملوكية، والعثمانية". وعلى الرغم من أن الفنان "الخياط" أميّاً لم يتعلم القراءة والكتابة، إلا أنه يعدّ أحد المبدعين فيه، حيث أبدع في التصاميم الهندسية معتمداً أسلوب الخيط العربي الذي يرتكز أساساً على الدائرة، يرسم داخلها مربعاً أو مثمناً أو مثلثاً، وتنبعث منها أشكال هندسية مختلفة، وتشكيلات نباتية وكتابية، ثم يقوم بعملية ترسيب الجصّ على الخشب لإبراز العناصر الزخرفية. وكان يجيد اختيار الألوان والصباغات الطبيعية ويمزجها لإخراج اللون المطلوب، ثم يجري عمليات الدهان والتذهيب وتحديد الزخارف بالأسود أغلب الأحيان.
أما أثاث القاعات، فقد صنع لكلٍّ منها ما يناسبها من المفروشات، وقدم أثاثاً فاخراً، وأبدع في فنّ حفره، سواء الحفر الغائر، أو البارز، ثم يقوم بعمليات التطعيم بالصدف أو العظم أو القصدير».
قاعة البرلمان
اشتهر "الخياط" على نطاق واسع، وباتت ورشاته تحمل شهرة واسعة، حتى وصلت "قصر العظم"، ويتابع "صناديقي": «كان "محمد الخياط" ماهراً بالفسيفساء الصدفية، المهنة التي أخذها عن والده، لكنه كان يميل إلى الإبداع والتجديد، وبعد وفاة والده عام 1912م، نقل محل عمله إلى "زقاق البورص"، وكان لديه ورشات يديرها أولاده، وصارت شهرتها واسعة. وفي عام 1924م، أراد مدير المعهد الفرنسي "دولوري" ترميم "قصر العظم" لجعله مركزاً للمعهد، فاختاره لهذه المهمة، واستطاع "الخياط" دراسة الألوان القديمة، وتحديد مادتها وتقليدها، وقام بعمليات الترميم والتجديد، وصنع أثاثاً للقصر محفوراً ومطعماً يتناسب مع عصره، ومن هنا بدأت انطلاقته الإبداعية؛ إذ طلب "دولوري" كثيراً من القطع الفنية لإرسالها إلى "فرنسا"، ثم عرض عليه السفر إليها والمشاركة في مشروع من هذا النوع في "باريس"، لكنه رفض مغادرة بلده».
وقال "محمد أبو الفرج العش" 1916-1984م، مؤسس فرع الآثار الإسلامية في "المتحف الوطني"، ومدير دار الوثائق التاريخية، والقريب من "الخياط"، عمّا خلّفه من وثائق: «كان يقوم بتجارب عدة ليتوصل إلى المواد ذاتها التي كانت تستعمل قديماً، ومثال على ذلك: اكتشافه طريقة صنع الفسيفساء العربي. يتصف عمله بالتكامل؛ فإذا ما أراد تجميل أحد القصور أو إحدى القاعات، كان يتولى الأعمال كافة من (نطاقات خيوط، ومقرنصات، وكسوة رخامية، ومواقد، وألواح فسيفسائية، والأبواب، وخيوط النوافذ، والمكتبات، والثريات، ومنابر إلقاء المحاضرات، والأثاث، والشرفات، وكسوة خشبية للجدران والسقوف، وتزيينها بلوحات من الفن الإسلامي المتميز بالتجريد والعمق).
السرير الذي أراد شراؤه الملك فاروق
زار المهندس الفرنسي "كافرو" عام 1926م، قصر العظم وأعجب بأعماله، فطلب منه أن يذهب معه إلى "بيروت" فقبل، وهناك أمضى خمس سنوات قدَّم فيها روائع أعماله الفنية، وهي: ترميم قصر "بيت الدين"، وقصرالأمير "بشير الثاني الشهابي"،
وترميم السراي في "دير القمر"، وقصر "فخر الدين المعني"، وكسوة بعض قاعات قصر الثري اللبناني "هنري فرعون"، وكسوة بعض قاعات منزل المفوّض السامي الفرنسي.
بعد هذه الأعمال المهمة استمر ابنه الأكبر "منير" في العمل في "لبنان"، أما الفنان "الخياط"، فقد عاد إلى "دمشق"، واستمر في إنتاجه، ومن الصعب إحصاء أعماله الفنية سواء في إنشاء القاعات الشامية، أو في إعداد الأثاث المناسب لهذه القاعات».
ويتابع: «لعلّ أهم أعماله التي أظهر فيها فنّه البديع وذوقه الرفيع: "مبنى مصلحة مياه دمشق"، أو "مؤسسة مياه عين الفيجة"، و"مدرج جامعة دمشق"، و"قصر الضيافة"، و"أمانة العاصمة"، و"قاعة اجتماعات المجلس النيابي"، والممرات الداخلية فيه، وقبته التي تعدّ تحفة فنية خالصة، حيث بدأ العمل في القاعة منذ عام 1947 حتى 1955م، وكان مزيجاً راقياً من الفن الفارسي والهندي والمصري القديم. وقام بترميم قاعات في بعض الدور القديمة، مثل: "بيت جبري"، و"بيت نظام"، و"بيت السباعي".
وأهمّ ما قدمه الفنان هو مقدرته الإبداعية في نقل جميع الفنون الدمشقية القديمة، ولا سيما تلك التي تعود إلى القرنين الثامن عشر والتاسع عشر الميلاديين إلى القرن العشرين، فقد كان موهوباً، أحب مهنته وأورث هذا الحب إلى أبنائه وأحفاده، فاليوم نجد مؤسسة "الخياط" مدرسة تعمل لتخريج كل من أحب هذا الفن. ولا بد من الإشارة إلى أن الفنان "الخياط" استطاع بإخلاصه وإبداعه في عمله، أن يحصل على عدد كبير من الجوائز والأوسمة الذهبية المحلية والدولية، فكان أولها وسام ذهبي عام 1928م، وقَّعه كل من وزير المعارف ورئيس اللجنة "محمد كرد علي"، ورئيس الوزراء "محمد تاج"، أما آخرها، فكان وسام الاستحقاق السوري من الدرجة الثانية عام 1962م، وذلك بعد وفاته بعام. وفي إحدى المرات تمّ تنظيم معرض من قبل وزارة الثقافة السورية لعرض أعماله، وكان من بين المعروضات "سرير" صمّمه بعناية، فأُعجب به "الملك فاروق" وأراد شراءه، لكن "الخياط" رفض عرضه السخي لأسباب خاصة».
يقول "أبو سليمان" -الاسم الذي اشتهر فيه طوال حياته- عن فنّه: «إن الفنّ العربي قد تأثر بفنون أخرى، فخرج بصورته الأخيرة مزيجاً راقياً من فنون عريقة أصيلة، لقد أخذ الفن العربي من "فارس والهند ومصر القديمة"، وقد انقرضت هذه الفنون، ولم يعد لها وجود ملموس، لكن الفنّ العربي الذي أخذ منها ما زال يتنفس، إنه فنٌّ حي، ويستطيع أن ينمو من جديد، ويعيش طويلاً».
الجدير بالذكر، أنّ "الخياط" توفيّ عام 1961.
- زار مهندس إيطالي شهير مدينة "دمشق"، وعندما شاهد أعماله وقف مذهولاً، وقال: هل عندكم في "سورية" من يستطيع إبداع الفنّ هكذا؟ وخاصة عندما علم أنّ "أبا سليمان" لم يتعلم هذا الفن بأي مدرسة، بل تعلّمه من آبائه وعبقريته الفريدة، وعندما توقف هذا المهندس أمام قبة البرلمان التي أبدعها، قال: يستحق هذا الفنان السوري لقب "مايكل أنجلو العرب".
شاركغرّدأرسلأرسل