فرنسا تحتفي بالزوجين الألمانيين أنّي وجوزيف ألبيرس رائدي الأوب آرت
متحف الفن الحديث بباريس يواصل عرض أعمال الفنانان عبر 350 لوحة فنية.
تجريد بسيط لكنه مضلّل
يواصل متحف الفن الحديث بباريس احتضانه لمعرض الألمانيين جوزيف ألبيرس وزوجته أنّي حتى مطلع العام الجديد، هذا الثنائي الذي اشتغل بطريقته على الصناعة التقليدية وطبع جيلا من الفنانين فنيا وتربويا.
للمرة الأولى في فرنسا يُخصَّص معرض لجوزيف ألبيرس وزوجته أنّي، هذا الثّنائيّ الذي يعتبر من بناة الحداثة في القرن العشرين، ويشمل أعمالَهما الفردية، قبل أن يلتقيا في مدرسة باوهاوس الألمانية لينجزا أعمالا مشتركة، يتبدى فيها حوار فني واستلهام متبادل، ثمّ أعمالهما اللاحقة بعد هجرتهما إلى الولايات المتحدة، حيث لامسا الفن التجريدي والأوب آرت (الفن البصري).
ويضم هذا المعرض الذي يحتضنه متحف الفن الحديث بباريس نحو ثلاثمئة وخمسين عملا فنيا، بين لوحات وصور فوتوغرافية وقطع أثاث وأعمال خطوط ونسيج، تعكس مجتمعة المراحل التي مرّ بها الفنانان وتطوّر أدواتهما الفنية ومقاربتهما للشكل والألوان.
التقى جوزيف ألبيرس (1888-1976) بأنّليز فلايشمان (1899-1994) أوّل مرة عام 1922 في مدرسة باوهاوس للهندسة والفنون التطبيقية في فايمار، وتزوّجا بعد ثلاث سنوات، وبدآ مسيرة مشتركة، تقوم على قناعة بأن الفن يمكن أن يغيّر بعمق عالمنا، ومن ثَمّ لا بد أن يكون في صميم الوجود الإنساني. فكانا منذ البداية توّاقَيْن إلى المغامرة. وقالت أنّي ألبيرس في هذا الصدد “الأعمال الفنية تعلّمنا ما الشّجاعة، ولا بد أن نذهب إلى حيث لم يغامر أحد قبلنا”.
الزوجان كانا يدعوان الجميع إلى خوض غمار الفن، مؤكّدين دائما أن الفن ليس أدوات ومواد وأشياء بل تجربة
منذ بداية تجربتهما، وضع الفنانان وظيفة الفن في صميم تأمّلهما، فانخرطا في إعادة الاعتبار إلى الصناعات التقليدية، ومزايا الإنتاج الصناعي، لجعل ديمقراطية الفن ممكنة، ولكنهما اعتبرا أيضا أن الخلق يلعب دورا هاما في تربية كل فرد، فما فتئا يثبتان، بوصفهما فنانين أولا ثم مدرّسين ثانيا، أثر النشاط الفني في تحقيق الذّات، وفي العلاقة مع الآخرين بصفة عامة.
واقتناعا منهما بتلك القيم، سعيا إلى توجيه تلاميذهما نحو الاستقلالية الذاتية في التأمّل، وحثّهم على الوعي بذاتية الإدراك، لأن التعليم في نظرهما لا يقتصر على نقل المعرفة النظرية المكتوبة سلفا، بل يتجاوزه إلى إثارة تساؤلات جديدة باستمرار: أولا، من خلال الملاحظة الحسية للعالم، بصرية كانت أم لمسية. ثانيا، من خلال الاكتشاف التجريبي الخلاّق، باستعمال مواد في متناول اليد، دون حكم مسبق على قيمتها الجمالية.
وقال جوزيف ألبيرس في هذا الخصوص “تعلموا كيف تنظرون، وكيف تحسّون الحياة، ربّوا خيالكم، فما زال في العالم أشياء عجيبة، لأن الحياة لغز، وسوف تبقى كذلك.. فلنَكُن واعين بها”.
يفتتح المعرض بعملين نموذجيين في تجربة كل منهما، يوضّحان منذ البداية القيم التشكيلية والروحية التي تجمع بين الزوجين. تعقبهما، بصفة كرونولوجية، مختلف مراحل حياتهما. قسم أول يجمع إنتاجهما الثريّ والمتنوّع، الذي أنجزاه في باوهاوس ما بين 1920 و1933. وقسم ثان يبدأ منذ رحيلهما إلى الولايات المتحدة عام 1933، ويركّز على الأعمال التي أنجزاها في معهد بلاك ماونتن. يليها قسم ثالث يقترح مختارات من أعمالهما، مثل “أنسجة مصوّرة” لأنّي، و”تحية إلى الميدان” لجوزيف.
أما القسم الأخير فهو مخصّص للعمل الخطوطي لأنّي، وكان جوزيف قد استهله في الستينات، إذ واصلت السير فيه حتى وفاتها. وإلى جانب تلك الأعمال، خصّصت قاعة تعرض فيها أشرطة وثائقية تبيّن دورهما التربوي، بوصفهما مربّيين حاولا غرس القيم النبيلة التي ينهض بها الفن وعشاقه، سواء في ألمانيا أم في الولايات المتحدة، ويدعوان الجميع إلى خوض غمار التجربة. وكانا يؤكّدان دائما أن الفن ليس أدوات ومواد وأشياء بل تجربة.
الفنانان انخرطا في إعادة الاعتبار إلى الصناعات التقليدية، ومزايا الإنتاج الصناعي، لجعل ديمقراطية الفن ممكنة
في ظرف ألماني مضطرب وجوّ صاخب رافق تلك العشرية المتوترة (1920-1930)، لاذ ذلك الثّنائي بصرامة التشكيل الهندسي، من خلال الزجاج ثم الرسم الزيتي بالنسبة إلى جوزيف، وباستعمال النسيج بالنسبة إلى زوجته.
والطريف أن جوزيف كان ملوّنا بارعا، بينما كانت أنّي ماهرة في استعمال اللون الأسود. وبالرغم من ذلك، ظلّت تعتبر نفسها دائما حِرفية صناعات تقليدية، كما تقول في فيلم قصير يعرض في نهاية المسار. ففي أواخر حياتها فقط، حين طُبعت أعمالها على الورق، رُفعت إلى مقام فنانة تشكيلية.
الطريف أيضا أن أعمالهما التجريدية لا تحمل أيّ خطاب، ولا تعلن عن شيء، ولا تدين أي شيء، فهي مثل صانعَيها، مَصوغة بدقّة ومهارة، ولكن دون بهرج، حتى أن بعضهم اعتبرها بسيطة، غير أن بساطتها مضلّلة، لأن غاية مبدعَيها هو الحسّ الفني الخالص. فالفن لديهما هو بمثابة الموسيقى لدى الفيلسوف فلاديمير ينكيليفيتش “لا شيء تقريبا”، ولكن ذلك اللاشيء هو كل شيء.
وجملة القول إنه علاوة على تقديم فكرة شاملة عن آثار الزوجين، مجتمعَين أو كلّا على حدة، فإن فضل هذا المعرض يكمن في تعريف عشاق الفن في فرنسا بتجربة فريدة لفنانين عاشا حياة زوجية وفنية حميمة، طوال سنوات تميّزت بحوار متواصل في كنف الاحترام المتبادل، مثلما تميّزت بحرص دائم على توعية الناس بقيم الفن الأصيلة ودورها في التفتّح على العالم وإقامة روابط مع الآخر. وكان لدروسهما ومحاضراتهما أثر جليل على جيل من الفنانين تشبّع بقيمهما التربويّة.
ا
أبو بكر العيادي
كاتب تونسي
متحف الفن الحديث بباريس يواصل عرض أعمال الفنانان عبر 350 لوحة فنية.
تجريد بسيط لكنه مضلّل
يواصل متحف الفن الحديث بباريس احتضانه لمعرض الألمانيين جوزيف ألبيرس وزوجته أنّي حتى مطلع العام الجديد، هذا الثنائي الذي اشتغل بطريقته على الصناعة التقليدية وطبع جيلا من الفنانين فنيا وتربويا.
للمرة الأولى في فرنسا يُخصَّص معرض لجوزيف ألبيرس وزوجته أنّي، هذا الثّنائيّ الذي يعتبر من بناة الحداثة في القرن العشرين، ويشمل أعمالَهما الفردية، قبل أن يلتقيا في مدرسة باوهاوس الألمانية لينجزا أعمالا مشتركة، يتبدى فيها حوار فني واستلهام متبادل، ثمّ أعمالهما اللاحقة بعد هجرتهما إلى الولايات المتحدة، حيث لامسا الفن التجريدي والأوب آرت (الفن البصري).
ويضم هذا المعرض الذي يحتضنه متحف الفن الحديث بباريس نحو ثلاثمئة وخمسين عملا فنيا، بين لوحات وصور فوتوغرافية وقطع أثاث وأعمال خطوط ونسيج، تعكس مجتمعة المراحل التي مرّ بها الفنانان وتطوّر أدواتهما الفنية ومقاربتهما للشكل والألوان.
التقى جوزيف ألبيرس (1888-1976) بأنّليز فلايشمان (1899-1994) أوّل مرة عام 1922 في مدرسة باوهاوس للهندسة والفنون التطبيقية في فايمار، وتزوّجا بعد ثلاث سنوات، وبدآ مسيرة مشتركة، تقوم على قناعة بأن الفن يمكن أن يغيّر بعمق عالمنا، ومن ثَمّ لا بد أن يكون في صميم الوجود الإنساني. فكانا منذ البداية توّاقَيْن إلى المغامرة. وقالت أنّي ألبيرس في هذا الصدد “الأعمال الفنية تعلّمنا ما الشّجاعة، ولا بد أن نذهب إلى حيث لم يغامر أحد قبلنا”.
الزوجان كانا يدعوان الجميع إلى خوض غمار الفن، مؤكّدين دائما أن الفن ليس أدوات ومواد وأشياء بل تجربة
منذ بداية تجربتهما، وضع الفنانان وظيفة الفن في صميم تأمّلهما، فانخرطا في إعادة الاعتبار إلى الصناعات التقليدية، ومزايا الإنتاج الصناعي، لجعل ديمقراطية الفن ممكنة، ولكنهما اعتبرا أيضا أن الخلق يلعب دورا هاما في تربية كل فرد، فما فتئا يثبتان، بوصفهما فنانين أولا ثم مدرّسين ثانيا، أثر النشاط الفني في تحقيق الذّات، وفي العلاقة مع الآخرين بصفة عامة.
واقتناعا منهما بتلك القيم، سعيا إلى توجيه تلاميذهما نحو الاستقلالية الذاتية في التأمّل، وحثّهم على الوعي بذاتية الإدراك، لأن التعليم في نظرهما لا يقتصر على نقل المعرفة النظرية المكتوبة سلفا، بل يتجاوزه إلى إثارة تساؤلات جديدة باستمرار: أولا، من خلال الملاحظة الحسية للعالم، بصرية كانت أم لمسية. ثانيا، من خلال الاكتشاف التجريبي الخلاّق، باستعمال مواد في متناول اليد، دون حكم مسبق على قيمتها الجمالية.
وقال جوزيف ألبيرس في هذا الخصوص “تعلموا كيف تنظرون، وكيف تحسّون الحياة، ربّوا خيالكم، فما زال في العالم أشياء عجيبة، لأن الحياة لغز، وسوف تبقى كذلك.. فلنَكُن واعين بها”.
يفتتح المعرض بعملين نموذجيين في تجربة كل منهما، يوضّحان منذ البداية القيم التشكيلية والروحية التي تجمع بين الزوجين. تعقبهما، بصفة كرونولوجية، مختلف مراحل حياتهما. قسم أول يجمع إنتاجهما الثريّ والمتنوّع، الذي أنجزاه في باوهاوس ما بين 1920 و1933. وقسم ثان يبدأ منذ رحيلهما إلى الولايات المتحدة عام 1933، ويركّز على الأعمال التي أنجزاها في معهد بلاك ماونتن. يليها قسم ثالث يقترح مختارات من أعمالهما، مثل “أنسجة مصوّرة” لأنّي، و”تحية إلى الميدان” لجوزيف.
أما القسم الأخير فهو مخصّص للعمل الخطوطي لأنّي، وكان جوزيف قد استهله في الستينات، إذ واصلت السير فيه حتى وفاتها. وإلى جانب تلك الأعمال، خصّصت قاعة تعرض فيها أشرطة وثائقية تبيّن دورهما التربوي، بوصفهما مربّيين حاولا غرس القيم النبيلة التي ينهض بها الفن وعشاقه، سواء في ألمانيا أم في الولايات المتحدة، ويدعوان الجميع إلى خوض غمار التجربة. وكانا يؤكّدان دائما أن الفن ليس أدوات ومواد وأشياء بل تجربة.
الفنانان انخرطا في إعادة الاعتبار إلى الصناعات التقليدية، ومزايا الإنتاج الصناعي، لجعل ديمقراطية الفن ممكنة
في ظرف ألماني مضطرب وجوّ صاخب رافق تلك العشرية المتوترة (1920-1930)، لاذ ذلك الثّنائي بصرامة التشكيل الهندسي، من خلال الزجاج ثم الرسم الزيتي بالنسبة إلى جوزيف، وباستعمال النسيج بالنسبة إلى زوجته.
والطريف أن جوزيف كان ملوّنا بارعا، بينما كانت أنّي ماهرة في استعمال اللون الأسود. وبالرغم من ذلك، ظلّت تعتبر نفسها دائما حِرفية صناعات تقليدية، كما تقول في فيلم قصير يعرض في نهاية المسار. ففي أواخر حياتها فقط، حين طُبعت أعمالها على الورق، رُفعت إلى مقام فنانة تشكيلية.
الطريف أيضا أن أعمالهما التجريدية لا تحمل أيّ خطاب، ولا تعلن عن شيء، ولا تدين أي شيء، فهي مثل صانعَيها، مَصوغة بدقّة ومهارة، ولكن دون بهرج، حتى أن بعضهم اعتبرها بسيطة، غير أن بساطتها مضلّلة، لأن غاية مبدعَيها هو الحسّ الفني الخالص. فالفن لديهما هو بمثابة الموسيقى لدى الفيلسوف فلاديمير ينكيليفيتش “لا شيء تقريبا”، ولكن ذلك اللاشيء هو كل شيء.
وجملة القول إنه علاوة على تقديم فكرة شاملة عن آثار الزوجين، مجتمعَين أو كلّا على حدة، فإن فضل هذا المعرض يكمن في تعريف عشاق الفن في فرنسا بتجربة فريدة لفنانين عاشا حياة زوجية وفنية حميمة، طوال سنوات تميّزت بحوار متواصل في كنف الاحترام المتبادل، مثلما تميّزت بحرص دائم على توعية الناس بقيم الفن الأصيلة ودورها في التفتّح على العالم وإقامة روابط مع الآخر. وكان لدروسهما ومحاضراتهما أثر جليل على جيل من الفنانين تشبّع بقيمهما التربويّة.
ا
أبو بكر العيادي
كاتب تونسي