الهروب من الفراغ
كائنات جياكوميتي لا تملأ الفراغ ولا تزيّنه ولا تسكنه لتكون جزءا منه، بل تخترقه كما لو كانت على موعد مع خواء أشدّ ضغطا وعنفا.
منحوتات جياكوميتي تنطوي على أسئلة وجودية حارقة
لن يكون جياكوميتي سعيدا باكتشافه من جديد. بالنسبة إلى مَن يرى أعماله فإن النحات السويسري الذي عاش في باريس هو حدث جديد دائما.
قبل ثلاثين سنة رأيت كلبه في أحد المتاحف بزيورخ ولم أستطع الهروب منه. طاردني ذلك الكلب في أحلامي. وليس غريبا أن يكون قد أعادني إلى الجملة الأخيرة التي انتهت بها رواية المحاكمة لكافكا “مثل كلب”.
أشعر دائما أنني أقيم بين قوسي تلك الجملة بسبب جياكوميتي. فأعماله النحتية تنبعث من جهة الكابوس المعاصر.
عاش ألبرتو جياكوميتي (1901 ــ 1966) صداقة من نوع خاص مع فيلسوف الوجودية جان بول سارتر وكان لا بد أن يتأثر بشخصيته وأفكاره. ولهذا فبقدر ما كانت أعماله حدثا غير مسبوق في تاريخ النحت كانت تنطوي على أسئلة وجودية لم يطرحها الفن بتلك الكثافة والاختزال والغزارة من قبل.
“خلاصة وعي شقي” تلك جملة يمكن من خلالها وصف كل عمل نحتي من أعمال ذلك الفنان الذي يوحي وجهه بأن كل تعاسات البشر مرّت عليه وقاومها بل وخرج من حروبها منتصرا، لكن بقدر لافت من الكآبة.
قاوم جياكوميتي الألم بالألم وهي طريقة فريدة من نوعها في مواجهة الألم. وكان “الوجود النقي” وهو عنوان معرض استعادي لوجوهه أقيم في لندن منذ سنوات معبّرا عن اللحظة الحرجة والقاطعة التي مثلها ظهوره في إطار الحداثة الفنية.
كان الفنان الأكثر تعبيرا عن الصدام الوجودي الذي يعيشه الإنسان بفعل ما شهده القرن العشرون من حروب زادت من غربته وشعوره بالنفي وسط قيم رأسمالية خادعة، تستهلك الإنسان مثلما تصنع منه كائنا استهلاكيا يأتمر مدفوعا بنفعيته.
ذلك الزائر النحيف الطويل المتآكل ينقلنا مباشرة إلى الهجرات الاضطرارية التي يعيشها البشر مطرودين من جناتهم الطبيعية بحثا عن جنات اصطناعية على حد تعبير الشاعر شارل بودلير. ذلك هو الإنسان بالمفهوم الفلسفي الذي اتبعه جياكوميتي وهو يحاول إعادة تعريفه.
لا تملأ كائنات جياكوميتي الفراغ ولا تزيّنه ولا تسكنه لتكون جزءا منه، بل تخترقه كما لو كانت على موعد مع خواء أشدّ ضغطا وعنفا.
PreviousNext
فاروق يوسف
كاتب عراقي
كائنات جياكوميتي لا تملأ الفراغ ولا تزيّنه ولا تسكنه لتكون جزءا منه، بل تخترقه كما لو كانت على موعد مع خواء أشدّ ضغطا وعنفا.
منحوتات جياكوميتي تنطوي على أسئلة وجودية حارقة
لن يكون جياكوميتي سعيدا باكتشافه من جديد. بالنسبة إلى مَن يرى أعماله فإن النحات السويسري الذي عاش في باريس هو حدث جديد دائما.
قبل ثلاثين سنة رأيت كلبه في أحد المتاحف بزيورخ ولم أستطع الهروب منه. طاردني ذلك الكلب في أحلامي. وليس غريبا أن يكون قد أعادني إلى الجملة الأخيرة التي انتهت بها رواية المحاكمة لكافكا “مثل كلب”.
أشعر دائما أنني أقيم بين قوسي تلك الجملة بسبب جياكوميتي. فأعماله النحتية تنبعث من جهة الكابوس المعاصر.
عاش ألبرتو جياكوميتي (1901 ــ 1966) صداقة من نوع خاص مع فيلسوف الوجودية جان بول سارتر وكان لا بد أن يتأثر بشخصيته وأفكاره. ولهذا فبقدر ما كانت أعماله حدثا غير مسبوق في تاريخ النحت كانت تنطوي على أسئلة وجودية لم يطرحها الفن بتلك الكثافة والاختزال والغزارة من قبل.
“خلاصة وعي شقي” تلك جملة يمكن من خلالها وصف كل عمل نحتي من أعمال ذلك الفنان الذي يوحي وجهه بأن كل تعاسات البشر مرّت عليه وقاومها بل وخرج من حروبها منتصرا، لكن بقدر لافت من الكآبة.
قاوم جياكوميتي الألم بالألم وهي طريقة فريدة من نوعها في مواجهة الألم. وكان “الوجود النقي” وهو عنوان معرض استعادي لوجوهه أقيم في لندن منذ سنوات معبّرا عن اللحظة الحرجة والقاطعة التي مثلها ظهوره في إطار الحداثة الفنية.
كان الفنان الأكثر تعبيرا عن الصدام الوجودي الذي يعيشه الإنسان بفعل ما شهده القرن العشرون من حروب زادت من غربته وشعوره بالنفي وسط قيم رأسمالية خادعة، تستهلك الإنسان مثلما تصنع منه كائنا استهلاكيا يأتمر مدفوعا بنفعيته.
ذلك الزائر النحيف الطويل المتآكل ينقلنا مباشرة إلى الهجرات الاضطرارية التي يعيشها البشر مطرودين من جناتهم الطبيعية بحثا عن جنات اصطناعية على حد تعبير الشاعر شارل بودلير. ذلك هو الإنسان بالمفهوم الفلسفي الذي اتبعه جياكوميتي وهو يحاول إعادة تعريفه.
لا تملأ كائنات جياكوميتي الفراغ ولا تزيّنه ولا تسكنه لتكون جزءا منه، بل تخترقه كما لو كانت على موعد مع خواء أشدّ ضغطا وعنفا.
PreviousNext
فاروق يوسف
كاتب عراقي