ديفيد هوكني يمسك باللحظة الهاربة من نورمانديا في جدارية الفصول الأربعة
إبراز لأثر الزمن على المحيط
حتى منتصف فبراير القادم، يحتضن متحف لورانجوري بباريس جدارية طولها نحو تسعين مترا، تعكس الفصول الأربعة التي عاشها الفنان الإنجليزي ديفيد هوكني في مقاطعة نورمانديا الفرنسية أثناء الجائحة، وما تلاها من حجر صحي.
يعتبر الداندي ديفيد هوكني أوسع الفنانين الإنجليز شهرة، وأغزرهم إنتاجا، وأثراهم تجربة، مثلما يعتبر أغلى فنان على قيد الحياة. تميّزت أعماله بالمزاوجة بين الفن التشكيلي والحفر والرسم والتصوير الفوتوغرافي برؤية تكعيبية، ولكنه انتقل إلى المونتاج باستعمال الفيديو والسينوغرافيا فضلا عن تأليف الكتب.
ولع بالرّسم منذ نعومة أظفاره، والتحق منذ سنّ العاشرة بمعهد الفنون الجميلة ببرادفورد، مدينته التي رأى فيها النور عام 1937، ولكنه لم يبدأ مسيرته الفنية إلاّ عام 1961 عندما اختاره متحف “تيت لندن” للمشاركة في معرض للفنانين الشبان، انتقل إثرها إلى عاصمة الضباب حيث درس في الكوليج الملكي للفن.
ديفيد هوكني: في الحجر تمّ إلغاء الألعاب الأولمبية، لكن لا يمكن إلغاء الربيع
وهناك بدأ يجرّب الفن التجريدي، ولكن ما لبث أن تخلّى عنه بسبب “نقص جانب الإنسانية فيه”، كما قال، فمضى يستكشف أساليب أخرى، مستفيدا من أعمال الإنجليزي فرنسيس بيكون والفرنسي جان ديبوفي من جهة مقاربتهما الخام، إيمانا منه بأن للفن والصور دورا في المجتمع.
وبعد فترة وجيزة قضاها في نيويورك عام 1963، انتقل إلى لوس أنجلس التي مثّلت تحوّلا في تجربته الفنية، ذلك أنه اكتشف فيها صفاء الضوء وقوته، وهو الذي اعتاد على ضباب الشمال الإنجليزي وسمائه العابسة على الدوام، وأحسّ أنه يمكن أن يجدّد تجربته بعيدا عن ضغوط تاريخ الفن الأوروبي وحركة التعبيرية التجريدية السائدة وقتها في نيويورك. وكان لرؤيته الهيدونية اللذائذية لمدينة الملائكة أثر في أعماله التي تندرج ضمن الـ”بوب آرت”، ولاسيما لوحاته عن المسابح، والبورتريهات المزدوجة.
بيد أنه انبهر بالتكنولوجيات الحديثة منذ 1970، وبالإمكانات التي توفّرها لخدمة الفن، بدءا بـ”البولارويد” التي صار يستعملها وفق رؤية مخصوصة، لاعتقاده بأن التصوير الفوتوغرافي يفرض النظر إلى العالم بطريقة واحدة مملّة، وأن بصرية الآلة التي يسمّيها عين السيكلوب تثبت الأفق المنظوري الكلاسيكي بشكل آلي، فتفرض معيارا متشابها لكل منظر.
ولذلك كان يقوم بعملية مونتاج للصور التي يلتقطها من زوايا مختلفة، ويُعيد تركيبها بعضها فوق بعض ليعدّد زوايا النظر على الطريقة التكعيبية، وهو أسلوب يعترف أنه استوحاه من بيكاسو بعد أن حضر معرضا أقيم له في متحف “موما” بنيويورك عام 1980، فقرّر إثره التخلّي عن الطبيعية التصويرية نهائيا.
وفي إطار ولعه بالمستحدثات التقنية، انخرط في الرسم باستعمال الكمبيوتر والطابعة والـ”آي باد”، بل إنه يعترف أن لوحة “آبل” أحدثت ثورة في عمله، إذ ساعدته على تخيّر ألوانه وإعادة الاشتغال على أصباغه.
وهو ما نلمسه في أعماله التي اعتاد أن يعرضها على شاشة كبيرة أنجزها الفنان الإنجليزي بالـ”آي باد” وحده، حيث يُعيد بناء المشهد نفسه في سائر الفصول بالتقاط صور عنه بواسطة ثماني عشرة كاميرا من زوايا مختلفة، ثم يبثّ ذلك على شاشة ضخمة.
جدارية عملاقة بطول تسعين مترا عن الحجر وما تلاه
هذه المرة أيضا يلجأ هوكني إلى الـ”آي باد” لرسم جدارية طولها نحو تسعين مترا شملت الفصول الأربعة، وتحوّل الطبيعة من حوله خلالها. المنطلق كان تسدية للملكة ماتيلدا (1031 – 1083) شاهدها في نهاية 2019 في متحف بايو بمقاطعة نورمانديا في الشمال الغربي لفرنسا، حيث يملك بيتا اعتاد الإقامة فيه بين الحين والآخر، تُخلّد لحظة غزو زوجها غيّوم، دوق نورمانديا لإنجلترا في القرن الحادي عشر. انبهر هوكني بالتفاصيل التي تحملها تلك التسدية ورام محاكاة شكلها ولكن بالتركيز على قدوم الربيع.
غير أن الحكومة الفرنسية قرّرت منذ شهر مارس 2020 فرض الحجر الصحي، فاضطر هوكني بعد رسم الربيع إلى مواصلة التقاط تحوّلات الطبيعة في الفصول الموالية، ولما انتهى العام كان قد أنجز سردية عن تعاقب الفصول في نورمانديا، انطلاقا من بيته الريفي وما حوله.
يقول هوكني “عندما بدأ الحجر الصحي، أُلغيت الألعاب الأولمبية، ولكني أدركت أنهم لا يمكن أن يلغوا الربيع، الذي كان رائعا خلال تلك السنة. ولما تواصل الحجر، تماديت في رسم المناظر الطبيعية من حولي”.
وعلى غرار الانطباعيين، مضى هوكني يرسم في الهواء الطلق، في حديقته وفي الحقول والبساتين المجاورة، ولكن باستعمال الـ”آي باد”، ليلتقط الأزهار والثمار والمطر والثلج، وأوراق الأشجار حين تلهو بها الريح، والطيور المحلّقة تحت سماء متغيّرة بتغيّر الفصول، حيث يتجلّى الضباب والضوء الخافت والشمس الساطعة في سماء تتلبّد حينا وتنقشع عنها الغيوم حينا آخر.
فقد ركّز على الضوء خلال التغيّرات الجوية مستعملا ألوانا مشعّة، مكهربة، قريبة من البوب آرت، مستغلا كالعادة ما تثبته آلته من صور يبدو فيها الزمن معلّقا، وكأنه يمسك باللحظة الهاربة، ثم يعيد صياغتها في لوحة تدعو الناظر إلى التقاط عناصر الجمال فيها.
في هذه الجدارية التي أطلق عليها “سنة في نورمانديا”، استطاع هوكني التقاط الضوء العابر على الطبيعة المتغيّرة، والإمساك بذبذبة السماء ونعومة أشعّة الشمس، مبرزا أثر الزمن على محيطه. وقد بدا اللون مضيئا في عمومه واللمسة ساطعة، في تعبير مدهش عن افتتانه بموضوعه متعدّد الألوان.
أبو بكر العيادي
إبراز لأثر الزمن على المحيط
حتى منتصف فبراير القادم، يحتضن متحف لورانجوري بباريس جدارية طولها نحو تسعين مترا، تعكس الفصول الأربعة التي عاشها الفنان الإنجليزي ديفيد هوكني في مقاطعة نورمانديا الفرنسية أثناء الجائحة، وما تلاها من حجر صحي.
يعتبر الداندي ديفيد هوكني أوسع الفنانين الإنجليز شهرة، وأغزرهم إنتاجا، وأثراهم تجربة، مثلما يعتبر أغلى فنان على قيد الحياة. تميّزت أعماله بالمزاوجة بين الفن التشكيلي والحفر والرسم والتصوير الفوتوغرافي برؤية تكعيبية، ولكنه انتقل إلى المونتاج باستعمال الفيديو والسينوغرافيا فضلا عن تأليف الكتب.
ولع بالرّسم منذ نعومة أظفاره، والتحق منذ سنّ العاشرة بمعهد الفنون الجميلة ببرادفورد، مدينته التي رأى فيها النور عام 1937، ولكنه لم يبدأ مسيرته الفنية إلاّ عام 1961 عندما اختاره متحف “تيت لندن” للمشاركة في معرض للفنانين الشبان، انتقل إثرها إلى عاصمة الضباب حيث درس في الكوليج الملكي للفن.
ديفيد هوكني: في الحجر تمّ إلغاء الألعاب الأولمبية، لكن لا يمكن إلغاء الربيع
وهناك بدأ يجرّب الفن التجريدي، ولكن ما لبث أن تخلّى عنه بسبب “نقص جانب الإنسانية فيه”، كما قال، فمضى يستكشف أساليب أخرى، مستفيدا من أعمال الإنجليزي فرنسيس بيكون والفرنسي جان ديبوفي من جهة مقاربتهما الخام، إيمانا منه بأن للفن والصور دورا في المجتمع.
وبعد فترة وجيزة قضاها في نيويورك عام 1963، انتقل إلى لوس أنجلس التي مثّلت تحوّلا في تجربته الفنية، ذلك أنه اكتشف فيها صفاء الضوء وقوته، وهو الذي اعتاد على ضباب الشمال الإنجليزي وسمائه العابسة على الدوام، وأحسّ أنه يمكن أن يجدّد تجربته بعيدا عن ضغوط تاريخ الفن الأوروبي وحركة التعبيرية التجريدية السائدة وقتها في نيويورك. وكان لرؤيته الهيدونية اللذائذية لمدينة الملائكة أثر في أعماله التي تندرج ضمن الـ”بوب آرت”، ولاسيما لوحاته عن المسابح، والبورتريهات المزدوجة.
بيد أنه انبهر بالتكنولوجيات الحديثة منذ 1970، وبالإمكانات التي توفّرها لخدمة الفن، بدءا بـ”البولارويد” التي صار يستعملها وفق رؤية مخصوصة، لاعتقاده بأن التصوير الفوتوغرافي يفرض النظر إلى العالم بطريقة واحدة مملّة، وأن بصرية الآلة التي يسمّيها عين السيكلوب تثبت الأفق المنظوري الكلاسيكي بشكل آلي، فتفرض معيارا متشابها لكل منظر.
ولذلك كان يقوم بعملية مونتاج للصور التي يلتقطها من زوايا مختلفة، ويُعيد تركيبها بعضها فوق بعض ليعدّد زوايا النظر على الطريقة التكعيبية، وهو أسلوب يعترف أنه استوحاه من بيكاسو بعد أن حضر معرضا أقيم له في متحف “موما” بنيويورك عام 1980، فقرّر إثره التخلّي عن الطبيعية التصويرية نهائيا.
وفي إطار ولعه بالمستحدثات التقنية، انخرط في الرسم باستعمال الكمبيوتر والطابعة والـ”آي باد”، بل إنه يعترف أن لوحة “آبل” أحدثت ثورة في عمله، إذ ساعدته على تخيّر ألوانه وإعادة الاشتغال على أصباغه.
وهو ما نلمسه في أعماله التي اعتاد أن يعرضها على شاشة كبيرة أنجزها الفنان الإنجليزي بالـ”آي باد” وحده، حيث يُعيد بناء المشهد نفسه في سائر الفصول بالتقاط صور عنه بواسطة ثماني عشرة كاميرا من زوايا مختلفة، ثم يبثّ ذلك على شاشة ضخمة.
جدارية عملاقة بطول تسعين مترا عن الحجر وما تلاه
هذه المرة أيضا يلجأ هوكني إلى الـ”آي باد” لرسم جدارية طولها نحو تسعين مترا شملت الفصول الأربعة، وتحوّل الطبيعة من حوله خلالها. المنطلق كان تسدية للملكة ماتيلدا (1031 – 1083) شاهدها في نهاية 2019 في متحف بايو بمقاطعة نورمانديا في الشمال الغربي لفرنسا، حيث يملك بيتا اعتاد الإقامة فيه بين الحين والآخر، تُخلّد لحظة غزو زوجها غيّوم، دوق نورمانديا لإنجلترا في القرن الحادي عشر. انبهر هوكني بالتفاصيل التي تحملها تلك التسدية ورام محاكاة شكلها ولكن بالتركيز على قدوم الربيع.
غير أن الحكومة الفرنسية قرّرت منذ شهر مارس 2020 فرض الحجر الصحي، فاضطر هوكني بعد رسم الربيع إلى مواصلة التقاط تحوّلات الطبيعة في الفصول الموالية، ولما انتهى العام كان قد أنجز سردية عن تعاقب الفصول في نورمانديا، انطلاقا من بيته الريفي وما حوله.
يقول هوكني “عندما بدأ الحجر الصحي، أُلغيت الألعاب الأولمبية، ولكني أدركت أنهم لا يمكن أن يلغوا الربيع، الذي كان رائعا خلال تلك السنة. ولما تواصل الحجر، تماديت في رسم المناظر الطبيعية من حولي”.
وعلى غرار الانطباعيين، مضى هوكني يرسم في الهواء الطلق، في حديقته وفي الحقول والبساتين المجاورة، ولكن باستعمال الـ”آي باد”، ليلتقط الأزهار والثمار والمطر والثلج، وأوراق الأشجار حين تلهو بها الريح، والطيور المحلّقة تحت سماء متغيّرة بتغيّر الفصول، حيث يتجلّى الضباب والضوء الخافت والشمس الساطعة في سماء تتلبّد حينا وتنقشع عنها الغيوم حينا آخر.
فقد ركّز على الضوء خلال التغيّرات الجوية مستعملا ألوانا مشعّة، مكهربة، قريبة من البوب آرت، مستغلا كالعادة ما تثبته آلته من صور يبدو فيها الزمن معلّقا، وكأنه يمسك باللحظة الهاربة، ثم يعيد صياغتها في لوحة تدعو الناظر إلى التقاط عناصر الجمال فيها.
في هذه الجدارية التي أطلق عليها “سنة في نورمانديا”، استطاع هوكني التقاط الضوء العابر على الطبيعة المتغيّرة، والإمساك بذبذبة السماء ونعومة أشعّة الشمس، مبرزا أثر الزمن على محيطه. وقد بدا اللون مضيئا في عمومه واللمسة ساطعة، في تعبير مدهش عن افتتانه بموضوعه متعدّد الألوان.
أبو بكر العيادي