لكيميرا الدقيقة (microchimerism)؛ سبب من أسباب الأمراض المناعية الذاتية عند النساء:
يشير مصطلح الكيميرا الدقيقة (Microchimerism) إلى استضافة عدد صغير من الخلايا أو من الأحماض النووية في الجسم والتي نشأت من فرد مختلف، يكسب الجسم ذلك طبيعيًّا في خلال الحمل؛ إذ تنتقل إلى جسم الأم خلايا من أصل جنيني، ويكتسب الجنين بدوره خلايا من مصدر أمومي (3-1)، فتحدث حركة الخلايا في أثناء الحمل البشري الطبيعي بين الجنين والأم مع نقل أكبر -كميًّا- في الاتجاه من الجنين إلى الأم.
تشير الأبحاث الاستقصائية الحديثة إلى أن مستوى منخفض من خلايا الجنين يستمر عادةً في الدورة الدموية للأم سنواتٍ أو حتى إلى أجل غير مسمى بعد اكتمال الحمل، وإنَّ المعرفة الحديثة بشأن الكيميرا الطبيعية للجنين والأمهات تثير التساؤلات عن المناعة الذاتية؛ فهل يمكن أن تكون المناعة الذاتية ذات مصدر أجنبي في حقيقتها؟؛ أي سببها خلايا أو أجزاء غريبة انتقلت إلى الجسم في خلال الحمل؟ (1)
إن المعرفة بشأن الخلايا المستضافة في جسم الأم على المدى الطويل يثير التساؤل عما إذا كانت هذه الخلايا تؤثر في الصحة الطويلة المدى وكيف تؤثر؟ (3)، فخلايا الجسم الطبيعي تملك مستقبلاتٍ بروتينية على سطحها، مستضدات تفرق الذات عن الآخر وتدعى بجزيئات (Human leukocyte antigens - HLA) أي مستضدات كريات الدم البيضاء البشرية، والتي تؤدي دورًا مهمًّا في المرض والدفاع المناعي، فهي مفيدة لجهاز المناعة ولكن يمكن أن يكون لها آثارٌ ضارة أيضًا (4)، والفرضية الأساسية المتعلقة بالكيميرا الدقيقة وحدوث أمراض المناعة الذاتية هي أن لجزيئات (HLA) دورًا في العلاقة بين الخلايا المضيفة والخلايا المستضافة والتي لها أهمية مركزية في تحديد القدرة المُمرضة للخلايا المستضافة في جسم الأم (2). فحين توجد خلايا مستضافة في الجسم تُنشط الخلايا التائية بسبب التفاعل بين مستقبلات الخلايا التائية وجزيئات الـ (HLA) على سطح الخلايا المستضافة، إضافة إلى تفعيل الخلايا التائية المساعدة ومن ثم إفراز الأضداد لتشارك في العملية الالتهابية (4).
تحققت عدد من الدراسات من الدور المُحتمل للكيميرا الدقيقة في إصابة الجسم بأمراض المناعة الذاتية بما في ذلك الصلابة الجهازية (systemic sclerosis - SSc)، وتشمُّع الطرق الصفراوية البدئي (primarybiliary cirrhosis - PBC)، ومتلازمة جوغرن (Sjo ̈gren’s syndrome) التي تتميز بجفاف في الفم والعين، واندفاعات الحمل المتعددة الأشكال (polymorphic eruption of pregnancy)، وأمراض الغدة الدرقية (thyroid disease).
كانت الدراسة الأولى التي وصفت الكيميرا الدقيقة في مرض بشري هي دراسة كمية للكيميرا الدقيقة الجنينية لدى مرضى يعانون التصلبَ الجهازي (1)؛ وهو مرض مناعي ذاتي يصيب الجلد والقلب والرئتين (2) والذي يُعرف بذروة حدوث في خلال فترة النشاط الجنسي للمرأة. صُممت الدراسة لتكون مقارنة مع مجموعة مطابقة من النساء الأصحاء، وضمت الدراسة النساءَ اللواتي أنجبن ابنًا واحدًا على الأقل، ثم قُدِّر الحمض النووي الذكري، ووُجد أنه موجود بكمية أكبر لدى تلك المصابات بالصلابة الجهازية مقارنةً مع غيرهن من النساء الأصحاء (1).
كذلك تحققوا من العلاقة بين (HLA) الأم والجنين؛ فكان الاستنتاج بأن الأطفال الذين يحملون نوعَ (HLA-DRB1) يزيدون نسبةَ الخطر لدى الأمهات اللواتي أنجبنَهم بالإصابة بالصلابة الجهازية بمقدار تسعة أضعاف تقريبًا (2).
وفيما يخص تشمع الطرق الصفراوية البدئي والذي يُعرف بأنه مرض مناعي ذاتي بطيء التطور؛ فإنه يسبب ركودةً صفراويةً وحكةً وينتهي بتشمع الكبد (5) ويحدث غالبًا لدى النساء في سن النشاط التناسلي. ووصفت إحدى الدراسات اختلافًا كبيرًا عندما فُحِص كبد النساء ذوات الأبناء بحثًا عن الخلايا الذكرية بعد انتقال الخلايا المستضافة إلى الأم باستخدام مجسات خاصة بالصبغي X وY.
وفي دراسة أجريت بعناية لعينات من خزعات الجلد من النساء المصابات باندفاعات الحمل المتعددة الأشكال -وهو اضطراب جلدي يحدث في أثناء الحمل- عُثر على الحمض النووي للذكور في المرضى، ووصفت إحدى الدراسات التي أجريت على أنسجة الغدة الدرقية الحمضَ النووي الذكري في كثير من الأحيان لدى النساء المصابات بداء هاشيموتو؛ وهو مرض مناعي ذاتي يسبب التهابًا في الغدة الدرقية.
والسؤال يبقى؛ هل جميع النساء معرضات للإصابة بهذه الأمراض بعد الحمل؟ (2)
تختلف الأم وجنينها غالبًا بأنواع الـ (HLA) لأن جينات (HLA) متعددة الأشكال على نحو كبير، ويحدث في هذه الحالة نمطان من الاستجابة: الأول بالمسار المباشر الذي تتعرف فيه الخلايا المضيفة إلى جزيئات (HLA) الخاصة بالخلايا الضيفة، وهنا يبرز دور خلية "الفيتو"؛ وهي خلية يمكنها تعطيل الخلية التائية التي تتفاعل معها. يختلف المسار المباشر عن المسار غير المباشر الذي تُقدم فيه الجزيئات غير المضيفة إلى الخلايا المضيفة ويحدث الالتهاب (3).
كذلك يمكن أن تسبب الكيميرا الدقيقة أمراضًا مناعيةً ذاتيةً عند الأبناء بسبب انتقال الخلايا الأمومية إليهم في أثناء الحمل، فقد أُبلغ عن وجود الخلايا الأمومية بوصفها خلايا عضويةً خاصةً متمايزةً في الأطفال المصابين بمرض المناعة الذاتية المكتسب سلبيًّا؛ مثل الذئبة الوليدية، إذ تُعُرِّفَ في العضلة القلبية إلى الخلايا الأمومية عند بعض الرضع الذكور الذين توفوا بسبب حصار قلبي (3).
يمكن أن تحدث الأمراض المناعية الذاتية نتيجةَ عدة أسباب ومنها الكيميرا الدقيقة، وإن معرفة الآليات التي تساهم بحدوثها قد تمكن الطب الحديث من إيجاد طرائق ووسائل قد تمنع حدوثها..
المصادر:
1- Nelson JL. Microchimerism in Human Health and Disease. Autoimmunity. 2003 Jan 1;36(1):5–9. Available from: هنا
2- J.Lee Nelson. 2002. Microchimerism: incidental byproduct of pregnancy or active participant in human health?. Trends in Molecular Medicine, Volume 8, Issue 3. Available from: هنا
3- J.Lee Nelson. 2012. The otherness of self: microchimerism in health and disease. Trends in Molecular Medicine, Volume 33, Issue 8. Available from: هنا
4- Nordquist H, Jamil RT. Biochemistry, HLA Antigens. 2019. Treasure Island (FL): StatPearls Publishing. Available from: هنا
5- Primary biliary cholangitis [Internet]. Mayo Clinic. 2018 [cited 2020 Oct 16]. Available from: هنا