استُخدمت الكهرباء عبر التاريخ لعلاج الأمراض التي تصيب الإنسان، و يمكن القول إن أول نهج موثق يعود إلى Scribonius Largus، وهو طبيب الإمبراطور الروماني Claudius حين استخدم Scribonius سمكة طوربيد حيّة لعلاج النقرس في حوالي عام 50 م، ويعد النقرس شكلًا من أشكال التهاب المفاصل المزمن، وفي عام 2016 أعيد استخدام الكهرباء لعلاج التهاب المفاصل مرة أخرى، وهذه المرة استُخدم جهاز إلكتروني متصل بعصب رئيس (العصب المبهم)؛ إذ تبيّن أن العصب المبهم ينظم الالتهاب من خلال آلية فيزيولوجية تدعى "المنعكس الالتهابي" (1).
يشير مصطلح الطب الحيوي الإلكتروني إلى استخدام أجهزة طبية إلكترونية قابلة للزرع تعمل بوصفها حلقة وصل فيزيائية بين الجهاز العصبي الطبيعي وأجهزة حوسبة من صنع الإنسان (2)، وتعتمد تلك العملية اكتشافَ النشاط الكهربائي للخلايا العصبية الذي يعد أمرًا أساسيًّا لنقل المعلومات التي تنظم عددًا لا يحصى من العمليات الفيزيولوجية، ويرتبط فشل التنظيم العصبي بعديد من الاضطرابات (1).
يحتل الطب الحيوي الإلكتروني (bioelectronic medicine) الطليعة في تدبير كثير من الأمراض وعلاجها، وتلتقي مجموعة من العلوم في مجال الطب الحيوي الإلكتروني بما فيها الطب الجزيئي وعلم الأعصاب والهندسة والحوسبة، كذلك يُعتمد تطوير أجهزة إلكترونية لتعديل آليات التحكم العصبي في عديد من الأمراض، ومن الممكن اعتماده بصفته علاجًا بديلًا عن الأدوية (3).
ما دور العصب المبهم في تنظيم الالتهاب؟
يعد العصب المبهم عصبًا مختلطًا؛ أي يحتوي أليافًا صادرة وأليافًا واردة من الجملة العصبية المركزية وإليها؛ إذ ترتبط الوظائف الفيزيولوجية الرئيسة للعصب المبهم بتنظيم معدل ضربات القلب وحركة الجهاز الهضمي وإفرازه وإنتاج السكر في الكبد وإفراز الغدد الصماء ومفرزات البنكرياس الخارجية، ومن ثم توصِل الخلايا العصبية الخاصة بهذا العصب معلوماتٍ عن التغيرات التي تحدث في الأحشاء إلى الجملة العصبية المركزية، كذلك وُصف هذا العصب بأنه منظم الالتهاب الرئيس (1).
ويُعد الالتهاب حدثًا فيزيولوجيًا يهدف إلى محاربة الأذية أو الإنتان الذي يصيب الأنسجة، ويشتمل الالتهاب تنشيط الخلايا لإنتاج السيتوكينات، لكن قد يؤدي اضطراب تنظيم الآليات الكامنة وراء هذا المسار الطبيعي والمفيد إلى حدوث التهاب مزمن مفرط قد يكون ضارًّا وقاتلًا، ومن الأمثلة على الأذيات الالتهابية المزمنة التهاب المفاصل الروماتوئيدي والداء المعوي الالتهابي (IBD) والسمنة والمتلازمة الاستقلابية والسكري من النمط الثاني والسرطان؛ لذلك فإن تحسين فهم الآليات التي تنظم الالتهاب يعد شرطًا أساسيًّا في تطوير أساليب فعالة لتشخيص مجموعة واسعة من الأمراض والوقاية منها وعلاجها (1).
في حال وجود التهاب فعال كما يحدث في الأمراض الالتهابية المزمنة السابقة الذكر يُحفز نشاط ألياف العصب المبهم الواردة من الأحشاء، ثم تنتقل الإشارة إلى جذع الدماغ، ثم تعود من جديد عبر الألياف الصادرة للعصب المبهم، حينئذٍ تتفاعل النواقل العصبية مع مستقبلاتها وتثبط الالتهاب الفعال مما يساعد على إدارة المرض ومعالجته (1).
كيف يمكن للتقدم في مجال الطب الحيوي الإلكتروني بتحفيز العصب المبهم أن يسهم في تخفيف الالتهاب وعلاج الأمراض؟
بدأت الدراسات منذ أكثر من 20 عامًا من أجل توسيع المعرفة حول العصب المبهم من خلال الكشف عن دور هذا العصب في تنظيم المناعة والالتهاب، واستَخدمت التجارب السريرية الأولى الأجهزةَ المزروعة لتحفيز العصب المبهم، وحصلت سابقًا على الموافقة لعلاج الصرع والاكتئاب سريريًّا (4)، ففي عديد من الأمراض يترافق الالتهاب المفرط مع انخفاض نشاط العصب المبهم، وكانت نتائج عديد من الدراسات السريريّة واعدة في تحسين عدد من الأمراض مثل المرضى الذين يعانون مرضَ التهاب المفاصل الروماتوئيدي وداء كرون (1).
يعد داء كرون شكلًا من أشكال الداء المعوي الالتهابي يعاني فيه المرضى التهابًا مزمنًا في الأمعاء، ويرتبط المرض بخيارات علاجية دوائية ذات آثار ضارة جدًا، وقد أظهرت دراسة حديثة نسبيًّا أن استخدام جهاز مزروع ساعد على تخفيف حدة داء كرون عبرَ انخفاض مؤشر نشاط المرض وتحسن نتائج التنظير الهضمي في خمسة من أصل سبعة مرضى يعانونه (1).
وفي مثال آخر، يعد التهاب المفاصل الروماتوئيدي مرضًا مناعيًّا ذاتيًّا مزمنًا يتميز بألم وتروم في المفاصل وإعاقات كبيرة، ويمكن للأدوية تخفيف الأعراض في ما يصل إلى 50٪ من المرضى، لكن ليس هناك علاجات فعالة عالميًا، وقد أثبتت النتائج أن تحفيز العصب المبهم الذي يستهدف المنعكس الالتهابي يعدل الالتهابَ (5)، فمن خلال جهاز مزروع في المرضى يعمل على تحفيز العصب المبهم الإلكتروني (حتى أربع مرات يوميًّا) تبيّن حدوث تحسن ملحوظ في درجات المرض مدة تصل إلى 84 يومًا، وأدى انقطاع العلاج بالتحفيز المبهم إلى تفاقم درجة المرض (1)، فتشير هذه النتائج إلى أنه من الممكن استخدام أجهزة تعديل الأعصاب -بناء على تجربة علاج التهاب المفاصل الروماتوئيدي- في علاج أمراض المناعة الذاتية الأخرى (5).
في النهاية، يحمل تحفيز العصب المبهم القدرة على توفير وسائل فعالة لعلاج مجموعة واسعة من الاضطرابات المرضية، و يشكل جزءًا من مجال الطب الحيوي الالكتروني (1)، كذلك قد أسهمت الدراسات السريرية إسهامًا كبيرًا في كشف علاقة العصب المبهم بتثبيط الالتهاب بصفته علاجًا للعديد من الأمراض، ويمكن أن تكون هذه القفزة بديلًا عن العقاقير الصيدلانية التي تفتقر غالبًا إلى الخصوصية التشريحية والخلوية، مما قد يؤدي إلى تأثيرات غير مرغوبة (3).
المصادر:
1)Pavlov VA, Chavan SS, Tracey KJ. Bioelectronic Medicine: From Preclinical Studies on the Inflammatory Reflex to New Approaches in Disease Diagnosis and Treatment. Cold Spring Harb Perspect Med. 2020 Jan 3;10(3):a034140. هنا
2)Bettinger C. Recent advances in materials and flexible electronics for peripheral nerve interfaces. Bioelectronic Medicine. 2018;4(1). doiهنا
3) Olofsson PS, Tracey KJ. Bioelectron icmedicine:technology targeting molecular mechanisms for therapy. J Intern Med. 2017 Jul;282(1):3–4. هنا
4)Pavlov VA. Collateral benefits of studying the vagus nerve in bioelectronic medicine. Bioelectronic Medicine. 2019 May 16;5(1):5. doiهنا
5)Koopman F, Chavan S, Miljko S, Grazio S, Sokolovic S, Schuurman P et al. Vagus nerve stimulation inhibits cytokine production and attenuates disease severity in rheumatoid arthritis. Proceedings of the National Academy of Sciences. 2016;113(29):8284-8289. doi: هنا