10 مشاهد لا تنسى في أفلام محمد خان
أحمد شوقي
لأن أفلامه محفورة داخل وجداننا، ولأنها تتمتع بهذا الحس الحميمي الذي يجعل كل مشاهد يشعر وأن الفيلم يخاطبه شخصيا، فقد أصبح لكل منّا لحظاته المفضلة، ومشاهده التي تقفز لذهنه كلما فكر في عوالم محمد خان. الأمر لم يحتج للكثير من المجهود، فقط كتبت سؤالا بسيطا على أحد مواقع التواصل الاجتماعي أطلب فيه أن يذكر كل شخصه مشهده المفضل من سينما خان، لتنهال عشرات الإجابات، حاملة قائمة ممتدة من مشاهد أيقونية حفرت مكانها في الأذهان، قائمة أكبر من جمعها في مكان واحد، لذلك فقد منحت نفسي ترف الاختيار من بينها، لأذيل دراستي عن المخرج الكبير بمحاولة لتذكر أقل القليل من إسهامه السينمائي الضخم، محاولا استغلال الحب الذي يحمله كل شخص لأحد هذه المشاهد أو لجميعها، في إضفاء قيمة على هذه الدراسة التي لم تكن لتوجد لولا وجود خان بيننا. وسأذكر أسم من اختار كل مشهد من المشاهد العشرة، كتحية لجيل تربى على سينما خان، ولفتة شكر لكل من أثروا ذاكرتي بهذا القدر من اللحظات السينمائية التي لا تنسى.
(1) حوار بالعيون وطائران – طائر على الطريق
(اختار المشهد الناقد رامي عبد الرازق)
بعد أن تحمل سخافات زوجها الإقطاعي العصبي، واستمع لتحذيرات السائق العجوز وهو يصر على الذهاب مجددا ليحضرها بسبب قوة تدفعه لا يمكنه فهمها، وبعد أن حاولت هي التملص من الذهاب معه لعلمها بأن شيئا ما يتحرك داخلها تجاهه، وبعد أن تم حجز الزوج للعلاج في القاهرة، يجد فارس نفسه لأول مرة وحيدا مع فوزية في سيارته. يمد يديه ليستخدم الأداة الدرامية الأهم في المشهد وفي الفيلم ككل: المرآة، يعدل من وضع مرآة السيارة الجانبية والداخلية، ليوجه الأثنين نحو عيني الزوجة الجميلة والحزينة، ليدور بينهما حوار بالعيون، ليصله عذابها وحياتها التعيسة، فما يكون منه إلا أن يبدأ حديثه معها بأغرب جملة ممكنة: أنا آسف.
فارس تأسف لفوزية على حزنها، على الهم الذي تحمله رغما عنها، وعن حياتها مع رجل متسلط عسير المعاشرة كزوجها، ليتزامن الأمر مع تخطي فارس لجنديين يشيران له بالوقوف، معتبرا الأمر احتراما للسيدة، ولكن هذا التصرف يثير فيها الذكريات، لتبدأ مع تصاعد موسيقى كمال بكير الحزينة في إلقاء تساؤلات تخيلية، لا يمكن إلا أن تكون عن حبيب قديم حُرمت منه لصالح زيجتها التعيسة، لتخرج الكاميرا وترصد السيارة من الخارج، تقطع الطريق قطعا، وداخلها طائرين: أحدهما الطائر على الطريق الذي وجد حبه أخيرا، وثانيهما طائر حبيس في قفص ذهبي، دفعته الظروف للتعاسة، ودفعه الحب للثورة عليها.
(2) قتل وانتحار ومسقعة – موعد على العشاء
(اختار المشهد المخرجة نادين خان، السينارست تامر حبيب، المخرج محمد جمال العدل، والمخرجة عرب لطفي)
انتهي كل شيء لدى نوال بموت حبيبها وزوجها الثاني شكري بأوامر زوجها الأول عزت، هي الوحيدة التي تملك اليقين بأنه هو القاتل، لكنه أمّن موقفه جيدا وسافر للخارج وقت الجريمة، فتطلب نوال من السكرتيرة أن تجعله يتصل بها فور عودته. الطلب يشعر الرجل المهووس بالامتلاك أنه قد انتصر، كيف لا وقد حصل على كل شيء من قبل بالقوة دون حساب؟
تحدد نوال موعدا للقاء في منزل الزوجية، وتذهب للتسوق فتشتري باذنجان وخضروات، وعلبة من السم!.. ليبدأ التتابع البديع الذي يستمر لأثنتي عشر دقيقة كاملة. بهدوء ممزوج بالحسرة واللذة تعد نوال المسقعة التي يحبها عزت، مرتدية فستان داكن يوحي بحداد مكتوم، تخلط كل شيء وترش السم ثم تضعه بالفرن، ودقات البيانو المتثاقلة تنقل لنا شعور الترقب. تغير ملابسها لترتدي تايير يعطي انطباع باستقبال شخص عزيز، وتخرج لعزت الذي فتح الشقة بمفتاحه ودخلها بأريحية. التايير يسعد عزت فهو من اشتراه لها، ولونه الأزرق الصاخب يجعل صاحبته لامعة داخل المشهد وهي تعترف لزوجها السابق بأنها قد استسلمت له، لتأخذه الجلالة ويظهر ما يبطنه من استحالة استغناءه عن ملكية زوجته الجميلة، وعندما يرغب في تقبيلها بشغف من لا يعرف مصيره، لكنها تصر على العشاء قبل أي شيء.
الثقة والغرور يجعلانه يأكل باطمئنان، ولكن ذكره لشكري يصيبها بالاضطراب فيبدو عليها القلق، يتسرب قليل من الشك لعزت فيصر على أن تأكل أمامه من المسقعة، تتردد للحظة واحدة قبل أن تمد يدها لتغترف من الأكل وعينيها في عينيه، ثم تصعد الكاميرا بهدوء لتتابعها وهي تأكل دون تردد، الصمت يخيم على كل شيء ويجعل المشاهد جالسا على أعصابه، أما نوال نفسها فلم تعد بنفس القلق، فقد حسمت أمرها وانتهى الأمر: حياتها ثمن بخس مقابل الانتقام ممن دمر هذه الحياة. تأكل بنهم يدفع عزت للاطمئنان فيأكل هو الآخر مبديا إعجابه بالطعم، وعندما تتأكد نوال من أنه أكل كمية كافية لتحقيق هدفها، تخبره بهدوء شديد بوجود السم في الطعام.
عبقرية المشهد تنبع في الحفاظ من اللحظة الأولى وحتى النهاية على هذه الشحنة العاطفية المركبة، والتي تجمع بين منتهى التوتر ومنتهى الهدوء، والتي تتوج بعد اعتراف نوال بثبوت وضع البطلين، ثم القطع على زاوية ترصدهما من مكان أبعد، ثم أبعد، ثم ترصد صورة زواجهما على الحائط بعدما صارا بالفعل مجرد ذكرى.
(3) المباراة الأخيرة – الحريف
(اختار المشهد المخرج أمير رمسيس، السينارست محمد سليمان عبد المالك، الناقد محمد عاطف، والممثل وليد فواز)
لم يعد من الممكن أن يبقى الحال كما هو عليه، فارس تمكن أخيرا من كسر جبل الجليد بينه وبين دلال بقبلة المطبخ التي لا تنسى، ويستعد لوظيفة انفتاحية ستغير حياته للأبد، شاهد ماضيه في الحريف الجديد الذي يستعد لتدشين موهبته، وشاهد مستقبله لو استمرت حياته على وضعها السابق في الكابتن القديم مورو وحكاية يرويها له عن حريف آخر تحول لمدمن. فيقرر أن يكون اليوم التالي هو يوم التغيير.
يأخذ دلال وبكر ووالده وزوجته لرحلة للأسكندرية، ولكن قبلها يجب أن يلعب مباراة الوداع. يسخر منه سمسار المباريات الأعرج متحدثا عن الحريف (القديم والجديد)، وفارس يقرر ألا يترك الساحة مهزوما في الملعب، ولا يترك الحياة مهزوما بالاستسلام لمصير الكباتن السابقين. يعلي من قيمة التحدي عندما يصر على اللعب مع الفريق الخاسر ضد الحريف الجديد، وصيحات المشجعين تتصاعد لتملأ ميدان عبد المنعم رياض، بينما تتنقل الكاميرا لرصد أطفال يأكلون في الشارع، ربما يصير أحدهم بعد سنوات حريف المستقبل الذي يستلم الراية. يبدأ فارس اللعب وفي الخلفية موسيقى “الشوارع حواديت”، ليسجل هدفا تلو الآخر حتى يدرك التعادل.
السمسار يصرخ مطالبا الحكم بإنهاء المباراة، ولكن الحكم يتواطأ بمنح الحريف فرصته الأخيرة، نسمع صوت لهاثه يتصاعد، لننتقل من موقع الراصد لنصبح داخل فارس نفسه، نشعر بأنفاسه وهو مقدم على آخر تسديدة في حياته، يمر من لاعب تلو الآخر حتى يسجل الهدف الأكثر إهانة للخصم: يدخل المرمى بالكرة، يحتضنه بكر ويسأله عما إذا كان سيلعب من جديد، فيرد فارس “خلاص يا بكر.. زمن اللعب راح”، فمن هذه اللحظة لم يعد فارس الحريف، ولكنه نضج أخيرا وقرر خوض لعبة الحياة بقواعدها الجديد.
(4) هذه ليست أمريكا – مشوار عمر
(اختار المشهد وقدم فكرة تحليله الصوتي رسام الكوميكس ومصمم الأزياء أيمن الزرقاني)
في منتصف الفيلم بالضبط، وبعد أن تمكن عامل البنزينة القروي الساذج من إنقاذ عمر الثري الذي لم يعتد أن يرى العالم إلا من وراء زجاج سيارته الفارهة، ليكتشف أن هناك من هم مستعدين لقطع أطرافه فقط ليسرقوا خاتما ذهبيا من أصبعه. عمر يكتشف أنه هش رغم كل مظاهر القوة البادية عليه، أنه معدوم الخبرة يحتاج لمن يحمي ظهره في هذه البيئة القروية الموحشة، ولكنه يحتاج أيضا ـ وهو الأهم ـ لشخص كعامل البنزينة، واسمه عمر أيضا، ليمارس عليه ألاعيبه البرجوازية. عمر بحاجة في ضعفه النفسي لشخص يجلس بجواره منبهرا بكل ما يفعله، شخص ترتفع حواجبه للسماء عندما يفتح الثري سقف سيارته، ولهذا يعرض عليه أن يعمل معه، مساعدا أو سكرتيرا أو أيا كان المسمى، المهم هو تواجد هذا الإنسان ليلعب دوره في إنقاذ البقية الباقية من انضباط عمر النفسي.
خلال عرض الوظيفة على العامل يتصاعد صوت راديو مونت كارلو بأغنية دافيد بوي الشهيرة “هذه ليست أمريكا”، موسيقى دالة على تكوين البطل النفسي، وكلماتها التي تقول “جزء صغير منك وسلام صغير بداخلي.. سيموتان”، تعبر بأفضل صورة ممكنة عن حال عمر وعمر. يصلان للبنزينة فينزل العامل لمواجهة رئيسه الغبي، الذي لا ينتبه ويكيل له السباب، فيرد عليه عمر برمي دراجة العمل في وجهة والرحيل، بينما يتصاعد من راديو محطة البنزين صوت سعاد حسني يغني “الدنيا ربيع والجو بديع”، وبتطابق لالالالالا التي تقولها سعاد مع Sha-la-la-la-la التي يقولها دافيد بوي، نعرف أن طريق العمرين قد أصبح واحدا، ولو بشكل مؤقت.
(5) سيارة معطلة وثمرة يوسفي – خرج ولم يعد
(اختار المشهد المخرج محسن عبد الغني والناقد رامي المتولي)
ماذا تفعل لو كنت سائرا بسيارتك وتعطلت فجأة؟ هناك العديد من الاحتمالات الممكنة، لكم ما لا يمكن تصوره هو أن تقوم بهدوء بفتح باب السيارة واستخدامه ككرسي تجلس عليه تأكل ثمرة شهية من اليوسفي. التصرف الذي قام به كمال بك بتلقائية وخفة ظل يعكس بهدوء طبيعة العالم الذي وجد عطية نفسه واقعا فيه، قبل أن يصبح واقعا في هواه. عطية الذي تعلم في المدينة أن تكون كل التصرفات منطقية بشكل براجماتي لا يتخيل مثل هذا التصرف، وعندما يأتي ليسأل البك عما حدث يأمره الأخير بأن يفتح الباب الخلفي ويجلس ليتحدث معه.
لا مكان هنا لحسابات الوقت التقليدية، ولا لتبديل السيارة العتيقة بأخرى أحدث لن تفيد صاحبها بشيء سوى التظاهر، وليس البك بحاجة لطلب المساعدة لأنه يعلم أن أحدهم سيمر بالتأكيد خلال دقائق بجرار ليسحب العربة، لذلك فبينما يفكر عطية في عمر السيارة وكيفية إصلاحها، وفي موعد بيع الأرض وقبض المال ليعود للقاهرة التي لم يعش خارجها، يحدثه كمال بك عن أمور أخرى، عن السعادة في الريف التي لا تقارن حتى بالعيش في أوروبا، وعن رغبته في وجود صديق بجواره، ليطلب من عطية البقاء ليومين أو ثلاثة فقط، ولكنه يختم حديثه بأنه سيجعله يتذوق أفضل خوخ في مصر خلال الصيف القادم، فهو يعلم جيدا أن اليومين اللذين سيوافق عطية على قضاءهما مجبرا، سيتحولان لفترة أكبر بكثير مما يعتقد!
(6) غرف خاوية – عودة مواطن
(اختار المشهد السينارست محمد أمين راضي)
بعد أعوام من الغياب في الخليج عاد شاكر إلى أشقاءه الأربعة حاملا الكثير من الأحلام، واهما أنه لا يزال مؤثرا في حياتهم كما كان قبل أن يهجر البلاد، دون أن يتصور أن الغياب الجسدي يصاحبه غياب معنوي، وأنه صار في أذهانهم مجرد غريب أتى لحياتهم ليس من حقه التدخل فيها، أو مصدر للمال اللازم لبدء مشروع ما، أو رفيق ثرثرة لتفريغ بعض الإحباطات والرغبات المكبوتة. الأمر لا يقتصر على المنزل، بل يجد شاكر نفسه منتزعا من كل شيء، عمله السابق تحول لكباريه، وحبيبته السابقة تزوجت من صاحب الكباريه، والمقاول الذي اشترى منه شقة اتضح كونه نصابا أخذ منه المال وهرب.
شاكر المصدوم في كل من حوله يحاول أن يلوذ بفكرة الصحبة، يتمسك بمنزل العائلة ويرغب في مشاهدة شقيقيه وشقيقتيه حوله، ولكنه حلم مستحيل في ظل امتلاك كل منهم لحياته الخاصة التي اكتشف الأخ الأكبر أنه لا يعلم عنها شيئا. فوزية تأخذ منه المال لتؤسس مشروعها وتستقل بحياتها، ونجوى تتزوج من حبيبها بعد أن أجرا معا شقة وقاما بتأسيسها دون أن يضعا موافقة شاكر أو عدمها في اعتبارهما، وابراهيم يدخل مصحة للعلاج من الإدمان الذي تحول إليه بسبب البطالة والإحباط، وحتى مهدي الذي كان يراه مصدرا للأمل والتفاؤل، يدخل السجن بعد اكتشاف عضويته في تنظيم سياسي سري.
الضربات المتتالية لتصور شاكر عن العالم تجعل تنهي حتى الصحبة المزعومة في منزل العائلة، ليجد نفسه لأول مرة منذ عودته وحده تماما في المنزل الكبير. يدخل شاكر المنزل الخالي الذي يسيطر عليه الظلام على العكس من حالته السابقة، ينير شاكر الردهة ثم يفتح باب غرفة الفتيات، يمسحها بعينيه ليمر على صورة فوزية ونجوى في الطفولة المعلقة على الحائط، يتجه لغرفة الأولاد فيمسحها من جديد ليشاهد لوحات مهدي ورقعة شطرنج ابراهيم والسرير الذي كان يقضي جل وقته نائما عليه. ثم تبدأ الكاميرا عملية مسح ثالثة لغرفة الوالدين التي صارت غرفة الأبن الأكبر، التلفزيون العتيق وصورة الزفاف الآتية من زمن ماض وكل ما في الغرفة يؤكد أن الوقت قد فات. ليلقي شاكر نفسه على السرير في استسلام للوحدة التي لم يكن يتوقعها.
(7) الخروج الأخير – زوجة رجل مهم
(اختار المشهد الناقد أسامة عبد الفتاح، المؤلف ميشيل نبيل، مصممة الديكور نورا ناجي، والمخرج هادي محمود)
كل الأقنعة سقطت عن بكرة أبيها، ولم تعد هناك أي مساحة للخداع أو للتواطؤ أو حتى للتعاطف بين منى وزوجها هشام الذي كان رجلا مهما. العالم كله صار يعلم أن هشام تم فصله من الخدمة بسبب تعامله الوحشي مع انتفاضة يناير، ومحاولاته اليائسة للتظاهر بأن أمرا لم يكن فشلت بجدارة، وحتى الحد الأدنى من احترام الموقف الذي حاولت منى أن تتمسك به، انتهى أمره عندما وقف هشام يتظاهر بالغضب لأن زوجته تأخذ مالا من والدها، لتصدمه بالحقيقة التي ينكرها، وهي أن معاشه الشهري لا يكفي احتياجات المنزل وأنها تستدين لتطعمه، ثم تقرأ له الجريدة بحيثيات الحكم التي تؤكد تورطه في تلفيق التهم وتنهي فرص عودته للعمل، وعندما يبدأ في ضربها لا تجد ما تفعله إلا اللجوء لجارتها.
التتابع يبدأ بهشام مهندما يرتدي حلة أنيقة ويصفف شعره، يدق باب الجارة ويطلب منها إبلاغ منى باعتذاره ودعوته لها على العشاء، يأخذها ليشتري لها حذاءا جديدا ثم لمطعم يتناولان فيه وجبة من اللحم تعيد ذكريات خطوبتهما عندما كان يحاول إبهارها بقدراته. الموسيقى تنذر بوقوع شيء ما خاصة وأنهما لا يتبادلان أي جملة حوار في الخروج الذي يفترض أن يرآب الصدع بينهما. تطفئ منى سيجارتها لنرى انعكاسها في زجاج نظارة هشام الذي ينظر لها نظرة من يقوم بالانتقام، فشهوة الشعور بالسطوة أصبحت مرضا يفوق أي تعاطف إنساني. تكتشف منى ما حدث عندما يعودان للمنزل لتجد شقة جارتها وقد أغلقت بالشمع الأحمر، لتعلم أن دعوة هشام لها كانت لإبعادها عن الشقة التي أبلغ عن كونها وكرا للقمار، فقط لينتقم من المرأة التي فتحت بابها لتنقذ زوجته من براثنه.
التتابع المصنوع بعناية وظفت فيها أحجام اللقطات وتكوينها والموسيقى التصويرية بأفضل صورة ممكنة لبناء شحنة من الترقب والقلق تتناقض مع مضمون المشاهد نفسها التي تبدو كخروجة عادية، يعد بمثابة تمهيد مثالي لمشهد النهاية الذي يليه، والذي يقوم فيه هشام بإنهاء حياته منتحرا بعدما قاده جنونه للمزيد من الجرائم.
(8) سيجارة للماضي – أحلام هند وكاميليا
(اختار المشهد المخرج محمد مصطفى والمونتيرة منة بيومي)
بعد أن قضى عمره بالكامل صعلوكا بلا جذور ولا التزام وقف عيد لأول مرة على أرض صلبة، لأول مرة يشعر بالالتزام وأن حياته يجب أن تتغير فعليا بعدما صارت الرضيعة أحلام مسؤولة منه، فلم يعد من الممكن أن يظل هائما يعيش اللحظة بلحظتها ولا يكترث لأي شخص آخر كما اعتاد طوال السنوات الماضية، وعليه أن يحاول العيش بصورة أو بأخرى مثل البشر الطبيعيين، وهو ما يظهر عندما يتنازل لأول مرة عن أحد مكتسباته الشخصية لغيره طواعية، فيصر أن تبقى كاميليا لتقضي الليلة في غرفة الزوجية مع هند لترعاها بعد الولادة، متطوعا بالنوم فوق سطح المنزل.
الدهشة التي ظهرت في عيني عيد منذ أن شاهد ابنته الرضيعة واستمرت خلال وجوده في مشهد القهوة، والذي أظهر فيه أول ملامح رغبة في تأمين المستقبل، تستمر بادية عليه وهو صاعد للسطح المظلم، والذي يستخدم المخرج دلالته المكانية لتوضيح موقف عيد الذي انتقل أخيرا من العيش كالفأر الذي يتحرك في المتاهة بلا بوصلة، إلى النظر للعالم من أعلى والتفكير في نمط جديد للحياة، شريط الصوت يمزج بعبقرية كالعادة أغنية “الدور الدور موعودة ياللي عليكي الدور” مع سارينة سيارة شرطة مع أصوات الشارع والحديث بين الجيران. ابتسامة مشفقة ترسم على وجه عيد عندما يرصد شابا يشير لحبيبته التي تقف له خلسة في الشباك ليضرب لها موعدا، تم تتسع ابتسامته عندما يلمح طفلا مشاغبا يسرق بطة ويهرب بها فتهبط البطة على رأس العاشق المنتظر.
اللص الصغير يختبئ وراء سيارة تقف أمام عيد بالضبط، يخرج سيجارة من جيبه ليشربها، يبحث يمينا ويسارا عن عود ثقاب ليشعلها فلا يجد، وبمنتهى التلقائية يلقي عيد سيجارته المشتعلة للصبي الذي وجد النجدة آتية من السماء، وعندما ينظر الصبي لأعلى ليرى صاحب السيجارة يسرع عيد بالتراجع حتى لا يراه، مرددا بصوت خفيض عبارته الأثيرة “مسيرها تروق وتحلى”.
عيد رأى ماضيه متجسدا في هذا اللص الصغير الوحيد، فألقى له السيجارة وكأنه يرسلها للماضي كمساعدة تحنو عليه وتغير من مساره، لكنه رفض أن يراه الفتى ويشعر بأن لأحد فضل عليه. علاقة كثيفة ومعقدة بالماضي والحاضر ينقلها خان دون أي حديث أو صوت عالي، وموقف كامل من الحياة تعلنه سيجارة مشتعلة ملقاة من سطح بناية قديمة.
(9) صدمة بمائة دولار – سوبر ماركت
(اختار المشهد المخرج أمير رمسيس، السينارست تامر حبيب، المخرج يوسف هشام، والطبيبة ميريهام الحلواني)
وجود أميرة في حياة رمزي لم يكن مجرد صداقة أو جيرة قديمة، ولكنه كان دافعا يجعله يؤمن أنه ليس وحيدا أو مجنونا، وأن هناك من هم مثله، لديهم ما يتمسكون به ويؤمنون بأنه أهم وأكثر قيمة من سحر المال وبريق الاستهلاك. وفي لحظات يأسه كان رمزي مستعدا للتنازل أخلاقيا ـ كما أخبره الدكتور عزمي ـ حالما بالثروة، لكنه رفض بشكل قاطع أن يصل هذا التنازل إلى تسهيل وصول الطبيب العجوز إلى أميرة، مؤكدا أنه لا يمكن أن (يجلب له عصافير) كما أخبره عزمي أيضا. ولكن يبقى السؤال الصادم: ماذا لو صار العصفور نفسه مستعدا للذهاب طواعية للصياد العجوز؟
رمزي الذي رأى أميرة بالصدفة تركب سيارة فارهة وضع في ذهنه عشرات الاحتمالات الممكنة للأمر، لكن الاحتمال الوحيد الذي لم يفكر فيه هو أن تكون قد ذهبت لعزمي. وعندما تلقى دعوة كي يعود ليعزف في الفندق الفاخر مجددا، وافق على العودة حتى لو قابل عزمي من جديد، فصداقتهما انتهت ولكن بقى ود قديم لن يمنع تواجدهما في مكان واحد، بل أن رمزي في بداية المشهد أخذ يدور بعينيه بحثا عن رفيقه القديم، في لقطات يستغل فيها المخرج مستوى نظر العازف المنخفض ليخفي عنه الحقيقة، والتي تبدأ في الاتضاح عندما ترتفع من وراء الرؤوس يد عجوز، ليرسل عزمي ورقة بمائة دولار كتحية لرمزي، الذي يبتسم ويغير النغمة الكلاسيكية ويعزف “تعاليلي يا بطة” كمداعبة للطبيب.
أصابع رمزي تتثاقل على البيانو عندما يهم بالقيام ليغير مستوى بصره فيكتشف المفاجأة: أميرة التي أصبحت سيدة مجتمع ثرية أنيقة، تجلس بجوار عزمي الذي تركه العازف حتى لا ينزل لمستوى إخبار صديقته بأنه يريدها. الصدمة تظهر على عيني رمزي، بينما يخفي المخرج باقي وجهه وراء البيانو. تقوم أميرة فينكسر كعب حذاءها، فتسير وهي تحجل بجوار الرجل الذي اشتراها، يدخلان المصعد ويستديران ليجدا رمزي جالسا على السلم ينظر لهما والصدمة لا تزال مسيطرة عليه، عزمي ينفث دخان سيجاره في فخر الزاهي بانتصار، وباب المصعد يغلق في وجه الفنان الشاب معلنا هدم حصنه الأخير في مواجهة عالم السوبر ماركت.
(10) نهاية بطعم البداية – في شقة مصر الجديدة
(اختار المشهد رامي أحمد، منة بيومي، وليد فواز، حنان أبو رمضان، وهنا نور)
واحدة من أكثر نهايات أفلام محمد خان تفاؤلا، ربما لأنها الأكثر إشباعا، أو لأنها أقرب للبداية منها للنهاية، بداية تأجلت كثيرا بسبب اختلاف الثقافات وسوء الفهم والحظ السيء، سوء الحظ يلعب لعبته الكلاسيكية أثناء بحث يحيى ونجوى عن بعضهما البعض، حتى تفقد هي الأمل وتقرر اللحاق بالقطار الذي سيعيدها لمدينتها لتعيش على أمل اللقاء بالحبيب، تماما مثل أستاذتها ووالدتها الروحية أبلة تهاني التي قضت حياتها في انتظار. ولكن المخرج قرر أن يكون أحن عليها من هذا الانتظار الطويل، بل وأحن على تهاني كذلك، لتأتيها مكالمة من صديقة تخبرها بوصول خطاب من تهاني، وتقرأ لها لتعرف أن معلمتها وصلت أخيرا لحبيب عمرها، خبر سعيد يتأتي بعد مداعبة صوتية معتادة من المخرج الذي جعل السائق العجوز يفتح راديو السيارة على وردة تدعو الفتاة “خليك هنا خليك بلاش تفارق”.
الخبر يتزامن أيضا مع مشهد أكثر سعادة، يحيى وقد تمكن أخيرا من اللحاق بالتاكسي، لنراه فوق دراجته البخارية يحاول اللحاق بنجوي، فهو من يحاول في هذه اللحظة أن يكون (جنبها.. مش وراها)، حتى لا تضيع الفرصة منه للأبد. الحوار الذي يدور بينهما يشبه الكلمات الأولى بين أي محبين: متردد، متلعثم، مبتور، لكنه مليئ بالمشاعر. يمهد للمشهد التالي في محطة القطار، والذي تترك فيه نجوى القاهرة مرددة رقم هاتف يحيى الذي حصلت عليه أخيرا، لينتهي الفيلم وهو يبشر الجميع ببداية قصة جديدة أكثر بهجة، ربما يرويها خان نفسه في يوم من الأيام.
أحمد شوقي
لأن أفلامه محفورة داخل وجداننا، ولأنها تتمتع بهذا الحس الحميمي الذي يجعل كل مشاهد يشعر وأن الفيلم يخاطبه شخصيا، فقد أصبح لكل منّا لحظاته المفضلة، ومشاهده التي تقفز لذهنه كلما فكر في عوالم محمد خان. الأمر لم يحتج للكثير من المجهود، فقط كتبت سؤالا بسيطا على أحد مواقع التواصل الاجتماعي أطلب فيه أن يذكر كل شخصه مشهده المفضل من سينما خان، لتنهال عشرات الإجابات، حاملة قائمة ممتدة من مشاهد أيقونية حفرت مكانها في الأذهان، قائمة أكبر من جمعها في مكان واحد، لذلك فقد منحت نفسي ترف الاختيار من بينها، لأذيل دراستي عن المخرج الكبير بمحاولة لتذكر أقل القليل من إسهامه السينمائي الضخم، محاولا استغلال الحب الذي يحمله كل شخص لأحد هذه المشاهد أو لجميعها، في إضفاء قيمة على هذه الدراسة التي لم تكن لتوجد لولا وجود خان بيننا. وسأذكر أسم من اختار كل مشهد من المشاهد العشرة، كتحية لجيل تربى على سينما خان، ولفتة شكر لكل من أثروا ذاكرتي بهذا القدر من اللحظات السينمائية التي لا تنسى.
(1) حوار بالعيون وطائران – طائر على الطريق
(اختار المشهد الناقد رامي عبد الرازق)
بعد أن تحمل سخافات زوجها الإقطاعي العصبي، واستمع لتحذيرات السائق العجوز وهو يصر على الذهاب مجددا ليحضرها بسبب قوة تدفعه لا يمكنه فهمها، وبعد أن حاولت هي التملص من الذهاب معه لعلمها بأن شيئا ما يتحرك داخلها تجاهه، وبعد أن تم حجز الزوج للعلاج في القاهرة، يجد فارس نفسه لأول مرة وحيدا مع فوزية في سيارته. يمد يديه ليستخدم الأداة الدرامية الأهم في المشهد وفي الفيلم ككل: المرآة، يعدل من وضع مرآة السيارة الجانبية والداخلية، ليوجه الأثنين نحو عيني الزوجة الجميلة والحزينة، ليدور بينهما حوار بالعيون، ليصله عذابها وحياتها التعيسة، فما يكون منه إلا أن يبدأ حديثه معها بأغرب جملة ممكنة: أنا آسف.
فارس تأسف لفوزية على حزنها، على الهم الذي تحمله رغما عنها، وعن حياتها مع رجل متسلط عسير المعاشرة كزوجها، ليتزامن الأمر مع تخطي فارس لجنديين يشيران له بالوقوف، معتبرا الأمر احتراما للسيدة، ولكن هذا التصرف يثير فيها الذكريات، لتبدأ مع تصاعد موسيقى كمال بكير الحزينة في إلقاء تساؤلات تخيلية، لا يمكن إلا أن تكون عن حبيب قديم حُرمت منه لصالح زيجتها التعيسة، لتخرج الكاميرا وترصد السيارة من الخارج، تقطع الطريق قطعا، وداخلها طائرين: أحدهما الطائر على الطريق الذي وجد حبه أخيرا، وثانيهما طائر حبيس في قفص ذهبي، دفعته الظروف للتعاسة، ودفعه الحب للثورة عليها.
(2) قتل وانتحار ومسقعة – موعد على العشاء
(اختار المشهد المخرجة نادين خان، السينارست تامر حبيب، المخرج محمد جمال العدل، والمخرجة عرب لطفي)
انتهي كل شيء لدى نوال بموت حبيبها وزوجها الثاني شكري بأوامر زوجها الأول عزت، هي الوحيدة التي تملك اليقين بأنه هو القاتل، لكنه أمّن موقفه جيدا وسافر للخارج وقت الجريمة، فتطلب نوال من السكرتيرة أن تجعله يتصل بها فور عودته. الطلب يشعر الرجل المهووس بالامتلاك أنه قد انتصر، كيف لا وقد حصل على كل شيء من قبل بالقوة دون حساب؟
تحدد نوال موعدا للقاء في منزل الزوجية، وتذهب للتسوق فتشتري باذنجان وخضروات، وعلبة من السم!.. ليبدأ التتابع البديع الذي يستمر لأثنتي عشر دقيقة كاملة. بهدوء ممزوج بالحسرة واللذة تعد نوال المسقعة التي يحبها عزت، مرتدية فستان داكن يوحي بحداد مكتوم، تخلط كل شيء وترش السم ثم تضعه بالفرن، ودقات البيانو المتثاقلة تنقل لنا شعور الترقب. تغير ملابسها لترتدي تايير يعطي انطباع باستقبال شخص عزيز، وتخرج لعزت الذي فتح الشقة بمفتاحه ودخلها بأريحية. التايير يسعد عزت فهو من اشتراه لها، ولونه الأزرق الصاخب يجعل صاحبته لامعة داخل المشهد وهي تعترف لزوجها السابق بأنها قد استسلمت له، لتأخذه الجلالة ويظهر ما يبطنه من استحالة استغناءه عن ملكية زوجته الجميلة، وعندما يرغب في تقبيلها بشغف من لا يعرف مصيره، لكنها تصر على العشاء قبل أي شيء.
الثقة والغرور يجعلانه يأكل باطمئنان، ولكن ذكره لشكري يصيبها بالاضطراب فيبدو عليها القلق، يتسرب قليل من الشك لعزت فيصر على أن تأكل أمامه من المسقعة، تتردد للحظة واحدة قبل أن تمد يدها لتغترف من الأكل وعينيها في عينيه، ثم تصعد الكاميرا بهدوء لتتابعها وهي تأكل دون تردد، الصمت يخيم على كل شيء ويجعل المشاهد جالسا على أعصابه، أما نوال نفسها فلم تعد بنفس القلق، فقد حسمت أمرها وانتهى الأمر: حياتها ثمن بخس مقابل الانتقام ممن دمر هذه الحياة. تأكل بنهم يدفع عزت للاطمئنان فيأكل هو الآخر مبديا إعجابه بالطعم، وعندما تتأكد نوال من أنه أكل كمية كافية لتحقيق هدفها، تخبره بهدوء شديد بوجود السم في الطعام.
عبقرية المشهد تنبع في الحفاظ من اللحظة الأولى وحتى النهاية على هذه الشحنة العاطفية المركبة، والتي تجمع بين منتهى التوتر ومنتهى الهدوء، والتي تتوج بعد اعتراف نوال بثبوت وضع البطلين، ثم القطع على زاوية ترصدهما من مكان أبعد، ثم أبعد، ثم ترصد صورة زواجهما على الحائط بعدما صارا بالفعل مجرد ذكرى.
(3) المباراة الأخيرة – الحريف
(اختار المشهد المخرج أمير رمسيس، السينارست محمد سليمان عبد المالك، الناقد محمد عاطف، والممثل وليد فواز)
لم يعد من الممكن أن يبقى الحال كما هو عليه، فارس تمكن أخيرا من كسر جبل الجليد بينه وبين دلال بقبلة المطبخ التي لا تنسى، ويستعد لوظيفة انفتاحية ستغير حياته للأبد، شاهد ماضيه في الحريف الجديد الذي يستعد لتدشين موهبته، وشاهد مستقبله لو استمرت حياته على وضعها السابق في الكابتن القديم مورو وحكاية يرويها له عن حريف آخر تحول لمدمن. فيقرر أن يكون اليوم التالي هو يوم التغيير.
يأخذ دلال وبكر ووالده وزوجته لرحلة للأسكندرية، ولكن قبلها يجب أن يلعب مباراة الوداع. يسخر منه سمسار المباريات الأعرج متحدثا عن الحريف (القديم والجديد)، وفارس يقرر ألا يترك الساحة مهزوما في الملعب، ولا يترك الحياة مهزوما بالاستسلام لمصير الكباتن السابقين. يعلي من قيمة التحدي عندما يصر على اللعب مع الفريق الخاسر ضد الحريف الجديد، وصيحات المشجعين تتصاعد لتملأ ميدان عبد المنعم رياض، بينما تتنقل الكاميرا لرصد أطفال يأكلون في الشارع، ربما يصير أحدهم بعد سنوات حريف المستقبل الذي يستلم الراية. يبدأ فارس اللعب وفي الخلفية موسيقى “الشوارع حواديت”، ليسجل هدفا تلو الآخر حتى يدرك التعادل.
السمسار يصرخ مطالبا الحكم بإنهاء المباراة، ولكن الحكم يتواطأ بمنح الحريف فرصته الأخيرة، نسمع صوت لهاثه يتصاعد، لننتقل من موقع الراصد لنصبح داخل فارس نفسه، نشعر بأنفاسه وهو مقدم على آخر تسديدة في حياته، يمر من لاعب تلو الآخر حتى يسجل الهدف الأكثر إهانة للخصم: يدخل المرمى بالكرة، يحتضنه بكر ويسأله عما إذا كان سيلعب من جديد، فيرد فارس “خلاص يا بكر.. زمن اللعب راح”، فمن هذه اللحظة لم يعد فارس الحريف، ولكنه نضج أخيرا وقرر خوض لعبة الحياة بقواعدها الجديد.
(4) هذه ليست أمريكا – مشوار عمر
(اختار المشهد وقدم فكرة تحليله الصوتي رسام الكوميكس ومصمم الأزياء أيمن الزرقاني)
في منتصف الفيلم بالضبط، وبعد أن تمكن عامل البنزينة القروي الساذج من إنقاذ عمر الثري الذي لم يعتد أن يرى العالم إلا من وراء زجاج سيارته الفارهة، ليكتشف أن هناك من هم مستعدين لقطع أطرافه فقط ليسرقوا خاتما ذهبيا من أصبعه. عمر يكتشف أنه هش رغم كل مظاهر القوة البادية عليه، أنه معدوم الخبرة يحتاج لمن يحمي ظهره في هذه البيئة القروية الموحشة، ولكنه يحتاج أيضا ـ وهو الأهم ـ لشخص كعامل البنزينة، واسمه عمر أيضا، ليمارس عليه ألاعيبه البرجوازية. عمر بحاجة في ضعفه النفسي لشخص يجلس بجواره منبهرا بكل ما يفعله، شخص ترتفع حواجبه للسماء عندما يفتح الثري سقف سيارته، ولهذا يعرض عليه أن يعمل معه، مساعدا أو سكرتيرا أو أيا كان المسمى، المهم هو تواجد هذا الإنسان ليلعب دوره في إنقاذ البقية الباقية من انضباط عمر النفسي.
خلال عرض الوظيفة على العامل يتصاعد صوت راديو مونت كارلو بأغنية دافيد بوي الشهيرة “هذه ليست أمريكا”، موسيقى دالة على تكوين البطل النفسي، وكلماتها التي تقول “جزء صغير منك وسلام صغير بداخلي.. سيموتان”، تعبر بأفضل صورة ممكنة عن حال عمر وعمر. يصلان للبنزينة فينزل العامل لمواجهة رئيسه الغبي، الذي لا ينتبه ويكيل له السباب، فيرد عليه عمر برمي دراجة العمل في وجهة والرحيل، بينما يتصاعد من راديو محطة البنزين صوت سعاد حسني يغني “الدنيا ربيع والجو بديع”، وبتطابق لالالالالا التي تقولها سعاد مع Sha-la-la-la-la التي يقولها دافيد بوي، نعرف أن طريق العمرين قد أصبح واحدا، ولو بشكل مؤقت.
(5) سيارة معطلة وثمرة يوسفي – خرج ولم يعد
(اختار المشهد المخرج محسن عبد الغني والناقد رامي المتولي)
ماذا تفعل لو كنت سائرا بسيارتك وتعطلت فجأة؟ هناك العديد من الاحتمالات الممكنة، لكم ما لا يمكن تصوره هو أن تقوم بهدوء بفتح باب السيارة واستخدامه ككرسي تجلس عليه تأكل ثمرة شهية من اليوسفي. التصرف الذي قام به كمال بك بتلقائية وخفة ظل يعكس بهدوء طبيعة العالم الذي وجد عطية نفسه واقعا فيه، قبل أن يصبح واقعا في هواه. عطية الذي تعلم في المدينة أن تكون كل التصرفات منطقية بشكل براجماتي لا يتخيل مثل هذا التصرف، وعندما يأتي ليسأل البك عما حدث يأمره الأخير بأن يفتح الباب الخلفي ويجلس ليتحدث معه.
لا مكان هنا لحسابات الوقت التقليدية، ولا لتبديل السيارة العتيقة بأخرى أحدث لن تفيد صاحبها بشيء سوى التظاهر، وليس البك بحاجة لطلب المساعدة لأنه يعلم أن أحدهم سيمر بالتأكيد خلال دقائق بجرار ليسحب العربة، لذلك فبينما يفكر عطية في عمر السيارة وكيفية إصلاحها، وفي موعد بيع الأرض وقبض المال ليعود للقاهرة التي لم يعش خارجها، يحدثه كمال بك عن أمور أخرى، عن السعادة في الريف التي لا تقارن حتى بالعيش في أوروبا، وعن رغبته في وجود صديق بجواره، ليطلب من عطية البقاء ليومين أو ثلاثة فقط، ولكنه يختم حديثه بأنه سيجعله يتذوق أفضل خوخ في مصر خلال الصيف القادم، فهو يعلم جيدا أن اليومين اللذين سيوافق عطية على قضاءهما مجبرا، سيتحولان لفترة أكبر بكثير مما يعتقد!
(6) غرف خاوية – عودة مواطن
(اختار المشهد السينارست محمد أمين راضي)
بعد أعوام من الغياب في الخليج عاد شاكر إلى أشقاءه الأربعة حاملا الكثير من الأحلام، واهما أنه لا يزال مؤثرا في حياتهم كما كان قبل أن يهجر البلاد، دون أن يتصور أن الغياب الجسدي يصاحبه غياب معنوي، وأنه صار في أذهانهم مجرد غريب أتى لحياتهم ليس من حقه التدخل فيها، أو مصدر للمال اللازم لبدء مشروع ما، أو رفيق ثرثرة لتفريغ بعض الإحباطات والرغبات المكبوتة. الأمر لا يقتصر على المنزل، بل يجد شاكر نفسه منتزعا من كل شيء، عمله السابق تحول لكباريه، وحبيبته السابقة تزوجت من صاحب الكباريه، والمقاول الذي اشترى منه شقة اتضح كونه نصابا أخذ منه المال وهرب.
شاكر المصدوم في كل من حوله يحاول أن يلوذ بفكرة الصحبة، يتمسك بمنزل العائلة ويرغب في مشاهدة شقيقيه وشقيقتيه حوله، ولكنه حلم مستحيل في ظل امتلاك كل منهم لحياته الخاصة التي اكتشف الأخ الأكبر أنه لا يعلم عنها شيئا. فوزية تأخذ منه المال لتؤسس مشروعها وتستقل بحياتها، ونجوى تتزوج من حبيبها بعد أن أجرا معا شقة وقاما بتأسيسها دون أن يضعا موافقة شاكر أو عدمها في اعتبارهما، وابراهيم يدخل مصحة للعلاج من الإدمان الذي تحول إليه بسبب البطالة والإحباط، وحتى مهدي الذي كان يراه مصدرا للأمل والتفاؤل، يدخل السجن بعد اكتشاف عضويته في تنظيم سياسي سري.
الضربات المتتالية لتصور شاكر عن العالم تجعل تنهي حتى الصحبة المزعومة في منزل العائلة، ليجد نفسه لأول مرة منذ عودته وحده تماما في المنزل الكبير. يدخل شاكر المنزل الخالي الذي يسيطر عليه الظلام على العكس من حالته السابقة، ينير شاكر الردهة ثم يفتح باب غرفة الفتيات، يمسحها بعينيه ليمر على صورة فوزية ونجوى في الطفولة المعلقة على الحائط، يتجه لغرفة الأولاد فيمسحها من جديد ليشاهد لوحات مهدي ورقعة شطرنج ابراهيم والسرير الذي كان يقضي جل وقته نائما عليه. ثم تبدأ الكاميرا عملية مسح ثالثة لغرفة الوالدين التي صارت غرفة الأبن الأكبر، التلفزيون العتيق وصورة الزفاف الآتية من زمن ماض وكل ما في الغرفة يؤكد أن الوقت قد فات. ليلقي شاكر نفسه على السرير في استسلام للوحدة التي لم يكن يتوقعها.
(7) الخروج الأخير – زوجة رجل مهم
(اختار المشهد الناقد أسامة عبد الفتاح، المؤلف ميشيل نبيل، مصممة الديكور نورا ناجي، والمخرج هادي محمود)
كل الأقنعة سقطت عن بكرة أبيها، ولم تعد هناك أي مساحة للخداع أو للتواطؤ أو حتى للتعاطف بين منى وزوجها هشام الذي كان رجلا مهما. العالم كله صار يعلم أن هشام تم فصله من الخدمة بسبب تعامله الوحشي مع انتفاضة يناير، ومحاولاته اليائسة للتظاهر بأن أمرا لم يكن فشلت بجدارة، وحتى الحد الأدنى من احترام الموقف الذي حاولت منى أن تتمسك به، انتهى أمره عندما وقف هشام يتظاهر بالغضب لأن زوجته تأخذ مالا من والدها، لتصدمه بالحقيقة التي ينكرها، وهي أن معاشه الشهري لا يكفي احتياجات المنزل وأنها تستدين لتطعمه، ثم تقرأ له الجريدة بحيثيات الحكم التي تؤكد تورطه في تلفيق التهم وتنهي فرص عودته للعمل، وعندما يبدأ في ضربها لا تجد ما تفعله إلا اللجوء لجارتها.
التتابع يبدأ بهشام مهندما يرتدي حلة أنيقة ويصفف شعره، يدق باب الجارة ويطلب منها إبلاغ منى باعتذاره ودعوته لها على العشاء، يأخذها ليشتري لها حذاءا جديدا ثم لمطعم يتناولان فيه وجبة من اللحم تعيد ذكريات خطوبتهما عندما كان يحاول إبهارها بقدراته. الموسيقى تنذر بوقوع شيء ما خاصة وأنهما لا يتبادلان أي جملة حوار في الخروج الذي يفترض أن يرآب الصدع بينهما. تطفئ منى سيجارتها لنرى انعكاسها في زجاج نظارة هشام الذي ينظر لها نظرة من يقوم بالانتقام، فشهوة الشعور بالسطوة أصبحت مرضا يفوق أي تعاطف إنساني. تكتشف منى ما حدث عندما يعودان للمنزل لتجد شقة جارتها وقد أغلقت بالشمع الأحمر، لتعلم أن دعوة هشام لها كانت لإبعادها عن الشقة التي أبلغ عن كونها وكرا للقمار، فقط لينتقم من المرأة التي فتحت بابها لتنقذ زوجته من براثنه.
التتابع المصنوع بعناية وظفت فيها أحجام اللقطات وتكوينها والموسيقى التصويرية بأفضل صورة ممكنة لبناء شحنة من الترقب والقلق تتناقض مع مضمون المشاهد نفسها التي تبدو كخروجة عادية، يعد بمثابة تمهيد مثالي لمشهد النهاية الذي يليه، والذي يقوم فيه هشام بإنهاء حياته منتحرا بعدما قاده جنونه للمزيد من الجرائم.
(8) سيجارة للماضي – أحلام هند وكاميليا
(اختار المشهد المخرج محمد مصطفى والمونتيرة منة بيومي)
بعد أن قضى عمره بالكامل صعلوكا بلا جذور ولا التزام وقف عيد لأول مرة على أرض صلبة، لأول مرة يشعر بالالتزام وأن حياته يجب أن تتغير فعليا بعدما صارت الرضيعة أحلام مسؤولة منه، فلم يعد من الممكن أن يظل هائما يعيش اللحظة بلحظتها ولا يكترث لأي شخص آخر كما اعتاد طوال السنوات الماضية، وعليه أن يحاول العيش بصورة أو بأخرى مثل البشر الطبيعيين، وهو ما يظهر عندما يتنازل لأول مرة عن أحد مكتسباته الشخصية لغيره طواعية، فيصر أن تبقى كاميليا لتقضي الليلة في غرفة الزوجية مع هند لترعاها بعد الولادة، متطوعا بالنوم فوق سطح المنزل.
الدهشة التي ظهرت في عيني عيد منذ أن شاهد ابنته الرضيعة واستمرت خلال وجوده في مشهد القهوة، والذي أظهر فيه أول ملامح رغبة في تأمين المستقبل، تستمر بادية عليه وهو صاعد للسطح المظلم، والذي يستخدم المخرج دلالته المكانية لتوضيح موقف عيد الذي انتقل أخيرا من العيش كالفأر الذي يتحرك في المتاهة بلا بوصلة، إلى النظر للعالم من أعلى والتفكير في نمط جديد للحياة، شريط الصوت يمزج بعبقرية كالعادة أغنية “الدور الدور موعودة ياللي عليكي الدور” مع سارينة سيارة شرطة مع أصوات الشارع والحديث بين الجيران. ابتسامة مشفقة ترسم على وجه عيد عندما يرصد شابا يشير لحبيبته التي تقف له خلسة في الشباك ليضرب لها موعدا، تم تتسع ابتسامته عندما يلمح طفلا مشاغبا يسرق بطة ويهرب بها فتهبط البطة على رأس العاشق المنتظر.
اللص الصغير يختبئ وراء سيارة تقف أمام عيد بالضبط، يخرج سيجارة من جيبه ليشربها، يبحث يمينا ويسارا عن عود ثقاب ليشعلها فلا يجد، وبمنتهى التلقائية يلقي عيد سيجارته المشتعلة للصبي الذي وجد النجدة آتية من السماء، وعندما ينظر الصبي لأعلى ليرى صاحب السيجارة يسرع عيد بالتراجع حتى لا يراه، مرددا بصوت خفيض عبارته الأثيرة “مسيرها تروق وتحلى”.
عيد رأى ماضيه متجسدا في هذا اللص الصغير الوحيد، فألقى له السيجارة وكأنه يرسلها للماضي كمساعدة تحنو عليه وتغير من مساره، لكنه رفض أن يراه الفتى ويشعر بأن لأحد فضل عليه. علاقة كثيفة ومعقدة بالماضي والحاضر ينقلها خان دون أي حديث أو صوت عالي، وموقف كامل من الحياة تعلنه سيجارة مشتعلة ملقاة من سطح بناية قديمة.
(9) صدمة بمائة دولار – سوبر ماركت
(اختار المشهد المخرج أمير رمسيس، السينارست تامر حبيب، المخرج يوسف هشام، والطبيبة ميريهام الحلواني)
وجود أميرة في حياة رمزي لم يكن مجرد صداقة أو جيرة قديمة، ولكنه كان دافعا يجعله يؤمن أنه ليس وحيدا أو مجنونا، وأن هناك من هم مثله، لديهم ما يتمسكون به ويؤمنون بأنه أهم وأكثر قيمة من سحر المال وبريق الاستهلاك. وفي لحظات يأسه كان رمزي مستعدا للتنازل أخلاقيا ـ كما أخبره الدكتور عزمي ـ حالما بالثروة، لكنه رفض بشكل قاطع أن يصل هذا التنازل إلى تسهيل وصول الطبيب العجوز إلى أميرة، مؤكدا أنه لا يمكن أن (يجلب له عصافير) كما أخبره عزمي أيضا. ولكن يبقى السؤال الصادم: ماذا لو صار العصفور نفسه مستعدا للذهاب طواعية للصياد العجوز؟
رمزي الذي رأى أميرة بالصدفة تركب سيارة فارهة وضع في ذهنه عشرات الاحتمالات الممكنة للأمر، لكن الاحتمال الوحيد الذي لم يفكر فيه هو أن تكون قد ذهبت لعزمي. وعندما تلقى دعوة كي يعود ليعزف في الفندق الفاخر مجددا، وافق على العودة حتى لو قابل عزمي من جديد، فصداقتهما انتهت ولكن بقى ود قديم لن يمنع تواجدهما في مكان واحد، بل أن رمزي في بداية المشهد أخذ يدور بعينيه بحثا عن رفيقه القديم، في لقطات يستغل فيها المخرج مستوى نظر العازف المنخفض ليخفي عنه الحقيقة، والتي تبدأ في الاتضاح عندما ترتفع من وراء الرؤوس يد عجوز، ليرسل عزمي ورقة بمائة دولار كتحية لرمزي، الذي يبتسم ويغير النغمة الكلاسيكية ويعزف “تعاليلي يا بطة” كمداعبة للطبيب.
أصابع رمزي تتثاقل على البيانو عندما يهم بالقيام ليغير مستوى بصره فيكتشف المفاجأة: أميرة التي أصبحت سيدة مجتمع ثرية أنيقة، تجلس بجوار عزمي الذي تركه العازف حتى لا ينزل لمستوى إخبار صديقته بأنه يريدها. الصدمة تظهر على عيني رمزي، بينما يخفي المخرج باقي وجهه وراء البيانو. تقوم أميرة فينكسر كعب حذاءها، فتسير وهي تحجل بجوار الرجل الذي اشتراها، يدخلان المصعد ويستديران ليجدا رمزي جالسا على السلم ينظر لهما والصدمة لا تزال مسيطرة عليه، عزمي ينفث دخان سيجاره في فخر الزاهي بانتصار، وباب المصعد يغلق في وجه الفنان الشاب معلنا هدم حصنه الأخير في مواجهة عالم السوبر ماركت.
(10) نهاية بطعم البداية – في شقة مصر الجديدة
(اختار المشهد رامي أحمد، منة بيومي، وليد فواز، حنان أبو رمضان، وهنا نور)
واحدة من أكثر نهايات أفلام محمد خان تفاؤلا، ربما لأنها الأكثر إشباعا، أو لأنها أقرب للبداية منها للنهاية، بداية تأجلت كثيرا بسبب اختلاف الثقافات وسوء الفهم والحظ السيء، سوء الحظ يلعب لعبته الكلاسيكية أثناء بحث يحيى ونجوى عن بعضهما البعض، حتى تفقد هي الأمل وتقرر اللحاق بالقطار الذي سيعيدها لمدينتها لتعيش على أمل اللقاء بالحبيب، تماما مثل أستاذتها ووالدتها الروحية أبلة تهاني التي قضت حياتها في انتظار. ولكن المخرج قرر أن يكون أحن عليها من هذا الانتظار الطويل، بل وأحن على تهاني كذلك، لتأتيها مكالمة من صديقة تخبرها بوصول خطاب من تهاني، وتقرأ لها لتعرف أن معلمتها وصلت أخيرا لحبيب عمرها، خبر سعيد يتأتي بعد مداعبة صوتية معتادة من المخرج الذي جعل السائق العجوز يفتح راديو السيارة على وردة تدعو الفتاة “خليك هنا خليك بلاش تفارق”.
الخبر يتزامن أيضا مع مشهد أكثر سعادة، يحيى وقد تمكن أخيرا من اللحاق بالتاكسي، لنراه فوق دراجته البخارية يحاول اللحاق بنجوي، فهو من يحاول في هذه اللحظة أن يكون (جنبها.. مش وراها)، حتى لا تضيع الفرصة منه للأبد. الحوار الذي يدور بينهما يشبه الكلمات الأولى بين أي محبين: متردد، متلعثم، مبتور، لكنه مليئ بالمشاعر. يمهد للمشهد التالي في محطة القطار، والذي تترك فيه نجوى القاهرة مرددة رقم هاتف يحيى الذي حصلت عليه أخيرا، لينتهي الفيلم وهو يبشر الجميع ببداية قصة جديدة أكثر بهجة، ربما يرويها خان نفسه في يوم من الأيام.