مثل كثير من قراء الأدب، أحببت يهاء طاهر. أحببت كل ما كتبه: القصص، والروايات، والكتب، والترجمات، وأحببت كل ما تحدث به، أحببت روحه العطوف، ونبرة صوته القريبة إلى قلب الوطن.
أحببت على وجه الخصوص قصصَه القصيرة الأقربَ إلى الطول: بالأمس حلمت بك، أنا الملك جئت، في حديقة غير عادية، ورواياتِه الأقربَ إلى القصر: شرق النخيل، قالت ضحى، خالتي صفية والدير، حيث تصفو الحكمة وتعلو الدراما.
في هذه النصوص تتجلى الحكمة المصرية في أنقى صورها، وأكثرها قربًا إلى الإنسان في عمومه. الحكمة وقد جرى التعبير عنها في بساطة ودقة وعمق. تراجيديا البشر الأزلية وهي تتخذ صورًا يومية وأسطورية في الوقت نفسه. حياتُهم تمضي مثلنا، يومًا بعد يوم وسنة بعد سنة، يأكلون الطعام ويمشون في الأسواق، يذهبون إلى العمل في الصباح، ويعودون في المساء للبيت، يحبون ويقتتلون، لكن غربتهم لا تنقطع، وأسئلتهم لا تجد إجابة، وأرواحهم لا تهدأ.
عند نقطة معينة في هذه القصص، تتوارى حياة البشر اليومية، وتتفجر أرواح الرواة وأبطالهم بالسؤال المكتوم، يتحدثون إلى أنفسهم، وإلى العالم، وإلى الطبيعة، وإلى الآخرين وإلينا أيضًا. تحركهم نداءات ونوازع غامضة، يعيشون حياة غير مفهومة، وتعذبهم أحلام مستحيلة. بعضهم يزعم أنه لا يهتم بكل ذلك، يعتبر أنه يعيش في الصحراء وأن شقته خيمة، يرى المشكلة في داخله ويبحث عن حل دون جدوى. وبعضهم يمرضه هذا العالم ويرى أن لا فائدة من المحاولة، نفس الغباء في كل العصور، نفس الكراهية ونفس الكذب ونفس التعاسة. وبعضهم يريد المستحيل، أن يكون العالم غير ما هو، والناس غير ما هم، لا يملك إجابات وليست عنده أفكار، عنده أحلام مستحيلة. تصيبه القيود والحدود بالخرس فيسكت طويلاً، لكن حزنه الصامت ينفجر فجأة، فيعدو ويعدو، وبين الحلم واليقظة يمد يده للإمساك بالمستحيل.
من بهاء طاهر وقصصه، تلقيت أنا القارئ العادي – والمتخصص أيضًا - دروسًا كثيرة، لعل أهمها درس الحقيقة والخيال.
في حياة البشر اليومية تكاد تنعدم المسافة، بين المعيشة الخشنة من جهة، والأحلام الكونية المستحيلة من الجهة الأخرى؛ فنحن نعيش إلى الداخل بقدر ما نعيش إلى الخارج، نتحدث إلى أنفسنا وإلى الطبيعة الصامتة ربما أكثر مما نتحدث إلى الآخرين. ولهذا لن يكون غريبًا - في الحياة كما في الدراما - أن تنقلب الأحوال فجأة، فتتحول الحقيقة إلى خيال والوقائع إلى أحلام.
تكتسب أفعال الناس في القصص معناها من الخلفية التي تقع عليها، أي من الوصف بعيونهم. الوصف روح القصص وشعرها. في "بالأمس حلمت بك"، ترى عينا الراوي من وراء الزجاج ثلوجًا تغطي الرصيف والسيارات والأشجار، وغرابًا حائرًا، فيقول لنا هذا الوصف ما لا تقوله الشخصيات. في "أنا الملك جئت" يرى فريد بك الصحراء ورمالها والتماعاتها ومعبدها الوردي، يتابع حوارًا بين الشمس والرمل، يرى الصفرة تلمع ، وفي الغروب تنسكب في الوديان وبين التلال بحيرات وردية اللون، يرى نزق الرياح..الوصف الدقيق الجميل الذي ينبئنا بما يخبئه الراحلون مثله إلى الصحراء والمستجيبون لندائها ونداء نفوسهم. وما أعجب نداء الصحراء في عالم بهاء طاهر!
«وفي الصحراء كان وجه مارتين في كل مكان ..
في التماعات السراب البعيد وفوق التلال وفي وميض النجوم
وفي الصحراء كان فريد يصلي كثيراً في الغروب، ويبكي وحيداً في الليل»
إلى معبد الصحراء الوردي المجهول ارتحل فر يد بك، «جلس في الظلمة وقال إن يكن هذا هو النداء فها أنا قد لبيت. إن تكن هي النهاية فلست أخافها وإن تكن بداية فسوف أتعلم»
في لغة الراوي، كما في حوار الشخصيات، تكتسي الكلمات اليومية البسيطة بعدًا أعمق، لأنها تصبح جزءًا من إيقاع درامي، صنعته مهارةُ مسرحيٍّ محترف. إن ما يبدو للقارئ كأنه ثرثرة يومية عابرة، يتحول فجأة إلى دراما محكمة، هي روح القصة القصيرة التي تضمر أكثر مما تظهر.
في قصص مثل "المطر فجأة"، و"النافذة" و"محاورة الجبل" و"في حديقة غير عادية" تدخل الشخصيات في ثرثرة يومية عابرة، يتحول الحوار المسرحي إلى مشهد خاص في قصة قصيرة، يخفي الحوار المقتضب فيها أكثر مما يفصح، يصنع إيقاعًا مكتومًا، ويتركنا حتى النهاية أمام حياة أوسع من قدرتنا على الفهم، وأسئلة محرقة ليس لها إجابة.
بهاء طاهر، حامل جينات الحكمة المصرية لنا وللبشر جميعًا. واحد من سلالة الكتاب العظام الذين علمونا ولا يزالون.
أحببت على وجه الخصوص قصصَه القصيرة الأقربَ إلى الطول: بالأمس حلمت بك، أنا الملك جئت، في حديقة غير عادية، ورواياتِه الأقربَ إلى القصر: شرق النخيل، قالت ضحى، خالتي صفية والدير، حيث تصفو الحكمة وتعلو الدراما.
في هذه النصوص تتجلى الحكمة المصرية في أنقى صورها، وأكثرها قربًا إلى الإنسان في عمومه. الحكمة وقد جرى التعبير عنها في بساطة ودقة وعمق. تراجيديا البشر الأزلية وهي تتخذ صورًا يومية وأسطورية في الوقت نفسه. حياتُهم تمضي مثلنا، يومًا بعد يوم وسنة بعد سنة، يأكلون الطعام ويمشون في الأسواق، يذهبون إلى العمل في الصباح، ويعودون في المساء للبيت، يحبون ويقتتلون، لكن غربتهم لا تنقطع، وأسئلتهم لا تجد إجابة، وأرواحهم لا تهدأ.
عند نقطة معينة في هذه القصص، تتوارى حياة البشر اليومية، وتتفجر أرواح الرواة وأبطالهم بالسؤال المكتوم، يتحدثون إلى أنفسهم، وإلى العالم، وإلى الطبيعة، وإلى الآخرين وإلينا أيضًا. تحركهم نداءات ونوازع غامضة، يعيشون حياة غير مفهومة، وتعذبهم أحلام مستحيلة. بعضهم يزعم أنه لا يهتم بكل ذلك، يعتبر أنه يعيش في الصحراء وأن شقته خيمة، يرى المشكلة في داخله ويبحث عن حل دون جدوى. وبعضهم يمرضه هذا العالم ويرى أن لا فائدة من المحاولة، نفس الغباء في كل العصور، نفس الكراهية ونفس الكذب ونفس التعاسة. وبعضهم يريد المستحيل، أن يكون العالم غير ما هو، والناس غير ما هم، لا يملك إجابات وليست عنده أفكار، عنده أحلام مستحيلة. تصيبه القيود والحدود بالخرس فيسكت طويلاً، لكن حزنه الصامت ينفجر فجأة، فيعدو ويعدو، وبين الحلم واليقظة يمد يده للإمساك بالمستحيل.
من بهاء طاهر وقصصه، تلقيت أنا القارئ العادي – والمتخصص أيضًا - دروسًا كثيرة، لعل أهمها درس الحقيقة والخيال.
في حياة البشر اليومية تكاد تنعدم المسافة، بين المعيشة الخشنة من جهة، والأحلام الكونية المستحيلة من الجهة الأخرى؛ فنحن نعيش إلى الداخل بقدر ما نعيش إلى الخارج، نتحدث إلى أنفسنا وإلى الطبيعة الصامتة ربما أكثر مما نتحدث إلى الآخرين. ولهذا لن يكون غريبًا - في الحياة كما في الدراما - أن تنقلب الأحوال فجأة، فتتحول الحقيقة إلى خيال والوقائع إلى أحلام.
تكتسب أفعال الناس في القصص معناها من الخلفية التي تقع عليها، أي من الوصف بعيونهم. الوصف روح القصص وشعرها. في "بالأمس حلمت بك"، ترى عينا الراوي من وراء الزجاج ثلوجًا تغطي الرصيف والسيارات والأشجار، وغرابًا حائرًا، فيقول لنا هذا الوصف ما لا تقوله الشخصيات. في "أنا الملك جئت" يرى فريد بك الصحراء ورمالها والتماعاتها ومعبدها الوردي، يتابع حوارًا بين الشمس والرمل، يرى الصفرة تلمع ، وفي الغروب تنسكب في الوديان وبين التلال بحيرات وردية اللون، يرى نزق الرياح..الوصف الدقيق الجميل الذي ينبئنا بما يخبئه الراحلون مثله إلى الصحراء والمستجيبون لندائها ونداء نفوسهم. وما أعجب نداء الصحراء في عالم بهاء طاهر!
«وفي الصحراء كان وجه مارتين في كل مكان ..
في التماعات السراب البعيد وفوق التلال وفي وميض النجوم
وفي الصحراء كان فريد يصلي كثيراً في الغروب، ويبكي وحيداً في الليل»
إلى معبد الصحراء الوردي المجهول ارتحل فر يد بك، «جلس في الظلمة وقال إن يكن هذا هو النداء فها أنا قد لبيت. إن تكن هي النهاية فلست أخافها وإن تكن بداية فسوف أتعلم»
في لغة الراوي، كما في حوار الشخصيات، تكتسي الكلمات اليومية البسيطة بعدًا أعمق، لأنها تصبح جزءًا من إيقاع درامي، صنعته مهارةُ مسرحيٍّ محترف. إن ما يبدو للقارئ كأنه ثرثرة يومية عابرة، يتحول فجأة إلى دراما محكمة، هي روح القصة القصيرة التي تضمر أكثر مما تظهر.
في قصص مثل "المطر فجأة"، و"النافذة" و"محاورة الجبل" و"في حديقة غير عادية" تدخل الشخصيات في ثرثرة يومية عابرة، يتحول الحوار المسرحي إلى مشهد خاص في قصة قصيرة، يخفي الحوار المقتضب فيها أكثر مما يفصح، يصنع إيقاعًا مكتومًا، ويتركنا حتى النهاية أمام حياة أوسع من قدرتنا على الفهم، وأسئلة محرقة ليس لها إجابة.
بهاء طاهر، حامل جينات الحكمة المصرية لنا وللبشر جميعًا. واحد من سلالة الكتاب العظام الذين علمونا ولا يزالون.