وقائع هروب chroicle of an escape
هذا الفيلم من الأرجنتين ، كان قد ترشح للسعفة الذهبية لمهرجان ( كان ) السينمائي عام 2006 ، و ترشح لجائزة ( غولدن غلوب ) أيضاً عام 2007 . مخرجُهُ " إزراييل ادريان كايتانو " المولود في الأورغواي . و الفيلم يعتمد قصة واقعية ، و ممثــلوه أرجنتينيون شبانٌ ولدوا إبان أو بعد فترةِ ما سُـــــمّيت بـ ( الحرب القذرة ) في الأرجنتين ، أو قبلها بقليل . أي أنهم ينتمون الى جيل ولد و هو لم يكن لـيَعيَ ما حدث في بلاده خلال تلك الفترة التي ابتدأت بقيام جــنرالات الجيش الأرجنـتيني بالإنقلاب الذي قاده الجنرال " خورخي ڤيديلا " في الرابع و العشرين من آذار / مارس 1976 ، و الذي ابتدأ عــهداً دموياً لا يزال ثلاثون ألفاً من ضحاياه مجهولي المصير ، و آلافٌ أخرى اُعدمت علناً ، و آلافٌ قضت في الســجون : قتلا عمداً ، أو إهمالا عمداً ، و آلافٌ لاتـُعد تفنن الإنقلابيون العســـكر في ابتكار الطرق و الوسائل لإفنائها و التخلص منها .. كان إحداها : إلقاؤهم في عرض البحر .
و عندما انتهى عهد هذه الطغمة ، بدأت جراح الناس بالأنين ، حتى تسلّم الحكمَ في البلاد الرئـــيسُ المنتخب " راؤول الفونس " في العام 1983 ، بدعم شـــعبي كبير ، فأصرّ عام 1985على تشكيل محكمة للقصاص من أولئك السفلة ، المجرمين بحق مواطنيهم و بحق الإنسانية . و قاد حملة البحث عن حقائق ما جرى الروائيُ الأرجنتينيُ المعروف " أرنستو ساباتو " ( 1911 ــ 2011 ) الذي وصف نتائج ما توصل اليه من تحقيقات و متابعات و استــنتاجات بأنها : ( أشبه بدخول الجحيم ) .
جزءٌ من هذا الجحـيم ، هو ما يسلط فيلمُ ( و قائعُ هروب ) الضوءَ عليه ، لذلك عمدَ المخرج " كايتانو " الى السفر الى ستوكهولم ، عاصمة السويد ، لمقابلة ( كلوديلو ) من أن أجل أن يعرف منه حقيقة ما جرى ، و هو الشخصية البارزة في الواقعة التي سينطلق منها المخرج لرَوْي الحكاية المؤثرة الموجعة في سجل الأرجنتين المعاصر .
الفيلم لا يجيب على السؤال : ( لماذا فعلتْ ) تلك الطغمةُ العسكريةُ الأرجنتينيةُ كلَ ذلك بالمواطنين ، بل يحكي لنا ( كيف فعلتْ ) ، و يقدّم صورة ً عن تلك ( الأفعال ) ، و هي صورةٌ تكررت في دولٍ كثيرة من العالم الثالث ، تلك التي ابتلت بأنظمة جاءت من ثكنات الجيــش أو من أوكار الأحزاب ، ولكنّ ما حصل في الأرجنتين ــ في حقبة حكم العسكر ــ فاق وحشية جميع الأنظمة الدكتاتورية .. خصوصاً في أمريكا اللاتينية .
تبدأ قصة الفيلم في 23 نوفمبر / تشرين الثاني من العام 1977 ، و هو يومٌ ممطر ، تتوقف فيه سيارةٌ أمام منزلٍ في العاصمة الأرجنتينية ( بويـْـنـِس آيرس ) . و يظهر رجلُ أمن داخـــل السيارة يمســك برأس شـابٍ مرعـوب ، و يسـأله : أهذا هو البيــت ؟ يجيب الشــاب بـ ( نعم ) ، فيُعيد رجلُ الأمن ( العصّابة ) إلى عينيه و يُنزل رأسه الى أسفل .. مع لكمات متتالية . و البيت المقصود هو بيت الشاب " كلوديو " الذي يلعب كحارس مرمىً في فريق لكرة القدم ( لعب دورَه " رودريگو دي لا سيرنا " ) ، يداهمه رجال الأمن فيما بعد ، فتخضع الأم بغياب إبنها إلى استجوابٍ قاسٍ مرفَق بالضرب و الإهانة لإنتزاع اعترافٍ منها حول نشاط ابنها السياسي المعارض للسلطة ، و الذي لا تعرف شيئاً عنه ، لأنه ليس لديه أي نشاط من هذا القبيل . و عندما تعود ابنتها الى البيت تتعرض للإستجواب ذاته ، حتى و إنْ لم يظهر مشهدٌ لذلك . و يشكل هذا الظهور القصير للأم و البنت ظهوراً أخيراً و نهائياً للعنصر النسائي في الفيلم باستثناء لقطة أو لقطتين فقط لنساء عابرات . و مع عودة الإبن المسالم الطيب الذي يتخلى عن مقعده في الحافلة لسيدة حامل ، يكون جلاوزة الأمن بانتظاره ليتم القاءُ القبض عليه فوراً و لـيُحشر في سيارة تنقله الى قصر يقع وسط مزرعة ، تم اتخاذه معتقلاً لغرض التحقيق و التعذيب ( سيذكّر العراقيين بـ " قصر النهاية " الشهير ) ، فيجد المكانَ مزدحماً بشبان آخرين يبدو انه تم اقتيادهم بذات الطريقة ، و هذا ( القصر ) يعود ــ أصلاً ــ الى مواطن أرجنتيني يُشتبَه بمناهضته للسلطة . هناك يبدأ مسلسلُ التعذيب الوحشي إياه لإنتزاع الإعتراف ، فلم يعترف بشئ .. لأنه ليس لديه ما يعترف به حقاً ، و لا يدري كيف و لماذا تم الاشتباه به . ولكنه يُدرك فيما بعد أن " گالليـگو " الذي دلّ الجلاوزة على منزله هو الذي أورد اسمه و لفق عليه تهمة البحث عن آلة طباعة ، و بالطبع فأن رجال الأمن يفسرون الأمر ، في هذه الحالة ، على أن هدفه هو طبع المنشورات المعادية للسلطة ، ولا يوجد أي تفسير آخر ، و هذا يكفي وحده لأن يكون مبرراً للإعتقال . و يكتشف في الأيام اللاحقة أيضاً أن هذا هو الديدن الذي يتّبعه رجال الأمن هؤلاء ، أي : إغراء المتهم بالكشف عن أسماء حتى و إن كانت بريئة ، كي يتم اطلاقُ سراحه لاحقاً . و هذه هي اللعبة التي انطلت على " گالليـگو " فورّطه . و عليه فأن كل هؤلاء الشبان الأبرياء قد تم اعتقالهم لهذا السبب .
و مع الأيام ، و من خلال طرائق التعامل و وسائل و أساليب الإستجواب و التعذيب القاسي و تناقص أعدادهم ، يُدرك من تبقّى منهم أن الموتَ سيكون مصيرَهم الحتمي و قد بات يدنو منهم ، فيقرر " گويللرمو " وضعَ خطة سريعة للهروب ، لتــُنفــَّـذ في ليلةٍ غزيرة المطر ، فيوافــق علـيها " كلوديو " حالا ً ، ليؤيده " فاســكو " . أما الوحـيد الذي يتردد و يتخاذل فــهو " گالليـگو " الواشي .. لكنه يوافق في اللحظات الأخيرة بعد أن أدرك أنه سيبقى وحيداً . و يبدو أن هذا الشاب قد تربّى على الخوف و التردد و عدم التعاون ، بدليل أن أباه الذي يصل الى مكان اختبائه ــ لآحقاً ــ يرفض أن يُقلّ بسيارته الأثنين الآخَرَين من رفاق ابنه ، و اللذين هرّباه معهما ، حتى يخبره الإبن بهذه الحقيقة ، فيوافق الأب في اللحظة الأخيرة .. أيضاً ، فيحشرهما في صندوق السـيارة . كـذلك فأن " گالليـگو " هو الوحـيد الذي تغـــيّب عن الإدلاء بشـهادتــه أمــام المحكمة عـام 1985 عكس ما فـعل رفـاقـه ..
في ليلة الهروب تلك ، كان السجانون قد جرّدوا الشبانَ الأربعة من ملابسهم تماماً ، و تركوهم عراةً ، إمعاناً في إذلالهم و تحوّطاً من فكرةِ هروبٍ قد تراودُهم ، و قد كُبّلت أيديهم بالجامعات و قـُـيّدوا الى أسرّتهم . " گويللرمو " هو الوحيد الذي قـُـدّر له أن يُفلت يديه و أن يفك ، بالتالي ، الحبال التي قيدت رفاقه الى الأسرّة ، ليسرعوا بربط البطانيات الى بعضها ، و من ثـم الـــنزول بواســطتها من النافذة التي فتـحها ، و كان قد انتزع من ســريره ( برغــياً ) لهذا الغرض .. وهكذا يتم الهروب : عراةً تحت وقع مطر غزير ، وحيدين في شوارع شبه معتمة و فارغة في تلك الساعة المتأخرة من الليل ، و لم يصادفهم إلا رجل متأنق ترجّل من سيارته للتو ، فأرتاب منهم ، ولكن يبدو أنه ليس من مناصري السلطة ، فيدرك بحدسه إنهم ضحايا ، و قد يكون مصيره مثل مصيرهم يوماً ما ، فأومأ إليهم بمواصلة الهرب .
سينمائياً ، تبدو طريقة الهروب تقليدية جداً ، ولكن بما أن الواقعة قد حصلت ، فعلاً ، و تحديداً بتاريخ 31 مارس/ آذار 1978 ، فإن المخرج لم يشأ الإنحياز لسيناريو السينما على حساب سيناريو الواقع ، و ذلك لهدفٍ واضح و مقبول ، و هو توثيق حقيقة ما جرى تاريخياً . فلو كان يفضّل سيناريو السينما لكان قد اقتنص الحالة التي حصلت ذات ليلةٍ و انعطف منعطفاً آخر بالسـيناريو .
فـفي تلك الليلة ، كان إثنان من الحراس قد اصطحبا كلا ً من " كلوديو " و " گالليـگو " الى المطبخ ليُعدّا لهما الطعام ، لرغبتهما في متابعة مباراة كرة قدم دولية للأرجنتين ، الذي هو بلد مهووس بهذه اللعبة مثل البرازيل . و في المطبخ ، أوْلى الحارسان كل اهتمامهما للــتلفاز ، تاركــَـيْن خلفهما الشابين طليقين في المطبخ ، مثلما تركا السلاح و مفاتيح السيارة على الطاولة خلفهما أيضاً ، و هي في متناول " كلوديو " الذي كان يرى السيارة ، من النافذة ، و هي مركونة في الحديقة .. قلّب الشاب المقلاة الثقيلة في يده ، و أمامه رأسا الحارسين المنشغلين تماماً بالمباراة .. و عيناه تتنقلان بينهما و بين السلاح و السيارة و مفاتيحها ، فيما راح " گالليـگو " ــ الذي كان يتناول الطعام بنهم ــ يومئ اليه برأسه و عينيه أن يبتعد عن الفكرة غير مضمونة النتائج التي دارت في رأسه . أثناء ذلك سجل الفريق الأرجنتيني هدفاً في المباراة جعل الحارسين يقفزان فرحاً في المطبخ .. فانتهت الفكرة .
لو أن المخرج قد اعتمد هذه الفكرة منطلقاً للهروب ، لكان السيناريو قد نحى بالأحداث منحى آخر لا يتطابق ، بطبيعة الحال ، مع ما جرى في الواقع ــ فعلاً ــ ليلة الهروب ، الأمر الذي يعني ابتعاداً عن غاية الفيلم في توثيق الحقيقة التاريخية .
و لا بد من الإشارة الى أن المخرج كان حريصاً جداً ــ في سياق تلك الغاية ــ على أدق التفاصيل .. فلم ينسَ ــ مثلاً ــ أن يرينا قذارة أصابع المعتقلين ، و الأوساخ التي قد ترسخت في محيط الأظافر ، و الألوان المتقادمة لجدران المُعتقل .. أما على مستوى السلوك ، فهناك التقاطات قد تكون عابرة ولكنها ذات دلالة ، فمثلا : عندما تعود شقيقة " كلوديو " ، يراقبها الجيران لمعرفة رد فعلها و هي لا تدري أنّ منزلها مُداهـَم ، ولكنها تلحظ بصورة مفاجئة أن ثمة رجالا يصادرون جهاز التلفزيزن من المنزل ، و عندما يعود الشقيق و يلقي الجلاوزة القبض عليه ــ باطحين إياه أرضاً ــ ينتزع أحدهم محفظته من جيبه لتفحص أوراقه ، غير أن ما يقوم به هو أخذ ما فيها من نقود . هذان تفصيلان بقدر ما يبدوان عابرين عند البعض إلا إنهما يحملان دلالات عميقة ، فسلوك كهذا إنما يترجم غياب القانون و حضور القوة ، و يعكس حقيقة أن السلطة محمية بقوة أزلام يتطابقون معها ، بعد أن تدربوا على التجرد من شعور المواطنة و من أي شعور إنساني ، و بالتالي فإن السلطة و جلاوزتها يتقاسمان الغنيمة من دون إعلان و لا جلبة ، فيما يكون المواطنُ الأعزلُ مسلوبَ الإرادة منهوبَ الكيان . ولكن و على الرغم من كل التفاصيل التي اشتغل عليها المخرج في فيلمه ببراعة ، لا أدري كيف فاته أن نمو لحية " كلوديو " لم يكن متناسباً مع فترة اعتقاله ، خلافاً للنمو الطبيعي للـُـحى رفاقه ، فليس من المعقول أن تبدو لحية شاب كث الشعر ، في العشرينات من عمره ، كما لو كان قد مضى على نموها اسبوعان لا أكثر ، في حين أنه قد قضى أربعة أشهر حتى من دون تحمم .
ينتمي فيـــــلم ( وقائع هروب ) الى سينما ( الواقعية ) . و هو ما ينبغي أن يكون عليه ، كي يتوافق مع الهدف في التوثيق ، و بالتالي إدانة ما أقدمت عليه تلك الطغمة العسكرية ُ سيئة الصيت . و من هنا جاء نمو الأحداث تلقائياً وفق تسلسل زمني تراتبي مقبول و متناغم مع إيقاع الفيلم غير السريع ، ولكن المشحون ، عزّزهُ تصويرُ اللقطات القريبة ، و أحياناً القريبة جداً ، و التي كادت أن تكون سمة التصوير العامة في الفيلم . و من المعروف أن لقطات ــ كهذه ــ إنما تشكل اختباراً لإمكانيات الممثل التعبيرية . و في فيلم ( وقائع هروب ) هذا ، نجح جميع الممثلين على الإطلاق في الإختبار ، سواء مَن مثلوا أدوار الضحايا أو الذين مثلوا أدوار الجلادين ، فالتنافس كان حامياً حقاً ، ولكنهم ــ جميعاً ــ كانوا بارعين في الأداء و التعبير . و على الرغم من أنه تم نوعٌ من التركيز على شخصية " كلوديو " ، ربما بسبب انطلاق أحداث الفيلم من منزله ، إلا أن البطولة آلتْ ــ مع تنامي الأحداث ــ الى الجماعية .
من الممكن الإشارة الى أن عنوان الفيلم ( وقائع هروب ) قد يشي بنهايته ، التي تحتمل نجاح عملية هروب اولئك الشبان الأربعة الأبرياء ، ولكن قد يكون من المحتمل أيضاً أن الفيلم يعرض ( وقائع ) العملية ، فقط ، دون نتائجها . و هذا ما أتركه للقراء كي يقفوا عليه بأنفسهم . ولكـني أنقل إليكم هنا الوقائعَ التاريخية التي حصلت ـ فعلاً ــ للأشخاص الحقيقيين :
گويللرمـو : هاجر الى فرنسا . و في العام 1984 التقى كلوديو في إيطاليا .. و في العام نفســــــه التقى گالليـگو في اســـــبانيا . وفي العام الـتالي 1985 أدلى بشـــهادته أمام المحكمة .
فاسكو : كان تم خطفة من قبل جلاوزة الأمن للمرة الثانية ، ولكن أفرج عنه في العام 1983. و أدلى بشهادته أمام المحكمة عام 1985 أيضاً .
گالليـگو : غادر الأرجنتين بمساعدة أهله ، و تشير المعلومات الى إنه استقر في اسبانيا .
كلوديو : ذهب الى السويد ، و أصبح باحثاً فلسفياً جامعياً . و في العام 1985 مثــُـل أمام المحكمة و أدلى بشهادته .
و بعد محاولة الهروب تلك ، تم نقل باقي المعتقلين الى سجونٍ اعتيادية ، أما ( قصر النهاية ) الأرجنتيني فقد تم إحراقُه ، فيما اُحيل جميع قضاة التحقيق إلى المساءلة و الإستجواب .
و يُعتبر المخرج " إزراييل ادريان كايتانو " من مخرجي الخط الأول في الأرجنتين اليوم . يمتلك رصيداً متميزاً من الأفلام و الجوائز ، و شارك بحضور متميز في مهرجانات سينمائية عالمية كبيرة مــثل : مهــرجان ( كان ) ، مــهرجان ( سـان سبيستيان ) ، مهرجان ( هــافانا ) ، مـــهرجان ( روتردام ) ، مهرجان ( لندن ) ..... و سواها .
ولد المخــرج في ( مونتيــفــيديو ) بالأورغـــواي ، في العام 1969 . و قد نزحت عائلته الى الأرجنتين عندما كان في السادسة من عمره ، و ذلك بسبب بروز ظاهرة ( إطلاق النار على كبار السن ) في الأورغواي .. و لا أدري إذا ما كان الكاتب " كومارك مكارثي " قد استقى موضوع روايته ( لا وطن للمســـنين ) من هناك ، و من هذه الظاهرة ، أم لا . و هي الرواية التي تحولت الى فيلم بالعنوان ذاته ، من إخراج الأخوين " كوين " و حصد أربعاً من جوائز الأوسكار ، في العام 2008 ، منها جائزة أفضل فيلم ، و جائزة أفضل ممثل ثانوي .. خطفها الممثل الإسباني البارع " خافيير بارديم " .
هادي ياسين
هذا الفيلم من الأرجنتين ، كان قد ترشح للسعفة الذهبية لمهرجان ( كان ) السينمائي عام 2006 ، و ترشح لجائزة ( غولدن غلوب ) أيضاً عام 2007 . مخرجُهُ " إزراييل ادريان كايتانو " المولود في الأورغواي . و الفيلم يعتمد قصة واقعية ، و ممثــلوه أرجنتينيون شبانٌ ولدوا إبان أو بعد فترةِ ما سُـــــمّيت بـ ( الحرب القذرة ) في الأرجنتين ، أو قبلها بقليل . أي أنهم ينتمون الى جيل ولد و هو لم يكن لـيَعيَ ما حدث في بلاده خلال تلك الفترة التي ابتدأت بقيام جــنرالات الجيش الأرجنـتيني بالإنقلاب الذي قاده الجنرال " خورخي ڤيديلا " في الرابع و العشرين من آذار / مارس 1976 ، و الذي ابتدأ عــهداً دموياً لا يزال ثلاثون ألفاً من ضحاياه مجهولي المصير ، و آلافٌ أخرى اُعدمت علناً ، و آلافٌ قضت في الســجون : قتلا عمداً ، أو إهمالا عمداً ، و آلافٌ لاتـُعد تفنن الإنقلابيون العســـكر في ابتكار الطرق و الوسائل لإفنائها و التخلص منها .. كان إحداها : إلقاؤهم في عرض البحر .
و عندما انتهى عهد هذه الطغمة ، بدأت جراح الناس بالأنين ، حتى تسلّم الحكمَ في البلاد الرئـــيسُ المنتخب " راؤول الفونس " في العام 1983 ، بدعم شـــعبي كبير ، فأصرّ عام 1985على تشكيل محكمة للقصاص من أولئك السفلة ، المجرمين بحق مواطنيهم و بحق الإنسانية . و قاد حملة البحث عن حقائق ما جرى الروائيُ الأرجنتينيُ المعروف " أرنستو ساباتو " ( 1911 ــ 2011 ) الذي وصف نتائج ما توصل اليه من تحقيقات و متابعات و استــنتاجات بأنها : ( أشبه بدخول الجحيم ) .
جزءٌ من هذا الجحـيم ، هو ما يسلط فيلمُ ( و قائعُ هروب ) الضوءَ عليه ، لذلك عمدَ المخرج " كايتانو " الى السفر الى ستوكهولم ، عاصمة السويد ، لمقابلة ( كلوديلو ) من أن أجل أن يعرف منه حقيقة ما جرى ، و هو الشخصية البارزة في الواقعة التي سينطلق منها المخرج لرَوْي الحكاية المؤثرة الموجعة في سجل الأرجنتين المعاصر .
الفيلم لا يجيب على السؤال : ( لماذا فعلتْ ) تلك الطغمةُ العسكريةُ الأرجنتينيةُ كلَ ذلك بالمواطنين ، بل يحكي لنا ( كيف فعلتْ ) ، و يقدّم صورة ً عن تلك ( الأفعال ) ، و هي صورةٌ تكررت في دولٍ كثيرة من العالم الثالث ، تلك التي ابتلت بأنظمة جاءت من ثكنات الجيــش أو من أوكار الأحزاب ، ولكنّ ما حصل في الأرجنتين ــ في حقبة حكم العسكر ــ فاق وحشية جميع الأنظمة الدكتاتورية .. خصوصاً في أمريكا اللاتينية .
تبدأ قصة الفيلم في 23 نوفمبر / تشرين الثاني من العام 1977 ، و هو يومٌ ممطر ، تتوقف فيه سيارةٌ أمام منزلٍ في العاصمة الأرجنتينية ( بويـْـنـِس آيرس ) . و يظهر رجلُ أمن داخـــل السيارة يمســك برأس شـابٍ مرعـوب ، و يسـأله : أهذا هو البيــت ؟ يجيب الشــاب بـ ( نعم ) ، فيُعيد رجلُ الأمن ( العصّابة ) إلى عينيه و يُنزل رأسه الى أسفل .. مع لكمات متتالية . و البيت المقصود هو بيت الشاب " كلوديو " الذي يلعب كحارس مرمىً في فريق لكرة القدم ( لعب دورَه " رودريگو دي لا سيرنا " ) ، يداهمه رجال الأمن فيما بعد ، فتخضع الأم بغياب إبنها إلى استجوابٍ قاسٍ مرفَق بالضرب و الإهانة لإنتزاع اعترافٍ منها حول نشاط ابنها السياسي المعارض للسلطة ، و الذي لا تعرف شيئاً عنه ، لأنه ليس لديه أي نشاط من هذا القبيل . و عندما تعود ابنتها الى البيت تتعرض للإستجواب ذاته ، حتى و إنْ لم يظهر مشهدٌ لذلك . و يشكل هذا الظهور القصير للأم و البنت ظهوراً أخيراً و نهائياً للعنصر النسائي في الفيلم باستثناء لقطة أو لقطتين فقط لنساء عابرات . و مع عودة الإبن المسالم الطيب الذي يتخلى عن مقعده في الحافلة لسيدة حامل ، يكون جلاوزة الأمن بانتظاره ليتم القاءُ القبض عليه فوراً و لـيُحشر في سيارة تنقله الى قصر يقع وسط مزرعة ، تم اتخاذه معتقلاً لغرض التحقيق و التعذيب ( سيذكّر العراقيين بـ " قصر النهاية " الشهير ) ، فيجد المكانَ مزدحماً بشبان آخرين يبدو انه تم اقتيادهم بذات الطريقة ، و هذا ( القصر ) يعود ــ أصلاً ــ الى مواطن أرجنتيني يُشتبَه بمناهضته للسلطة . هناك يبدأ مسلسلُ التعذيب الوحشي إياه لإنتزاع الإعتراف ، فلم يعترف بشئ .. لأنه ليس لديه ما يعترف به حقاً ، و لا يدري كيف و لماذا تم الاشتباه به . ولكنه يُدرك فيما بعد أن " گالليـگو " الذي دلّ الجلاوزة على منزله هو الذي أورد اسمه و لفق عليه تهمة البحث عن آلة طباعة ، و بالطبع فأن رجال الأمن يفسرون الأمر ، في هذه الحالة ، على أن هدفه هو طبع المنشورات المعادية للسلطة ، ولا يوجد أي تفسير آخر ، و هذا يكفي وحده لأن يكون مبرراً للإعتقال . و يكتشف في الأيام اللاحقة أيضاً أن هذا هو الديدن الذي يتّبعه رجال الأمن هؤلاء ، أي : إغراء المتهم بالكشف عن أسماء حتى و إن كانت بريئة ، كي يتم اطلاقُ سراحه لاحقاً . و هذه هي اللعبة التي انطلت على " گالليـگو " فورّطه . و عليه فأن كل هؤلاء الشبان الأبرياء قد تم اعتقالهم لهذا السبب .
و مع الأيام ، و من خلال طرائق التعامل و وسائل و أساليب الإستجواب و التعذيب القاسي و تناقص أعدادهم ، يُدرك من تبقّى منهم أن الموتَ سيكون مصيرَهم الحتمي و قد بات يدنو منهم ، فيقرر " گويللرمو " وضعَ خطة سريعة للهروب ، لتــُنفــَّـذ في ليلةٍ غزيرة المطر ، فيوافــق علـيها " كلوديو " حالا ً ، ليؤيده " فاســكو " . أما الوحـيد الذي يتردد و يتخاذل فــهو " گالليـگو " الواشي .. لكنه يوافق في اللحظات الأخيرة بعد أن أدرك أنه سيبقى وحيداً . و يبدو أن هذا الشاب قد تربّى على الخوف و التردد و عدم التعاون ، بدليل أن أباه الذي يصل الى مكان اختبائه ــ لآحقاً ــ يرفض أن يُقلّ بسيارته الأثنين الآخَرَين من رفاق ابنه ، و اللذين هرّباه معهما ، حتى يخبره الإبن بهذه الحقيقة ، فيوافق الأب في اللحظة الأخيرة .. أيضاً ، فيحشرهما في صندوق السـيارة . كـذلك فأن " گالليـگو " هو الوحـيد الذي تغـــيّب عن الإدلاء بشـهادتــه أمــام المحكمة عـام 1985 عكس ما فـعل رفـاقـه ..
في ليلة الهروب تلك ، كان السجانون قد جرّدوا الشبانَ الأربعة من ملابسهم تماماً ، و تركوهم عراةً ، إمعاناً في إذلالهم و تحوّطاً من فكرةِ هروبٍ قد تراودُهم ، و قد كُبّلت أيديهم بالجامعات و قـُـيّدوا الى أسرّتهم . " گويللرمو " هو الوحيد الذي قـُـدّر له أن يُفلت يديه و أن يفك ، بالتالي ، الحبال التي قيدت رفاقه الى الأسرّة ، ليسرعوا بربط البطانيات الى بعضها ، و من ثـم الـــنزول بواســطتها من النافذة التي فتـحها ، و كان قد انتزع من ســريره ( برغــياً ) لهذا الغرض .. وهكذا يتم الهروب : عراةً تحت وقع مطر غزير ، وحيدين في شوارع شبه معتمة و فارغة في تلك الساعة المتأخرة من الليل ، و لم يصادفهم إلا رجل متأنق ترجّل من سيارته للتو ، فأرتاب منهم ، ولكن يبدو أنه ليس من مناصري السلطة ، فيدرك بحدسه إنهم ضحايا ، و قد يكون مصيره مثل مصيرهم يوماً ما ، فأومأ إليهم بمواصلة الهرب .
سينمائياً ، تبدو طريقة الهروب تقليدية جداً ، ولكن بما أن الواقعة قد حصلت ، فعلاً ، و تحديداً بتاريخ 31 مارس/ آذار 1978 ، فإن المخرج لم يشأ الإنحياز لسيناريو السينما على حساب سيناريو الواقع ، و ذلك لهدفٍ واضح و مقبول ، و هو توثيق حقيقة ما جرى تاريخياً . فلو كان يفضّل سيناريو السينما لكان قد اقتنص الحالة التي حصلت ذات ليلةٍ و انعطف منعطفاً آخر بالسـيناريو .
فـفي تلك الليلة ، كان إثنان من الحراس قد اصطحبا كلا ً من " كلوديو " و " گالليـگو " الى المطبخ ليُعدّا لهما الطعام ، لرغبتهما في متابعة مباراة كرة قدم دولية للأرجنتين ، الذي هو بلد مهووس بهذه اللعبة مثل البرازيل . و في المطبخ ، أوْلى الحارسان كل اهتمامهما للــتلفاز ، تاركــَـيْن خلفهما الشابين طليقين في المطبخ ، مثلما تركا السلاح و مفاتيح السيارة على الطاولة خلفهما أيضاً ، و هي في متناول " كلوديو " الذي كان يرى السيارة ، من النافذة ، و هي مركونة في الحديقة .. قلّب الشاب المقلاة الثقيلة في يده ، و أمامه رأسا الحارسين المنشغلين تماماً بالمباراة .. و عيناه تتنقلان بينهما و بين السلاح و السيارة و مفاتيحها ، فيما راح " گالليـگو " ــ الذي كان يتناول الطعام بنهم ــ يومئ اليه برأسه و عينيه أن يبتعد عن الفكرة غير مضمونة النتائج التي دارت في رأسه . أثناء ذلك سجل الفريق الأرجنتيني هدفاً في المباراة جعل الحارسين يقفزان فرحاً في المطبخ .. فانتهت الفكرة .
لو أن المخرج قد اعتمد هذه الفكرة منطلقاً للهروب ، لكان السيناريو قد نحى بالأحداث منحى آخر لا يتطابق ، بطبيعة الحال ، مع ما جرى في الواقع ــ فعلاً ــ ليلة الهروب ، الأمر الذي يعني ابتعاداً عن غاية الفيلم في توثيق الحقيقة التاريخية .
و لا بد من الإشارة الى أن المخرج كان حريصاً جداً ــ في سياق تلك الغاية ــ على أدق التفاصيل .. فلم ينسَ ــ مثلاً ــ أن يرينا قذارة أصابع المعتقلين ، و الأوساخ التي قد ترسخت في محيط الأظافر ، و الألوان المتقادمة لجدران المُعتقل .. أما على مستوى السلوك ، فهناك التقاطات قد تكون عابرة ولكنها ذات دلالة ، فمثلا : عندما تعود شقيقة " كلوديو " ، يراقبها الجيران لمعرفة رد فعلها و هي لا تدري أنّ منزلها مُداهـَم ، ولكنها تلحظ بصورة مفاجئة أن ثمة رجالا يصادرون جهاز التلفزيزن من المنزل ، و عندما يعود الشقيق و يلقي الجلاوزة القبض عليه ــ باطحين إياه أرضاً ــ ينتزع أحدهم محفظته من جيبه لتفحص أوراقه ، غير أن ما يقوم به هو أخذ ما فيها من نقود . هذان تفصيلان بقدر ما يبدوان عابرين عند البعض إلا إنهما يحملان دلالات عميقة ، فسلوك كهذا إنما يترجم غياب القانون و حضور القوة ، و يعكس حقيقة أن السلطة محمية بقوة أزلام يتطابقون معها ، بعد أن تدربوا على التجرد من شعور المواطنة و من أي شعور إنساني ، و بالتالي فإن السلطة و جلاوزتها يتقاسمان الغنيمة من دون إعلان و لا جلبة ، فيما يكون المواطنُ الأعزلُ مسلوبَ الإرادة منهوبَ الكيان . ولكن و على الرغم من كل التفاصيل التي اشتغل عليها المخرج في فيلمه ببراعة ، لا أدري كيف فاته أن نمو لحية " كلوديو " لم يكن متناسباً مع فترة اعتقاله ، خلافاً للنمو الطبيعي للـُـحى رفاقه ، فليس من المعقول أن تبدو لحية شاب كث الشعر ، في العشرينات من عمره ، كما لو كان قد مضى على نموها اسبوعان لا أكثر ، في حين أنه قد قضى أربعة أشهر حتى من دون تحمم .
ينتمي فيـــــلم ( وقائع هروب ) الى سينما ( الواقعية ) . و هو ما ينبغي أن يكون عليه ، كي يتوافق مع الهدف في التوثيق ، و بالتالي إدانة ما أقدمت عليه تلك الطغمة العسكرية ُ سيئة الصيت . و من هنا جاء نمو الأحداث تلقائياً وفق تسلسل زمني تراتبي مقبول و متناغم مع إيقاع الفيلم غير السريع ، ولكن المشحون ، عزّزهُ تصويرُ اللقطات القريبة ، و أحياناً القريبة جداً ، و التي كادت أن تكون سمة التصوير العامة في الفيلم . و من المعروف أن لقطات ــ كهذه ــ إنما تشكل اختباراً لإمكانيات الممثل التعبيرية . و في فيلم ( وقائع هروب ) هذا ، نجح جميع الممثلين على الإطلاق في الإختبار ، سواء مَن مثلوا أدوار الضحايا أو الذين مثلوا أدوار الجلادين ، فالتنافس كان حامياً حقاً ، ولكنهم ــ جميعاً ــ كانوا بارعين في الأداء و التعبير . و على الرغم من أنه تم نوعٌ من التركيز على شخصية " كلوديو " ، ربما بسبب انطلاق أحداث الفيلم من منزله ، إلا أن البطولة آلتْ ــ مع تنامي الأحداث ــ الى الجماعية .
من الممكن الإشارة الى أن عنوان الفيلم ( وقائع هروب ) قد يشي بنهايته ، التي تحتمل نجاح عملية هروب اولئك الشبان الأربعة الأبرياء ، ولكن قد يكون من المحتمل أيضاً أن الفيلم يعرض ( وقائع ) العملية ، فقط ، دون نتائجها . و هذا ما أتركه للقراء كي يقفوا عليه بأنفسهم . ولكـني أنقل إليكم هنا الوقائعَ التاريخية التي حصلت ـ فعلاً ــ للأشخاص الحقيقيين :
گويللرمـو : هاجر الى فرنسا . و في العام 1984 التقى كلوديو في إيطاليا .. و في العام نفســــــه التقى گالليـگو في اســـــبانيا . وفي العام الـتالي 1985 أدلى بشـــهادته أمام المحكمة .
فاسكو : كان تم خطفة من قبل جلاوزة الأمن للمرة الثانية ، ولكن أفرج عنه في العام 1983. و أدلى بشهادته أمام المحكمة عام 1985 أيضاً .
گالليـگو : غادر الأرجنتين بمساعدة أهله ، و تشير المعلومات الى إنه استقر في اسبانيا .
كلوديو : ذهب الى السويد ، و أصبح باحثاً فلسفياً جامعياً . و في العام 1985 مثــُـل أمام المحكمة و أدلى بشهادته .
و بعد محاولة الهروب تلك ، تم نقل باقي المعتقلين الى سجونٍ اعتيادية ، أما ( قصر النهاية ) الأرجنتيني فقد تم إحراقُه ، فيما اُحيل جميع قضاة التحقيق إلى المساءلة و الإستجواب .
و يُعتبر المخرج " إزراييل ادريان كايتانو " من مخرجي الخط الأول في الأرجنتين اليوم . يمتلك رصيداً متميزاً من الأفلام و الجوائز ، و شارك بحضور متميز في مهرجانات سينمائية عالمية كبيرة مــثل : مهــرجان ( كان ) ، مــهرجان ( سـان سبيستيان ) ، مهرجان ( هــافانا ) ، مـــهرجان ( روتردام ) ، مهرجان ( لندن ) ..... و سواها .
ولد المخــرج في ( مونتيــفــيديو ) بالأورغـــواي ، في العام 1969 . و قد نزحت عائلته الى الأرجنتين عندما كان في السادسة من عمره ، و ذلك بسبب بروز ظاهرة ( إطلاق النار على كبار السن ) في الأورغواي .. و لا أدري إذا ما كان الكاتب " كومارك مكارثي " قد استقى موضوع روايته ( لا وطن للمســـنين ) من هناك ، و من هذه الظاهرة ، أم لا . و هي الرواية التي تحولت الى فيلم بالعنوان ذاته ، من إخراج الأخوين " كوين " و حصد أربعاً من جوائز الأوسكار ، في العام 2008 ، منها جائزة أفضل فيلم ، و جائزة أفضل ممثل ثانوي .. خطفها الممثل الإسباني البارع " خافيير بارديم " .
هادي ياسين