الداخل مفقود والخارج مولود في معرض السوري قيس سلمان

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة

  • الداخل مفقود والخارج مولود في معرض السوري قيس سلمان

    الداخل مفقود والخارج مولود في معرض السوري قيس سلمان


    حكايات في المجهول ترصد الفظاعة لتحولها إلى النقيض.


    كائنات من عالم غريب

    يسافر الفنان السوري قيس سلمان بالمتلقي نحو المجهول المستوحى من الأزمات التي عاشها موطنه سوريا، ليعرفه عن حكايات أبطالها أشبه بأبطال الروايات الشهيرة، فيلقي به في عالم الأساطير والكائنات الأسطورية القادرة على تجسيد الشرور وانتقادها وتقويضها في الآن نفسه.

    يستحيل اليوم تجاهل الفظاعة كحالة مُكرسة، لذلك غالبا ما يسعى الفنان التشكيلي أمام هذه الحالة إما لاستيعابها فتحويلها إلى نقيضها، وإما تظهيرها بأساليب ومواد فنية مُختلفة. أما المُتلقي الفني، إن هو انقطع لفترة غير قصيرة عما ينتجه هذا أو ذاك الفنان، سيشعر بالفضول لمعرفة إلى أي عالم آل إليه وأيّ تحولات أو مُبارحة حكمت إيقاع لوحاته الجديدة.

    هذا هو الحال تماما مع الفنان التشكيلي السوري قيس سلمان، وغيابي عن رؤية أعماله لأكثر من ثلاث سنوات، لاسيما بعد أن أقفلت صالة أيام أبوابها في بيروت بسبب تفاقم الأزمات اللبنانية، وهي الصالة التي تبنت الفنان وساهمت في نجاحه العالمي.

    اليوم، يعرض الفنان في صالة أيام الكائنة في دبي معرضا يضم عددا من الأعمال الفنية معظمها بالحجم الكبير تحت عنوان “حكايات في المجهول”. وهذه الحكايات أراد قيس سلمان أن يحاكي عبرها نمطا من القصص المعروفة في العالم الأدبي منذ زمن طويل جدا يكون أبطالها في أحيان كثيرة حيوانات أسطورية غير أسطورية. وهي حيوانات تكتنفها غالبا غرابة ما وتفضي في نهايتها إلى رسالة أو عبرة ما. غير أن الفنان في لوحاته تلك لم يتكفل بسوق أيّ قصة من القصص التي يسردها في لوحاته إلى نهاية ما ولا كان معنيا بأن يقيم عبرة ما ولا “نصيحة” ليلقيها على المُشاهد.


    قيس سلمان ركز أعماله على أجواء الفظاعات التي اختبرها في سوريا


    وقد ذكر البيان الصحافي المرافق للمعرض بأن الفنان ترك نصه البصري مفتوحا وقابلا للتأويل ولم يقدم أي إجابة أو توضيح. أما من ناحية أخرى فقد وصل الفنان السوري في ممارسته الفنية إلى مرحلة جديدة ظلّ فيها يتناول أجواء الفظاعات التي اختبرها أولا في وطنه سوريا في فترة الحرب ولاحقا في العالم العربي والغربي على السواء، ولكن من منطلق مختلف تماما، منطلق ساهم في زعزعة مضمون لوحاته وأخذها من تصوير الشرور من رياء ونفاق وإجرام وبلادة إحساس في نفوس شخوصه إلى تقويض وتشذيب هذه الشرور عبر جعلها عادية جدا دون الخروج من أجواء أهوالها.

    والفنان وإن كان رسم الشرور طازجة في لوحاته السابقة وواضحة كعين شمس مهولة في فضاء حالك السواد، هو اليوم يصوّر مفاعيل هذه الشرور وما نتج عنها من تغيير النظرة العامة إليها. إنها شرور عادية جدا ترتبت وصُقلت جيدا وتماهت مع نمط العيش العام. وأي جلبة ضدها لن تكون مفهومة لأنها هي التي ستبدو شاذة، إذ أن الشرور التي طالما انتقدناها بكثير من السخرية السوداء باتت في صميم جينات المجتمعات المعاصرة وعنصرا أساسيا في تكوينها.

    نقول ذلك بالرغم من أن البيان الصحافي للمعرض ذكر أن الفنان في أعماله الجديدة "وضع السلبي إلى جانب الإيجابي، والشر مرافقا للخير وذلك من ضمن اللوحة الواحدة. أما السخرية السوداء فكانت ميالة إلى الإضاءة على عالم أفضل من الممكن العيش فيه.. وأن الفنان يعتبر أن كل إنسان لديه كم من الشر والخير في الآن ذاته".

    ولكن المفارقة أن ما يطغى في أعمال قيس سلمان اليوم هو أكثر من الشر الذي عادة كنا نثور عليه بعزيمة حقيقية بغية إلغائه. إنه شر تكرس عبر السنين. شرّ التهم الخير بواسطة أفواه كائناته الشريرة فهضمها ليتماهى معها من منطلق دبلوماسي ماكر.

    في هذا السياق من المجدي تذكّر أسنان كائنات الفنان في لوحاته السابقة التي جاءت لامعة وقاطعة أفرجت عنها ابتسامات صفراء واصطناعية رافقتها عيون تنظر إلينا مباشرة بكل بداهة وبلاهة مزيفة.

    وربما هنا تماما بدأ الفنان في رحلة "تطبيعه" لشخوصه، من خلال طرافتها المُقلقة حتى الإضحاك، مع واقع روّضت فيه المخاوف المُحقة وأُسكتت أبواق اليقظة. وإلى جانب جعل الفظاعة عادية ثمة أمر آخر جديد في لوحاته وهو الانتقال الواضح من الفردية إلى الجماعية القسرية.


    قيس سلمان وإن كان رسم الشرور طازجة في لوحاته السابقة وواضحة فهو اليوم يصوّر مفاعيل هذه الشرور وما نتج عنها


    انطلق من الفرد إلى الجماعات حيث "ضاعت الطاسة" كما هو التعبير الرائج. وظهر ذلك الضياع في لوحاته السردية عبر الأشكال المتصدّعة والأطراف البشرية المبتورة حينا والمتداخلة حينا آخر. وغابت شخوصه مكتملة الفظائع كما حضرت في معرض سابق حفنة نتنة من الشخصيات البشرية "المُقددة" كالنقانق العفن والمُنتفخة كالجثث المسمومة في مجموعة من اللوحات مشغولة ببراعة تعبيرية عالية.

    وإن كان في معرض سابق له تحت عنوان "مدن" دك الفنان ضمن مدن مكتظة شخوصا محبوسة الأنفاس ضاعفت من وحشيتها وساهمت في جعلها مسوخا تجتر ما يستدرجها إليه المجتمع الاستهلاكي، فهي اليوم تعوم في "مائها" العفن.

    ويحيلنا إلى هذا ما ذكره البيان الصحافي أن الفنان "ابتعد عن التسطيح باتجاه رسم الأشكال النافرة". ويضيف البيان أن الفنان ينطلق من التجريد والارتجال “في وضع الطبقات اللونية الغامقة وفاتحة الألوان ثم بقولبتها وفق العتمة والضوء حتى تبرز الأشكال".

    صحيح أنه غالبا ما لا يستسيغ أي فنان مقارنة نصه بنص فنان آخر، ولكن نجد أنفسنا مساقين إلى ذلك لتوضيح “مسألة” عالم الفنان قيس سلمان: إذا رأينا أعمال الفنان التشكيلي السوري داوود عمران الأخيرة نجد الجحيم ولكنه عالم يعج بأمزجة لونية تحاكي بحيرات غرائبية طفت على سطح لوحاته لتدخل في تفاعل مع ما يشغل سطح وأبعاد اللوحة من مخلوقات وبشر مائعة الأشكال.

    أما جحيم قيس سلمان "العادي" فهو لا يقوم على التذويب و"برمائية" الأشكال والبشر، بل على سحق الكتل ودفعها حتى حدود أطراف رقيقة ومضيئة تكاد تفصلها عن بعضها البعض. حدود مضيئة اعتبرها البيان الصحافي مشيرة إلى الخير أو إلى عالم أقل وطأة.

    ولأن “التأويل” متاح، كما ذكر البيان، يمكننا القول إننا رأينا في هذه الفسحات الضئيلة ما يحيلنا إلى ماء المشيمة الذي يزوّد الجنين بكل ما يحتاج إليه من طاقة وأكسجين. غير أنه في حالة لوحات الفنان قيس سلمان هو ماء “ضوئيّ”، إذا صحّ التعبير، يغذي الأشكال والهيئات شبه البشرية حيث يكمن أيضا السر الفظيع المُحرّك للتحولات التي تعرضت لها شخوص الفنان حتى تبدلها إلى وحوش زائغة ومتفككة المعالم ومتماهية مع محيطها ومتصالحة معه.

    ومعرضه الفني الجديد، إذا، ليس تماما بسيرة “في المجهول” لمن أراد التأمل في ماء تكوينه. إنه مجهول مغناطيسي وفاقع يجرّ العالم المعاصر إليه، الداخل إليه مفقود والخارج منه، إن أمكن ذلك، مولود.


    وجوه تجسد الشر الإنساني

    ميموزا العراوي
يعمل...
X