سارق النور .. انتهاك الجسد وهتك الروح
سينماتك: خالد ربيع السيد
قد نشاهد فيلماً قصيراً يتفوق على عشرات الافلام الطويلة؛ ويبقى ساكناً بداخلنا طوال حياتنا.. هذا ما فعله فيلم"سارق النور" لـلمخرجة البارعة إيفا داود التي توغلت بنا في معنى خفي وحميم وصادق وعصي على التفسير المنطقي المجرد، أنه فيلم يغوص في معنى مأزق الحب حين يُسرق جوهره، إذ يتحول من معنى شفيف لا تحد حدوده الانسانية ،الوجدانية والشعورية، إلى إشباع لحظي مادي حسي فاقد لأي معنى سامي؛ ومنتصر فقط للغريزة البشرية الفارغة من رحيقها الوجودي؛ تلك الغريزة التي في لحظة محمومة يكون الفعل الحسي فيها من أعذب وأروع ما في الحياة؛ وفي لحظة مقابلة ـ غير مكتملة الشروط ـ يكون فعلاً بوهيمياً وبهيمياً لحظياً نفعياً حيوانياً.. لكلا الطرفين.. هكذا هو الاشتعال الجنسي في لحظات الانتشاء المباحة ولحظات الإشباع النهمة، لذا فالفيلم ينتصر للأنثى بحكم أنها المسروقة والمسلوبة بسبب تسليم قلبها وجسدها لمن لا يستحق. وهو ينتصر أيضاً للرجل، لأن هناك أنثى ستسلبه كيانه الرجولي لسبب أو لآخر.
خديعة الحب النفعي
إذن، يصحب الفيلم مشاهده خلال 19دقيقة في سياقات حلمية، تكاد تبدو فانتازية ولكنها سرعان ما تكشف عن بعدها الواقعي الأليم (درامياً)، لكي تُفسر معنى انتهاك الجسد ـ الروح بخديعة الحب النفعي؛ الجسد حين تُسرق منه جذوته وفرحته وتحليقه، الانتهاك الذي يغتال شغف الحب ونداء الوله، ويجعلنا نتسائل: ترى كيف لقلب سُلب منه جوهر روحه أن يتغلب على خزي السلب ويستعيد نوره وانبهاره وتوقه للحياة المحبة التي تتمناها كل امرأة.. كل رجل.. كل انسان.
هل من الممكن أن يشع النور من الظلام؟ هل نحن جميعاً ضحايا حب ما؟ هل الوجع ينسانا بعد صدمة خداع ونفعية الحب الزائف؟ هل يتلاشى وجعنا؟..تلك الأسئلة وأكثر يجتهد الفيلم في الإجابة عنها. ويجد المتفرج نفسه وقد سافر بخيال ووجدانه في معاني غائرة داخله؛ في ذلك العمق العصي على التناول السطحي، لأنه هو المدخل لفهم إشكالية أن يكون الحب بلا نبض، وأن يكون الشغف حسي فج مجرد من سحره وكيمياؤه واحساسه الذي احتار فيه المحبون و الشعراء والأدباء والمتصوفة.
يدور العمل، الذي نال 188 جائزة في مهرجانات عالمية واقليمية وعربية وحظي بعروض في بلدان وعواصم ومراكز ثقافية وأندية خاصة، يدور حول فقدان "روح الحب.. شغف الحب"، حول خيبات البشر عندما تصبح النساء كئيبات خاليات من الحيوية، وعندما يصبح الرجال ذئاب سارقي الفرحة، ويتحول الواحد منهم إلى زئر نساء.
سارق وضحية
تبدأ القصة بشخصية "أدهم- يؤدي الدور أنغيل دي ميغل" الذي يبدو وديعاً ممتليء بالرجولة والجاذبية والوسامة، وكل ما يفكر فيه أجساد النساء لأنها طريقه للإنتقام منهن. فكل ما يدور بخلده هو إيقاع فرائسه في شباكه والاستحواذ على نورهن، ثم نعرج على البطلة وكيف تغيرت شخصية "سوليين- ماريا بيدروفيجو"، بعد انتهاكها وسرقة نورها وسعيها للإنتقام.
تبدو مشاعر الممثلين، ملامح وجوههم وتعبيراتهم ومكياجهم، وكل تفصيل في أدائهم كان نوعاً من البوح الشخصي من خلال سبر الفيلم للداخل الإنساني العميق للشخصيات، إضافة إلى إمكانية إسقاط الموضوع المطروح في الفيلم على كثير من القضايا الحياتية. مثل سرقة روح الوطن وحيويته وزهاؤه. لتصبح المدن التي نعيش فيها قاتمة غائمة يترصدها البرق والرعد من هنا وهناك، كما فعلت إيفا في الثواني الأولى لإستهلال الفيلم... في هذه المدن ذات الطاقة السلبية تدور قصة أدهم وسوليين ونساء أخريات مسلوبات الحرية والنور المشع بترياق الحياة.
تتحكم عدسة المخرجة المبدعة بالضوء في اللقطات الخارجية ببراعة، تعبيرها المجازي الفانتزي للنور عندما يرحل من كيان الضحية، وعندما يحل مرة أخرى، فكرة استعارة النور في حد ذاتها لا تخلو من الشاعرية الايحائية، وهنا تكمن إبداعية السيناريو الذي كتبته إيفا.. كذلك توظيف الضوء في المشاهد الداخلية التي ساهمت في تكوين صورة بألوان تنسجم مع فكرة الفيلم وقصّته، لتخلق صورة تعبيرية بصرية ناضجة.
الفيلم اعتمد على ممثلين إسبانيين بأشكالهم القريبة من العرب، فتكون طاقم الفيلم من: أنخيل دي ميغيل (أدهم) ، تشيما مورو (Chef)، ماريا بيدروفيخو (سولين)، ربيكا رولدان (ماريا)، جوليا فورنييه (سارة) ، أليشا لوبو (إيفا).
لغة سينمائية عالية
دون شك يحمل “سارق النور” لغة سينمائية عالية في تصويره ومونتاجه؛ في حين تأتي الموسيقى لـ خورخي ماغاس جزءاً أساسياً في حكايته، وذلك بملائمتها مع محتوى الفيلم ذي الحوارات القليلة والجمل القصيرة، وملامستها لتسلسل اللقطات بصرياً، حيث الشعور بها أشدّ تأثيراً ووقعاً في دخيلة المشاهد لأنها تصنع الجو العام للفيلم. إنها الموسيقى والمؤثر الصوتي الباعث على الرهبة والقلق والخوف من فعل الجريمة.
كذلك قدرتها على صياغة لغز تدور حوله القصّة، لحظة الكشف عن مخبأ “النور” الذي كان يسرقه أدهم من ضحاياه من النساء ويضعه في جرار زجاجية صغيرة (مرطبانات مغلقة) مع رقم وصورة لكل واحدة منهنّ. إنه فعل الممارس للسرقة المحترف المتلذذ والمريض أيضاً. نراه وقد أغلق الجرة رقم 28 ثم هيأ الـ 29 لسارة ، ليستعد للضحية رقم 30. لكن الجرة الأولى خبئها بحرص وكان يستأنس بها، نعم كانت سوليين حبه الحقيقي تذكره بنفسه قبل أن تنسرق شعلته وتوهجه ونوره، لذا هي الجره الوحيده التي عليها صورة فتوغرافية مشتركة.. هو وهي.
لا شيء يفسر نهم أدهم لإرتكاب سرقاته، لكن إحساساً قوياً يتملك المشاهد بأنه مأزوم نفسياً وعاطفياً. السرد يلمّح بأنه تعرض لأمر ما جعله يحقد على النساء. ومن الأرجح أن سوليين هي التي فعلت.. هكذا هي جانية وأقنعت نفسها بأنها مجني عليها.. لغة رمزية رائعة تحيك خيوط السرد.
في الفيلم يتكامل النصّ والإخراج والمؤثرات البصرية والسمعية مع الحوار. تلك التوليفة التي تجعل لأفلام السينما الجادة والذكية خلودها داخلنا. أصوات الشخصيات الطبيعية، التون أو النبرة، الملابس المعتادة ، المكياج الحاذق الذي يعكس الحالة النفسية والوجدانية للضحية قبل وبعد غدرها، سولين الشاحبة بشعرها الباهت المقصف وخطواتها المترنحة، وسارة المنهارة، المكياج ينقل ذلك ببراعة، ثم الديكور البسيط المتوائم مع العصر بعيداً عن المبالغة والغرابة التي نراها في أفلام الخيال الفانتزي والعلمي، كلها عناصر أثّرت على طبيعية أداء الممثلين بوضعهم في عالم واقعي؛ وكأن الكاميرا أتت وتلصصت عليهم وسردت قصتهم.. إنها سينما الحقيقة.
صراع أدهم وسواليين
ولكن رغم أن حبكة الفيلم تحمل منطقية التوقع التي يمكن التنبؤ بها بمرور الدقائق الأولى من الفيلم، إلّا أن السيناريو المتقن في نظمه، والذي كتبته داود بكثير من التمكن، تجعل المُشاهد مترقباً ومتفاجئاً حتى آخر مشهد من حكاية “أدهم وسوليين” كشخصيات تمارس الخداع والاغتصاب المتستر بإسم الحب، فهو سارق النور؛ سارق شغف الأرواح؛ سارق العشق ووهج التوق للمتحابين.. وهي ينطبق عليها القول: كما تدين تدان.
لم تترك سوليين أدهم يهنأ بنشواته الآثمة، إنما طاردته وحاولت استرجاع ما نهب منها، وتوصلت الى مخبأه وحررت ضحاياه، أطلقت نورهم المحتجز في جرار مع صورهن وأرقام تسلسل غدرهن. عاد كل نور الى ضحيته‘ عدا نورها هي. لكن أدهم أدرك جناياته وتيقن من أن نور سوليين، حبه الأقوى، لا بد أن يعود إليها.
ليس فيلم نوار
لكن فيلم سارق النور علينا أن ندرك أنه يقترب من أسلوب أفلام "نوار"، أو الافلام السوداء التي سادت في السينما العالمية في الأربعينيات و الخمسينيات من القرن الماضي، لأنها لا تقتصر سماتها على القصة المبنية على الجريمة الفعلية فحسب، وليس المعنوية النفسية كما في فيلمنا هذا، بل أن أفلام النوار تتأثر بأسلوب السرد من جهة المونتاج والايقاع والتنقل بين عدة خطوط سردية، وبالتشويق والغموض، وأيضاً بزوايا التصوير وأحجام الكوادر، والإضاءة وأسلوب الحوار المراوغ، والأجواء القاتمة المحيطة بالفيلم ككل. فيلم سارق النور ينتمي أكثر إلى خليط من السينما التعبيرية الألمانية والمدرسة الواقعية الشاعرية الفرنسية. وبالطبع يتلبس بالرمزية لأنه فيلم يدفع بالمشاهد للتركيز أكثر خلال وقت المشاهدة حتى لا تضيع عليه التلميحات الرمزية المبطنة التي قامت عليه حبكته وفكرته.
سينما العالم
سينماتك: خالد ربيع السيد
قد نشاهد فيلماً قصيراً يتفوق على عشرات الافلام الطويلة؛ ويبقى ساكناً بداخلنا طوال حياتنا.. هذا ما فعله فيلم"سارق النور" لـلمخرجة البارعة إيفا داود التي توغلت بنا في معنى خفي وحميم وصادق وعصي على التفسير المنطقي المجرد، أنه فيلم يغوص في معنى مأزق الحب حين يُسرق جوهره، إذ يتحول من معنى شفيف لا تحد حدوده الانسانية ،الوجدانية والشعورية، إلى إشباع لحظي مادي حسي فاقد لأي معنى سامي؛ ومنتصر فقط للغريزة البشرية الفارغة من رحيقها الوجودي؛ تلك الغريزة التي في لحظة محمومة يكون الفعل الحسي فيها من أعذب وأروع ما في الحياة؛ وفي لحظة مقابلة ـ غير مكتملة الشروط ـ يكون فعلاً بوهيمياً وبهيمياً لحظياً نفعياً حيوانياً.. لكلا الطرفين.. هكذا هو الاشتعال الجنسي في لحظات الانتشاء المباحة ولحظات الإشباع النهمة، لذا فالفيلم ينتصر للأنثى بحكم أنها المسروقة والمسلوبة بسبب تسليم قلبها وجسدها لمن لا يستحق. وهو ينتصر أيضاً للرجل، لأن هناك أنثى ستسلبه كيانه الرجولي لسبب أو لآخر.
خديعة الحب النفعي
إذن، يصحب الفيلم مشاهده خلال 19دقيقة في سياقات حلمية، تكاد تبدو فانتازية ولكنها سرعان ما تكشف عن بعدها الواقعي الأليم (درامياً)، لكي تُفسر معنى انتهاك الجسد ـ الروح بخديعة الحب النفعي؛ الجسد حين تُسرق منه جذوته وفرحته وتحليقه، الانتهاك الذي يغتال شغف الحب ونداء الوله، ويجعلنا نتسائل: ترى كيف لقلب سُلب منه جوهر روحه أن يتغلب على خزي السلب ويستعيد نوره وانبهاره وتوقه للحياة المحبة التي تتمناها كل امرأة.. كل رجل.. كل انسان.
هل من الممكن أن يشع النور من الظلام؟ هل نحن جميعاً ضحايا حب ما؟ هل الوجع ينسانا بعد صدمة خداع ونفعية الحب الزائف؟ هل يتلاشى وجعنا؟..تلك الأسئلة وأكثر يجتهد الفيلم في الإجابة عنها. ويجد المتفرج نفسه وقد سافر بخيال ووجدانه في معاني غائرة داخله؛ في ذلك العمق العصي على التناول السطحي، لأنه هو المدخل لفهم إشكالية أن يكون الحب بلا نبض، وأن يكون الشغف حسي فج مجرد من سحره وكيمياؤه واحساسه الذي احتار فيه المحبون و الشعراء والأدباء والمتصوفة.
يدور العمل، الذي نال 188 جائزة في مهرجانات عالمية واقليمية وعربية وحظي بعروض في بلدان وعواصم ومراكز ثقافية وأندية خاصة، يدور حول فقدان "روح الحب.. شغف الحب"، حول خيبات البشر عندما تصبح النساء كئيبات خاليات من الحيوية، وعندما يصبح الرجال ذئاب سارقي الفرحة، ويتحول الواحد منهم إلى زئر نساء.
سارق وضحية
تبدأ القصة بشخصية "أدهم- يؤدي الدور أنغيل دي ميغل" الذي يبدو وديعاً ممتليء بالرجولة والجاذبية والوسامة، وكل ما يفكر فيه أجساد النساء لأنها طريقه للإنتقام منهن. فكل ما يدور بخلده هو إيقاع فرائسه في شباكه والاستحواذ على نورهن، ثم نعرج على البطلة وكيف تغيرت شخصية "سوليين- ماريا بيدروفيجو"، بعد انتهاكها وسرقة نورها وسعيها للإنتقام.
تبدو مشاعر الممثلين، ملامح وجوههم وتعبيراتهم ومكياجهم، وكل تفصيل في أدائهم كان نوعاً من البوح الشخصي من خلال سبر الفيلم للداخل الإنساني العميق للشخصيات، إضافة إلى إمكانية إسقاط الموضوع المطروح في الفيلم على كثير من القضايا الحياتية. مثل سرقة روح الوطن وحيويته وزهاؤه. لتصبح المدن التي نعيش فيها قاتمة غائمة يترصدها البرق والرعد من هنا وهناك، كما فعلت إيفا في الثواني الأولى لإستهلال الفيلم... في هذه المدن ذات الطاقة السلبية تدور قصة أدهم وسوليين ونساء أخريات مسلوبات الحرية والنور المشع بترياق الحياة.
تتحكم عدسة المخرجة المبدعة بالضوء في اللقطات الخارجية ببراعة، تعبيرها المجازي الفانتزي للنور عندما يرحل من كيان الضحية، وعندما يحل مرة أخرى، فكرة استعارة النور في حد ذاتها لا تخلو من الشاعرية الايحائية، وهنا تكمن إبداعية السيناريو الذي كتبته إيفا.. كذلك توظيف الضوء في المشاهد الداخلية التي ساهمت في تكوين صورة بألوان تنسجم مع فكرة الفيلم وقصّته، لتخلق صورة تعبيرية بصرية ناضجة.
الفيلم اعتمد على ممثلين إسبانيين بأشكالهم القريبة من العرب، فتكون طاقم الفيلم من: أنخيل دي ميغيل (أدهم) ، تشيما مورو (Chef)، ماريا بيدروفيخو (سولين)، ربيكا رولدان (ماريا)، جوليا فورنييه (سارة) ، أليشا لوبو (إيفا).
لغة سينمائية عالية
دون شك يحمل “سارق النور” لغة سينمائية عالية في تصويره ومونتاجه؛ في حين تأتي الموسيقى لـ خورخي ماغاس جزءاً أساسياً في حكايته، وذلك بملائمتها مع محتوى الفيلم ذي الحوارات القليلة والجمل القصيرة، وملامستها لتسلسل اللقطات بصرياً، حيث الشعور بها أشدّ تأثيراً ووقعاً في دخيلة المشاهد لأنها تصنع الجو العام للفيلم. إنها الموسيقى والمؤثر الصوتي الباعث على الرهبة والقلق والخوف من فعل الجريمة.
كذلك قدرتها على صياغة لغز تدور حوله القصّة، لحظة الكشف عن مخبأ “النور” الذي كان يسرقه أدهم من ضحاياه من النساء ويضعه في جرار زجاجية صغيرة (مرطبانات مغلقة) مع رقم وصورة لكل واحدة منهنّ. إنه فعل الممارس للسرقة المحترف المتلذذ والمريض أيضاً. نراه وقد أغلق الجرة رقم 28 ثم هيأ الـ 29 لسارة ، ليستعد للضحية رقم 30. لكن الجرة الأولى خبئها بحرص وكان يستأنس بها، نعم كانت سوليين حبه الحقيقي تذكره بنفسه قبل أن تنسرق شعلته وتوهجه ونوره، لذا هي الجره الوحيده التي عليها صورة فتوغرافية مشتركة.. هو وهي.
لا شيء يفسر نهم أدهم لإرتكاب سرقاته، لكن إحساساً قوياً يتملك المشاهد بأنه مأزوم نفسياً وعاطفياً. السرد يلمّح بأنه تعرض لأمر ما جعله يحقد على النساء. ومن الأرجح أن سوليين هي التي فعلت.. هكذا هي جانية وأقنعت نفسها بأنها مجني عليها.. لغة رمزية رائعة تحيك خيوط السرد.
في الفيلم يتكامل النصّ والإخراج والمؤثرات البصرية والسمعية مع الحوار. تلك التوليفة التي تجعل لأفلام السينما الجادة والذكية خلودها داخلنا. أصوات الشخصيات الطبيعية، التون أو النبرة، الملابس المعتادة ، المكياج الحاذق الذي يعكس الحالة النفسية والوجدانية للضحية قبل وبعد غدرها، سولين الشاحبة بشعرها الباهت المقصف وخطواتها المترنحة، وسارة المنهارة، المكياج ينقل ذلك ببراعة، ثم الديكور البسيط المتوائم مع العصر بعيداً عن المبالغة والغرابة التي نراها في أفلام الخيال الفانتزي والعلمي، كلها عناصر أثّرت على طبيعية أداء الممثلين بوضعهم في عالم واقعي؛ وكأن الكاميرا أتت وتلصصت عليهم وسردت قصتهم.. إنها سينما الحقيقة.
صراع أدهم وسواليين
ولكن رغم أن حبكة الفيلم تحمل منطقية التوقع التي يمكن التنبؤ بها بمرور الدقائق الأولى من الفيلم، إلّا أن السيناريو المتقن في نظمه، والذي كتبته داود بكثير من التمكن، تجعل المُشاهد مترقباً ومتفاجئاً حتى آخر مشهد من حكاية “أدهم وسوليين” كشخصيات تمارس الخداع والاغتصاب المتستر بإسم الحب، فهو سارق النور؛ سارق شغف الأرواح؛ سارق العشق ووهج التوق للمتحابين.. وهي ينطبق عليها القول: كما تدين تدان.
لم تترك سوليين أدهم يهنأ بنشواته الآثمة، إنما طاردته وحاولت استرجاع ما نهب منها، وتوصلت الى مخبأه وحررت ضحاياه، أطلقت نورهم المحتجز في جرار مع صورهن وأرقام تسلسل غدرهن. عاد كل نور الى ضحيته‘ عدا نورها هي. لكن أدهم أدرك جناياته وتيقن من أن نور سوليين، حبه الأقوى، لا بد أن يعود إليها.
ليس فيلم نوار
لكن فيلم سارق النور علينا أن ندرك أنه يقترب من أسلوب أفلام "نوار"، أو الافلام السوداء التي سادت في السينما العالمية في الأربعينيات و الخمسينيات من القرن الماضي، لأنها لا تقتصر سماتها على القصة المبنية على الجريمة الفعلية فحسب، وليس المعنوية النفسية كما في فيلمنا هذا، بل أن أفلام النوار تتأثر بأسلوب السرد من جهة المونتاج والايقاع والتنقل بين عدة خطوط سردية، وبالتشويق والغموض، وأيضاً بزوايا التصوير وأحجام الكوادر، والإضاءة وأسلوب الحوار المراوغ، والأجواء القاتمة المحيطة بالفيلم ككل. فيلم سارق النور ينتمي أكثر إلى خليط من السينما التعبيرية الألمانية والمدرسة الواقعية الشاعرية الفرنسية. وبالطبع يتلبس بالرمزية لأنه فيلم يدفع بالمشاهد للتركيز أكثر خلال وقت المشاهدة حتى لا تضيع عليه التلميحات الرمزية المبطنة التي قامت عليه حبكته وفكرته.
سينما العالم