وليد رشيد القيسي:
متاهات بلا حدود وشواهد لكينونات تبدو غير مكتملة في عين رائيها.
ظاهرة اللاتعيُّن (Indetermination) في الدلالة والشكل صفة ملازمة لأعمال القيسي، وهو الأمر الذي ألاحظه كلما شاهدتُ أعماله في مشغله الكائن في جبل عمان المكتظ بمنجزاته الفنية، سواء في لوحاته أو أعمال السيراميك، و العابق برائحة البخور الذي يتراقص دخانه وكأنما يرسم ذلك اللاتعين مرة أخرى في الفضاء، ويبدو هذا اللاتعين واضحاً في جميع أعماله، مما يؤكد قصدية القيسي في تصعيد الالتباس والقلق لدى المتلقي، فقد أسقط عن أشكاله أجزاء من طبائعها التي تميزها عن غيرها وتحددها.
حرص وليد رشيد القيسي على عدم الالتزام في أغلب أعماله بأنساق تعتمد على ضابط تُدرك فيه البداية والنهاية، وهذا ما نلاحظه جلياً عندما ننظر إلى صفحات دفاتره التي تتسم بتتابع مع خلوها من أي اشارة هادية لعين الرائي، حتى أن صفحات هذه الدفاتر هي الأخرى تحمل استفزازاً ونوعاً من المماحكة البصرية طالما صرح بها وليد أكثر من مرة وذلك لقناعته برجاحة رؤيته بوجوب مشاكسة أنساق القراءة المألوفة، مثال ذلك الشقوق التي تنتشر على سطوح أعماله الفخارية والتي لا تنجو منها حتى لوحاته الزيتية الخشنة الملمس والمستوحاة من شقوق البيئة الصخرية المحيطة بعمان.
لقد ذكر لي وليد - إثْر عودته من اليابان حيث كان فنانا مقيماً - كيف يتعامل اليابانيون مع تشقق الفخار وتكسره بنوع من التقديس والتمجيد، حدَ أنهم يعالجون هذه التشققات بماء الذهب إمعانا في تأكيد وجودها معتقدين بأن هذه الشقوق الذهبية ما هي إلا محاكاة لحياتنا الممتلئة بالخدوش عبر الزمان والأحداث.
ليس أكثر دلالة على قناعة القيسي بمذهبه في العمل الفني أكثر من قيامه بتحطيم عمل له من السيراميك في 1984 ليعيد تشكيل ذلك الحطام من جديد مؤكداً أنه الآن أصبح عملا كاملاً.
باختصار، وليد فنان مولعٌ بالخلل أينما وجِد كالأطلال والدوارس، وكل ما اعترته عوامل التعرية، ذلك لأنها شواهد لموجودات أصابها العطب وهذا الأخير بدوره يعكس ما في نفسه من أسباب حزن عميق، حدثني عنه، وكيف اعترى حياته الداخلية وصبغها بالوانه القاتمة بعد تلك المهالك التي واجهها إبان خدمته العسكرية في الحرب العراقية الإيرانية .
وقد تركت هذه المعاناة في أعماقه أثراً بالغاً وإحساساً باللاجدوى تمثل في تكراره لكلمة (مشيها) بالعامية، وكأنه بها يتجنب المحددات حتى في حياته الشخصية وما قد تقتضيه من أمور ملحة، إنها عبارته الأثيرة التي يستنجد بها لحجب ذلك الأفق المصنوع من اللاجدوى الممتد امامه بلا نهاية.
يهتم القيسي في الكثير من مجسماته بالأشكال العضوية، فهي غالباً كما لو أنها استعادة لوسائل توضيحية من علم المورفولوجيا، لكن من زاوية إبداعية تعتمد حالة غير مستقرة ما بين النزعة التشخيصية والتجريدية، لذا جاءت الكثير من مجسماته في صيغ إيمائية تستدعي أشكالاً عضوية كالعظام والنباتات.
لقد أستلهم وليد من التضاريس الصخرية التي تحيط به في عمان، رسْمَ عدد من اللوحات الزيتية التي تشكل في تصوري إنجازاً فيه تجديد على صعيد الفن العراقي.
ومثل جل الفنانين يولد العمل الفني عنده من غير فكرة سابقة، إذ إن العمل يتجسد وحده ويتخذ لنفسه تشكلهُ، وبناء عليه، فإن منجزه الفني يأتي من مناطق هو نفسه يجهلها… مناطق يعتريها التوافق بين سلوكه الانفعالي ووعيه الرقيب.
من اقوال وليد عبارته: "إن أي عمل فني إذا أعد له مسبقاً يولد ميتاً" وهو الموقف الفكري الذي يدفعه إلى أن ينجز أعماله من غير أن يعير اهتماماً حتى للمهارات الفنية، حيث أنه يرى مزايا أخرى أكثر أهمية على حد قوله، وهي: "أن الفن يذهب إلى ماهو أبعد من المهارة ليعكس عمق الخبرة الإبداعية ومدى تعقيدها".
نماذجه الفنية تتسم مراراً بمظهر حر وسليقي، لانها لا تخضع لـ"خطة ذهنية مسبقة" بل من قرارات آنية تتصف بالبداهة، وربما كان عدم خضوعه هذا لخطة ذهنية مسبقة، قد استمده من إيمان السوريالية بالتلقائية كوسيلة لصنع اللوحات، وهو ما ندركه في غير مرة ضمن السياقات التي تنتظم مفرداته البصرية داخلها.
عمار داود
السويد
خريف 2022
متاهات بلا حدود وشواهد لكينونات تبدو غير مكتملة في عين رائيها.
ظاهرة اللاتعيُّن (Indetermination) في الدلالة والشكل صفة ملازمة لأعمال القيسي، وهو الأمر الذي ألاحظه كلما شاهدتُ أعماله في مشغله الكائن في جبل عمان المكتظ بمنجزاته الفنية، سواء في لوحاته أو أعمال السيراميك، و العابق برائحة البخور الذي يتراقص دخانه وكأنما يرسم ذلك اللاتعين مرة أخرى في الفضاء، ويبدو هذا اللاتعين واضحاً في جميع أعماله، مما يؤكد قصدية القيسي في تصعيد الالتباس والقلق لدى المتلقي، فقد أسقط عن أشكاله أجزاء من طبائعها التي تميزها عن غيرها وتحددها.
حرص وليد رشيد القيسي على عدم الالتزام في أغلب أعماله بأنساق تعتمد على ضابط تُدرك فيه البداية والنهاية، وهذا ما نلاحظه جلياً عندما ننظر إلى صفحات دفاتره التي تتسم بتتابع مع خلوها من أي اشارة هادية لعين الرائي، حتى أن صفحات هذه الدفاتر هي الأخرى تحمل استفزازاً ونوعاً من المماحكة البصرية طالما صرح بها وليد أكثر من مرة وذلك لقناعته برجاحة رؤيته بوجوب مشاكسة أنساق القراءة المألوفة، مثال ذلك الشقوق التي تنتشر على سطوح أعماله الفخارية والتي لا تنجو منها حتى لوحاته الزيتية الخشنة الملمس والمستوحاة من شقوق البيئة الصخرية المحيطة بعمان.
لقد ذكر لي وليد - إثْر عودته من اليابان حيث كان فنانا مقيماً - كيف يتعامل اليابانيون مع تشقق الفخار وتكسره بنوع من التقديس والتمجيد، حدَ أنهم يعالجون هذه التشققات بماء الذهب إمعانا في تأكيد وجودها معتقدين بأن هذه الشقوق الذهبية ما هي إلا محاكاة لحياتنا الممتلئة بالخدوش عبر الزمان والأحداث.
ليس أكثر دلالة على قناعة القيسي بمذهبه في العمل الفني أكثر من قيامه بتحطيم عمل له من السيراميك في 1984 ليعيد تشكيل ذلك الحطام من جديد مؤكداً أنه الآن أصبح عملا كاملاً.
باختصار، وليد فنان مولعٌ بالخلل أينما وجِد كالأطلال والدوارس، وكل ما اعترته عوامل التعرية، ذلك لأنها شواهد لموجودات أصابها العطب وهذا الأخير بدوره يعكس ما في نفسه من أسباب حزن عميق، حدثني عنه، وكيف اعترى حياته الداخلية وصبغها بالوانه القاتمة بعد تلك المهالك التي واجهها إبان خدمته العسكرية في الحرب العراقية الإيرانية .
وقد تركت هذه المعاناة في أعماقه أثراً بالغاً وإحساساً باللاجدوى تمثل في تكراره لكلمة (مشيها) بالعامية، وكأنه بها يتجنب المحددات حتى في حياته الشخصية وما قد تقتضيه من أمور ملحة، إنها عبارته الأثيرة التي يستنجد بها لحجب ذلك الأفق المصنوع من اللاجدوى الممتد امامه بلا نهاية.
يهتم القيسي في الكثير من مجسماته بالأشكال العضوية، فهي غالباً كما لو أنها استعادة لوسائل توضيحية من علم المورفولوجيا، لكن من زاوية إبداعية تعتمد حالة غير مستقرة ما بين النزعة التشخيصية والتجريدية، لذا جاءت الكثير من مجسماته في صيغ إيمائية تستدعي أشكالاً عضوية كالعظام والنباتات.
لقد أستلهم وليد من التضاريس الصخرية التي تحيط به في عمان، رسْمَ عدد من اللوحات الزيتية التي تشكل في تصوري إنجازاً فيه تجديد على صعيد الفن العراقي.
ومثل جل الفنانين يولد العمل الفني عنده من غير فكرة سابقة، إذ إن العمل يتجسد وحده ويتخذ لنفسه تشكلهُ، وبناء عليه، فإن منجزه الفني يأتي من مناطق هو نفسه يجهلها… مناطق يعتريها التوافق بين سلوكه الانفعالي ووعيه الرقيب.
من اقوال وليد عبارته: "إن أي عمل فني إذا أعد له مسبقاً يولد ميتاً" وهو الموقف الفكري الذي يدفعه إلى أن ينجز أعماله من غير أن يعير اهتماماً حتى للمهارات الفنية، حيث أنه يرى مزايا أخرى أكثر أهمية على حد قوله، وهي: "أن الفن يذهب إلى ماهو أبعد من المهارة ليعكس عمق الخبرة الإبداعية ومدى تعقيدها".
نماذجه الفنية تتسم مراراً بمظهر حر وسليقي، لانها لا تخضع لـ"خطة ذهنية مسبقة" بل من قرارات آنية تتصف بالبداهة، وربما كان عدم خضوعه هذا لخطة ذهنية مسبقة، قد استمده من إيمان السوريالية بالتلقائية كوسيلة لصنع اللوحات، وهو ما ندركه في غير مرة ضمن السياقات التي تنتظم مفرداته البصرية داخلها.
عمار داود
السويد
خريف 2022