أطفال الضباب».. وثائقي عن «اختطاف العروس» عند أقلية الـ«همونغ»
في نوفمبر 6, 2022
رام الله ـ «سينماتوغراف» : يوسف الشايب
يمكن وصف فيلم “أطفال الضباب” للمخرجة الفيتنامية “ها لي دييم”، الذي عرض ضمن فعاليات مهرجان أيام فلسطين السينمائية بدورته التاسعة، إنه “وثائقي من طراز رفيع”، علاوة على كونه مؤثّراً ومؤلماً، فعبر تسليط الضوء على تقليد “اختطاف العروس”، وهي تحديداً هنا “دي” ابنة الأربعة عشر عاما ونصف. تنقلنا “دييم” إلى حيث وادي الضباب ما بين تلك الجبال الواقعة في شمال غربي فيتنام، حيث تعيش أقلية “همونغ”، فنعيش هناك الفقر المدقع، والأحلام الطفولية الصغيرة المهشَّمة كشاشة الهاتف الجوال، للطالبة المدرسية التي تجد نفسها عروساً مُفترضة، لمجرد أنها خاضت تجربة الهرب مع يافع يكبرها بقليل، لغرض الزواج، كما فعلت والدتها في مثل سنها، وشقيقتها الكبرى، وهو طقس عادةً ما يكون مقبولاً بالتزامن مع الاحتفال بالعام الجديد.
لوهلة، يعتقد المشاهد أن مجتمع الـ”همونغ”، نسويٌّ خاص، باعتبار أن جُلَّ الأعمال المنزلية وحتى العمل الزراعي من نصيبهن، بغض النظر عن أعمارهن، وبينهن “دي” التي انقلبت على الأرض ذات مرَّة حين حاولت حمل رزمة ثقيلة وطويلة من جذوع أشجار ضخمة دفعة واحدة، قبل أن تواصل عملها بنقل الحمولة مجزَّأة بواقع جذعين في كل مرَّة، بينما يقضي والدها وغالبية الرجال جُلّ يومياتهم سكارى.
ومع ذلك فإن كاميرا “دييم”، وبعبقرية وهشاشة، أظهرت لنا الطفلة “دي” بصورة مغايرة، حيث الوجنتان المتورِّدتان رغم الوحل المحيط بها من كل جانب، وحيث الشخصية الرقيقة الطافحة بالأنوثة، الباحثة عن الحب، ولكنها في ذات الوقت الباحثة عن صنع مستقبلها بنفسها، بعيداً عن التقاليد المجتمعية التي كادت تنقلها زوجة طفلة، يحملها عريسها وأسرته عنوة إلى منزل الزوجية، وعلى مرأى من أهلها تبعاً لطقس “الاختطاف” الذي ذهبت إليه بمحض إرادتها، ولا ينفك إلا بطقس انفصال يشتمل على مشروبٍ يتوجب على كلٍّ من العروسين المفترضين شُرْبه، كلٌّ من كأسه، فتشربه هي الراغبة في إكمال دراستها، والنادمة على الفرار إلى حيث هو وأسرته مع بداية العام الجديد، دون إتمام مراسم الزفاف، رغم الاتفاق ما بين الأسرتين لاحقاً على المهر بالدولار والدجاج وأرطال لحم الخنزير وعشرات لترات النبيذ، وغيرها.
سعت “دييم” لإنقاذها أكثر من مرّة، ليس عبر كاميراته التي رصدت حياتها لثلاثة أعوام متتالية، بل عبر تدخُّلاته اللفظية، خاصةً عند ركْلِها وجرِّها باتجاه منزل من واعدته دون وعي، قبل أن تنجح في انتزاع حريَّتها إلى حين، في ذلك المجتمع المهشَّم، حيث ما زالت الإناث يعشن اضطهادات مركبة على أكثر من مستوى، وحين التقاليد التي لا بد أن تثير دهشة كل من يشاهدها من مناطق بعيدة عن تلك الجغرافيا الآسيوية، حيث الكثير من الظلم، رغم القهقهات واللهو وانتظار رسالة من هذا أو ذاك عبر “فيسبوك”، في إشارة إلى ما تُحَقِّقه التكنولوجيا الحديثة من اقتحامات ناجحة لحيوات من يعِشْنَ أو يعيشون حياة لا يوجد بها تواصل ناجح ما بين أفراد الأسرة الواحدة، خاصةً إذا باتت الفتاة في سن البلوغ، وكان والدها كغالبية الرجال في أرض الضباب، من معشر المخمورين.
ورغم تقشف الفيلم إنتاجياً، إلا أن براعة المخرجة جعلت منه لوحة مشهدية جميلة تحمل كل مقوِّمات النجاح، فعبر ملاحقة الكاميرا لشخص الطفلة “دي” عن قرب، نراه ليس فقط يسلط الضوء على قومية مهملة كـ”الهومنغ” الفيتناميّين، بل يناقش موضوعات عدَّة تندرج في إطار حقوق الإنسان، بصورة أنيقة تنتصر للمهمشين والمهشمين، في رحلة سينمائية نادرة إلى مكان، لعل الكثيرين منّا لم يكونوا يعرفون عنه الكثير قبل الفيلم، والذي قد يراه البعض مُملاً، لكن الرتابة هنا، وإن لم تصل إلى حد السلحفائية في خطاها، تتناسب وطبيعة الحياة الرتيبة والمُمِلَّة التي يعيشها سكان تلك الجغرافيا الضبابية، التي تُخفي ملامح الكثيرين وأحلامهم ويومياتهم المطحونة، لولا هذه المغامرات السينمائية، كفيلم “ها لي دييم”، وأشباهه.