لأول مرة بالعربية أنطولوجيا لـ88 شاعرا من السكان الأصليين لأميركا
تبقى ثقافة السكان الأصليين لأميركا التي أبيدت تقريبا بلغاتها ومختلف مكوناتها الجمالية والأسطورية والاجتماعية وغيرها محل بحث يغري بالنبش فيه، ولعل هجرة هذه الثقافات وتواصلها ولو بشكل آخر في اللغة الإنجليزية مثلا أبرز طرق البحث. وقد مثل شعر هؤلاء قوة فريدة لكنها ظلت منسية، وإن كان هناك بعض الاطلاع عليها في الغرب فإن العرب يجهلونها تقريبا لغياب ترجمات لها، وهو ما حاول المترجم والشاعر السوري أسامة إسبر تجاوزه.
تشكل الأنطولوجيا التي ضمت 88 شاعرا من الأميركيين المنحدرين من السكان الأصليين، والتي جمعها وترجمها عن الإنجليزية الشاعر والمترجم السوري أسامة إسبر، نافذة كاشفة عن تنوع وثراء وغنى واختلاف عميق في الرؤى والأفكار عن تلك المطروحة داخل عموم المشهد الشعري الأميركي.
من بين هؤلاء الشعراء الذين ضمتهم الأنطولوجيا الأولى من نوعها في اللغة العربية نذكر جوزف بروشاك، جون ترودل، سيمون جوزف أورتيز، جوي هارجو، شيرمان أليكسي، لانس هينسون، لويز إيريدريك، أبيغيل شابيتنوي، تريا بلو واكبا، وليم أوانداسان وجيمس نورثروب.
محاولة فردية
حول المختارات، الصادرة أخيرا عن دار خطوط وظلال، والدافع إلى ترجمة هذه القصائد يقول أسامة إسبر “حين يضع المرء مختارات شعرية بين دفتي كتاب يفعل هذا انطلاقا من ذائقته وثقافته الشعرية وما يراه متميزا في النتاج الشعري، وقد تختلف الأهداف بين واضع مختارات وآخر. وحين يحدث الأمر داخل لغة واحدة، عادة ما يكون الهدف هو إبراز شعراء مغفَلين أو منسيين، أو تأكيد اتجاه شعري معين، أو أسلوب جديد في الكتابة الشعرية لم يحصل على حقه من الاهتمام والقراءة”.
ويضيف “يلجأ واضعو المختارات عادة إلى الاعتماد على الشعراء أنفسهم ويطلبون منهم أن يرسلوا نصوصهم، أو تقوم لجنة متخصصة بجمع المختارات، فيما توضع مختارات أخرى وفق نظرة فردية خاصة إلى الشعر تعكس خبرة وعمقا ورؤية وإلماما نظريا بهذا الجنس الإبداعي، ما يجعل واضع المختارات قادرا على إلقاء الضوء على ما همش في تاريخ الأدب الرسمي، أو ما أغفلته الصحافة والنقد ولم يفطن إليه الناشرون، وبالتالي ما لم يصل إلى القراء في هذا السياق، يكون فعل اختيار النصوص نوعا من القراءة للتراث الشعري القديم والحديث”.
ويرى أن الأمر يختلف حين يتم وضع مختارات شعرية من أدب آخر مكتوب بلغة أخرى، وفي هذه الحالة اللغة الإنجليزية، وترجمة هذه المختارات إلى اللغة العربية ما يدخل المشروع كله في باب الترجمة، قائلا “إن هدفي من وراء هذه المختارات شعري وتضامني: شعري لأن شعر الشعراء المنحدرين من السكان الأصليين متنوع وعميق وغني، ويضم أسماء تتوزع على رقع جغرافية كبيرة في الولايات المتحدة؛ وتضامني لأن الشعوب التي تمتلك ثقافتها الخاصة وأساطيرها ونظرتها إلى الكون أبيدت وهمشت، واستهدفت وحوربت واستولي على أرضها وحجزت في المحميات، لكنها وجدت في الشعر طريقة للتعبير عن هذا الظلم التاريخي الذي تعرضت له”.
ويتابع إسبر “بما أن شعر الهنود الحمر، أو السكان الأصليين لأميركا غير معروف في العالم العربي، إلا عبر ترجمات فردية في المجلات والصحف، قررت أن أترجم أنطولوجيا كبيرة تضم أهم الأصوات الشعرية من السكان الأصليين في الولايات المتحدة في خطوة للتضامن مع قضاياهم كشعوب مضطهدة وللاحتفاء بشعرهم كمنجز إبداعي غني ومتنوع. لكنني لا أدعي أن هذه الأنطولوجيا تمثيلية؛ بل محاولة فردية لإلقاء الضوء على نتاج أدبي عظيم ولا غنى عنه لتعميق المعرفة بالآخر، ولرؤية الآخر بعيدا عن الصور المسبقة والمعممة، أي رؤيته ضمن تعدديته واختلافاته خارج الرؤى التي يروج لها أكاديميا أو إعلاميا، أو تصنف الآخر في خانة معينة وتحول أدبه إلى وثيقة أنثروبولوجية توظف في الدراسات الأكاديمية وما يتجاوزها، أو القابلة للتصدير بوساطة مركزية الآخر”.
شعراء هذه الأنطولوجيا يتنوعون بتنوع أممهم ومدنهم وأزمنتهم ونظرتهم إلى الشعر وطريقتهم في كتابته ونظرتهم إليه
ويؤكد إسبر أن هذا الكتاب ثمرة قراءة فردية استمرت ثلاث سنوات، وقام باختيار القصائد على أساس قراءته لدواوين ونصوص منشورة في مجلات ومواقع كثيرة ثم ترجمتها، أي أنه لم يعتمد على واضع للمختارات في اللغة الأصل بل اختارها بنفسه.
يقول المترجم “عدت أيضا إلى أنطولوجيات معروفة أخص بالذكر منها ‘أنطولوجيا شعر السكان الأصليين في القرن العشرين’ التي أعدها وحررها الشاعر دوان ياتوم، والأنطولوجيا التي أعدتها وحررتها الشاعرة جوي هارجو وصدرت بعنوان ‘حين أخضع ضوء العالم جاءت أناشيدنا: أنطولوجيا نورتون لشعر أمم السكان الأصليين’، ودواوين فردية مختلفة للشعراء الذين اختير لهم، ومواقع إلكترونية ومجلات وقضيت أوقاتا في المكتبات العامة باحثا ومنقبا، وكان الهدف هو تقديم هؤلاء الشعراء للقارئ العربي كي يتعمق اطلاعه على السكان الأصليين لأميركا وعلى أهم منجز إبداعي لديهم، الشعر، رغم أن كثيرين منهم برعوا في الرواية والقصة القصيرة والمسرح والسينما وسائر الفنون“.
ويتابع “من الأسباب الأخرى التي دفعتني إلى ترجمة هذه المختارات هو تقديم معرفة تتجاوز فكرة الضحية إلى فكرة الإنسان المبدع القادر دوما على التعبير عن نفسه. وإذا كانت لغات السكان الأصليين لأميركا قد انقرضت، أو لم تعد وسيلة تعبيرية وفرضت الإنجليزية عليهم في النظام التعليمي، إلا أن الشعراء المنحدرين من السكان الأصليين استخدموا اللغة الإنجليزية على أنها لغة لهم ولونوها بألوانهم الخاصة وشحنوها برؤاهم. واختلف شعرهم عن شعر التيارات المرتبطة بالنظريات والحركات الشعرية المتلاحقة في الغرب بعامة وأميركا بخاصة، بكونه ظل لصيقا بقضيتهم وأساطيرهم ونظرتهم إلى الوجود، وحسبان الأرض فردوس حياتنا المهدد والذي من الواجب تقديسه وحمايته”.
لكل شاعر صوت
يكشف إسبر أن اهتمامه بأدب السكان الأصليين في أميركا يعود إلى عدة سنوات سابقة، وكان السبب قراءته ومن ثم ترجمته لثلاثية ذاكرة النار للكاتب الأميركي اللاتيني إدواردو غاليانو والذي ترجمه إلى العربية في أجزائه الثلاثة، ويعود إدواردو غاليانو في بعض نصوصه إلى التراث الشفوي للسكان الأصليين في الأميركتين، ويحتفي بغنى الثقافة الهندية الحمراء وفلسفتها الخاصة في الحياة، ويقدمها في سياق تاريخ الأميركتين في شكل أدبي جديد مختلف عما هو مألوف في الكتابة الأدبية. قادته فتنة الشعر والنثر لدى غاليانو إلى البحث في تراث مهمش ومنسي، وبالتالي غير معروف إلا جزئيا في اللغة العربية، وبوساطة ترجمات متفرقة فبدأ بقراءة هذا الشعر واكتشف غناه وتنوعه وقوة أصواته.
ويعلن أن التحدي الأكبر له كان كيف يقدم كتابا من شعر شعراء ينحدرون من الشعوب الأصلية لأميركا في اللغة العرفية يفي الشعراء حقهم؟ ولم يكن له إلا أن يجد العون في جملة قالها المتصوف النفري في كتاب المواقف والمخاطبات “في المخاطرة جزء من النجاة”، وكلمة مخاطرة كما أولها إسبر في السياق الذي يعمل فيه تشير إلى حساسية ترجمة الشعر، وبالتالي حساسية الاختيار والإغفال، وهكذا شرع في قراءته الخاصة، وترجم القصائد التي أحبها.
ويشير إسبر إلى أن هذه المختارات تتسم بالتنوع الجغرافي والتباين الزمني وتشمل الشعر السياسي والشعر التجريبي، وذلك الذي يستلهم التراث والميثولوجيا الهندية، والمتأثر بالحداثة، وسيتوضح للقارئ أن هذه التنوع يؤكد فرادة وخصوصية التجربة الشعرية لكل شاعر، كما أن حجم المختارات لا يكفي لإصدار حكم نقدي إلا أنه يقدم صورة أو لمحة تغري بمزيد من البحث.
يقول “لا شك أن أنطولوجيا واحدة لا تفي هذا الشعر المتنوع والغني حقه؛ بل مجرد محاولة للتعريف ربما سيعقبها في المستقبل محاولات تضع على عاتقها تقديم مختارات أوسع وأشمل، أو بوساطة ترجمة شعراء بعينهم وتقديمهم كتجارب مكتملة للقارئ العربي وإن هذا لهدف يستحق بذل الجهد من أجله، لأن كل من يقوم به سيغني ثقافته وذائقته بالمنجز الإبداعي للكتاب والشعراء المنحدرين من السكان الأصليين. لا أتبع في وضع هذه المختارات منهجا محددا، وكل ما فعلته هو أنني اتبعت ذائقتي وقراءتي الخاصة للمشهد، واخترت ما أحببته رغم أنني لا أعد قراءتي نهائية؛ بل كانت مجرد رحلة بداية في هذا العالم الرحب”.
ويلفت إلى أن القصائد بين دفتي الكتاب، وهي الوحيدة القادرة على أن تقود القارئ على طرقات هذا الشعر، والذي يخلص للشعرية بالمعنى الفني الجمالي، ويدعو إلى التأكيد على ضرورة أن يكون لدى الشاعر ما يقوله، عبر رؤيته الخاصة للوجود ولطرق التعبير عنه فنيا. ويبقى أن نضيف أن ترجمة الشعر ليست مسألة سهلة، وأن كل قصيدة تملي صوتها أحيانا على المترجم، وثمة ما يضيع دوما حين نترجم قصيدة.
ويتابع “وهناك بعض الأسئلة التي تطرح على الأنطولوجيات والتي تضم بين دفتيها أعدادا كبيرة من الشعراء ومنها: هل يستحق كل هؤلاء القراءة؟ لا تدعي هذه الأنطولوجيا ذلك، ولا تدخل في جدل من هذا النوع. معظم الشعراء الذي اختير لهم صدرت كتبهم عن دور نشر مرموقة، أو اختيرت قصائدهم في أنطولوجيات محترمة، أو نشرت في مجلات ودوريات مهمة، وحصلوا على جوائز، فالاختيار حصل مسبقا مما هناك إجماع على نشره”.
ويختم إسبر “يتنوع شعراء هذه الأنطولوجيا بتنوع أممهم ومدنهم وأزمنتهم ونظرتهم إلى الشعر وطريقتهم في كتابته ونظرتهم إليه، من هذا التنوع والاختلاف ينبثق شعر على الهوامش في غرب الحداثة، لكن شعريته تتوهج في جميع الجهات”.
محمد الحمامصي
تبقى ثقافة السكان الأصليين لأميركا التي أبيدت تقريبا بلغاتها ومختلف مكوناتها الجمالية والأسطورية والاجتماعية وغيرها محل بحث يغري بالنبش فيه، ولعل هجرة هذه الثقافات وتواصلها ولو بشكل آخر في اللغة الإنجليزية مثلا أبرز طرق البحث. وقد مثل شعر هؤلاء قوة فريدة لكنها ظلت منسية، وإن كان هناك بعض الاطلاع عليها في الغرب فإن العرب يجهلونها تقريبا لغياب ترجمات لها، وهو ما حاول المترجم والشاعر السوري أسامة إسبر تجاوزه.
تشكل الأنطولوجيا التي ضمت 88 شاعرا من الأميركيين المنحدرين من السكان الأصليين، والتي جمعها وترجمها عن الإنجليزية الشاعر والمترجم السوري أسامة إسبر، نافذة كاشفة عن تنوع وثراء وغنى واختلاف عميق في الرؤى والأفكار عن تلك المطروحة داخل عموم المشهد الشعري الأميركي.
من بين هؤلاء الشعراء الذين ضمتهم الأنطولوجيا الأولى من نوعها في اللغة العربية نذكر جوزف بروشاك، جون ترودل، سيمون جوزف أورتيز، جوي هارجو، شيرمان أليكسي، لانس هينسون، لويز إيريدريك، أبيغيل شابيتنوي، تريا بلو واكبا، وليم أوانداسان وجيمس نورثروب.
محاولة فردية
حول المختارات، الصادرة أخيرا عن دار خطوط وظلال، والدافع إلى ترجمة هذه القصائد يقول أسامة إسبر “حين يضع المرء مختارات شعرية بين دفتي كتاب يفعل هذا انطلاقا من ذائقته وثقافته الشعرية وما يراه متميزا في النتاج الشعري، وقد تختلف الأهداف بين واضع مختارات وآخر. وحين يحدث الأمر داخل لغة واحدة، عادة ما يكون الهدف هو إبراز شعراء مغفَلين أو منسيين، أو تأكيد اتجاه شعري معين، أو أسلوب جديد في الكتابة الشعرية لم يحصل على حقه من الاهتمام والقراءة”.
ويضيف “يلجأ واضعو المختارات عادة إلى الاعتماد على الشعراء أنفسهم ويطلبون منهم أن يرسلوا نصوصهم، أو تقوم لجنة متخصصة بجمع المختارات، فيما توضع مختارات أخرى وفق نظرة فردية خاصة إلى الشعر تعكس خبرة وعمقا ورؤية وإلماما نظريا بهذا الجنس الإبداعي، ما يجعل واضع المختارات قادرا على إلقاء الضوء على ما همش في تاريخ الأدب الرسمي، أو ما أغفلته الصحافة والنقد ولم يفطن إليه الناشرون، وبالتالي ما لم يصل إلى القراء في هذا السياق، يكون فعل اختيار النصوص نوعا من القراءة للتراث الشعري القديم والحديث”.
ويرى أن الأمر يختلف حين يتم وضع مختارات شعرية من أدب آخر مكتوب بلغة أخرى، وفي هذه الحالة اللغة الإنجليزية، وترجمة هذه المختارات إلى اللغة العربية ما يدخل المشروع كله في باب الترجمة، قائلا “إن هدفي من وراء هذه المختارات شعري وتضامني: شعري لأن شعر الشعراء المنحدرين من السكان الأصليين متنوع وعميق وغني، ويضم أسماء تتوزع على رقع جغرافية كبيرة في الولايات المتحدة؛ وتضامني لأن الشعوب التي تمتلك ثقافتها الخاصة وأساطيرها ونظرتها إلى الكون أبيدت وهمشت، واستهدفت وحوربت واستولي على أرضها وحجزت في المحميات، لكنها وجدت في الشعر طريقة للتعبير عن هذا الظلم التاريخي الذي تعرضت له”.
ويتابع إسبر “بما أن شعر الهنود الحمر، أو السكان الأصليين لأميركا غير معروف في العالم العربي، إلا عبر ترجمات فردية في المجلات والصحف، قررت أن أترجم أنطولوجيا كبيرة تضم أهم الأصوات الشعرية من السكان الأصليين في الولايات المتحدة في خطوة للتضامن مع قضاياهم كشعوب مضطهدة وللاحتفاء بشعرهم كمنجز إبداعي غني ومتنوع. لكنني لا أدعي أن هذه الأنطولوجيا تمثيلية؛ بل محاولة فردية لإلقاء الضوء على نتاج أدبي عظيم ولا غنى عنه لتعميق المعرفة بالآخر، ولرؤية الآخر بعيدا عن الصور المسبقة والمعممة، أي رؤيته ضمن تعدديته واختلافاته خارج الرؤى التي يروج لها أكاديميا أو إعلاميا، أو تصنف الآخر في خانة معينة وتحول أدبه إلى وثيقة أنثروبولوجية توظف في الدراسات الأكاديمية وما يتجاوزها، أو القابلة للتصدير بوساطة مركزية الآخر”.
شعراء هذه الأنطولوجيا يتنوعون بتنوع أممهم ومدنهم وأزمنتهم ونظرتهم إلى الشعر وطريقتهم في كتابته ونظرتهم إليه
ويؤكد إسبر أن هذا الكتاب ثمرة قراءة فردية استمرت ثلاث سنوات، وقام باختيار القصائد على أساس قراءته لدواوين ونصوص منشورة في مجلات ومواقع كثيرة ثم ترجمتها، أي أنه لم يعتمد على واضع للمختارات في اللغة الأصل بل اختارها بنفسه.
يقول المترجم “عدت أيضا إلى أنطولوجيات معروفة أخص بالذكر منها ‘أنطولوجيا شعر السكان الأصليين في القرن العشرين’ التي أعدها وحررها الشاعر دوان ياتوم، والأنطولوجيا التي أعدتها وحررتها الشاعرة جوي هارجو وصدرت بعنوان ‘حين أخضع ضوء العالم جاءت أناشيدنا: أنطولوجيا نورتون لشعر أمم السكان الأصليين’، ودواوين فردية مختلفة للشعراء الذين اختير لهم، ومواقع إلكترونية ومجلات وقضيت أوقاتا في المكتبات العامة باحثا ومنقبا، وكان الهدف هو تقديم هؤلاء الشعراء للقارئ العربي كي يتعمق اطلاعه على السكان الأصليين لأميركا وعلى أهم منجز إبداعي لديهم، الشعر، رغم أن كثيرين منهم برعوا في الرواية والقصة القصيرة والمسرح والسينما وسائر الفنون“.
ويتابع “من الأسباب الأخرى التي دفعتني إلى ترجمة هذه المختارات هو تقديم معرفة تتجاوز فكرة الضحية إلى فكرة الإنسان المبدع القادر دوما على التعبير عن نفسه. وإذا كانت لغات السكان الأصليين لأميركا قد انقرضت، أو لم تعد وسيلة تعبيرية وفرضت الإنجليزية عليهم في النظام التعليمي، إلا أن الشعراء المنحدرين من السكان الأصليين استخدموا اللغة الإنجليزية على أنها لغة لهم ولونوها بألوانهم الخاصة وشحنوها برؤاهم. واختلف شعرهم عن شعر التيارات المرتبطة بالنظريات والحركات الشعرية المتلاحقة في الغرب بعامة وأميركا بخاصة، بكونه ظل لصيقا بقضيتهم وأساطيرهم ونظرتهم إلى الوجود، وحسبان الأرض فردوس حياتنا المهدد والذي من الواجب تقديسه وحمايته”.
لكل شاعر صوت
يكشف إسبر أن اهتمامه بأدب السكان الأصليين في أميركا يعود إلى عدة سنوات سابقة، وكان السبب قراءته ومن ثم ترجمته لثلاثية ذاكرة النار للكاتب الأميركي اللاتيني إدواردو غاليانو والذي ترجمه إلى العربية في أجزائه الثلاثة، ويعود إدواردو غاليانو في بعض نصوصه إلى التراث الشفوي للسكان الأصليين في الأميركتين، ويحتفي بغنى الثقافة الهندية الحمراء وفلسفتها الخاصة في الحياة، ويقدمها في سياق تاريخ الأميركتين في شكل أدبي جديد مختلف عما هو مألوف في الكتابة الأدبية. قادته فتنة الشعر والنثر لدى غاليانو إلى البحث في تراث مهمش ومنسي، وبالتالي غير معروف إلا جزئيا في اللغة العربية، وبوساطة ترجمات متفرقة فبدأ بقراءة هذا الشعر واكتشف غناه وتنوعه وقوة أصواته.
ويعلن أن التحدي الأكبر له كان كيف يقدم كتابا من شعر شعراء ينحدرون من الشعوب الأصلية لأميركا في اللغة العرفية يفي الشعراء حقهم؟ ولم يكن له إلا أن يجد العون في جملة قالها المتصوف النفري في كتاب المواقف والمخاطبات “في المخاطرة جزء من النجاة”، وكلمة مخاطرة كما أولها إسبر في السياق الذي يعمل فيه تشير إلى حساسية ترجمة الشعر، وبالتالي حساسية الاختيار والإغفال، وهكذا شرع في قراءته الخاصة، وترجم القصائد التي أحبها.
ويشير إسبر إلى أن هذه المختارات تتسم بالتنوع الجغرافي والتباين الزمني وتشمل الشعر السياسي والشعر التجريبي، وذلك الذي يستلهم التراث والميثولوجيا الهندية، والمتأثر بالحداثة، وسيتوضح للقارئ أن هذه التنوع يؤكد فرادة وخصوصية التجربة الشعرية لكل شاعر، كما أن حجم المختارات لا يكفي لإصدار حكم نقدي إلا أنه يقدم صورة أو لمحة تغري بمزيد من البحث.
يقول “لا شك أن أنطولوجيا واحدة لا تفي هذا الشعر المتنوع والغني حقه؛ بل مجرد محاولة للتعريف ربما سيعقبها في المستقبل محاولات تضع على عاتقها تقديم مختارات أوسع وأشمل، أو بوساطة ترجمة شعراء بعينهم وتقديمهم كتجارب مكتملة للقارئ العربي وإن هذا لهدف يستحق بذل الجهد من أجله، لأن كل من يقوم به سيغني ثقافته وذائقته بالمنجز الإبداعي للكتاب والشعراء المنحدرين من السكان الأصليين. لا أتبع في وضع هذه المختارات منهجا محددا، وكل ما فعلته هو أنني اتبعت ذائقتي وقراءتي الخاصة للمشهد، واخترت ما أحببته رغم أنني لا أعد قراءتي نهائية؛ بل كانت مجرد رحلة بداية في هذا العالم الرحب”.
ويلفت إلى أن القصائد بين دفتي الكتاب، وهي الوحيدة القادرة على أن تقود القارئ على طرقات هذا الشعر، والذي يخلص للشعرية بالمعنى الفني الجمالي، ويدعو إلى التأكيد على ضرورة أن يكون لدى الشاعر ما يقوله، عبر رؤيته الخاصة للوجود ولطرق التعبير عنه فنيا. ويبقى أن نضيف أن ترجمة الشعر ليست مسألة سهلة، وأن كل قصيدة تملي صوتها أحيانا على المترجم، وثمة ما يضيع دوما حين نترجم قصيدة.
ويتابع “وهناك بعض الأسئلة التي تطرح على الأنطولوجيات والتي تضم بين دفتيها أعدادا كبيرة من الشعراء ومنها: هل يستحق كل هؤلاء القراءة؟ لا تدعي هذه الأنطولوجيا ذلك، ولا تدخل في جدل من هذا النوع. معظم الشعراء الذي اختير لهم صدرت كتبهم عن دور نشر مرموقة، أو اختيرت قصائدهم في أنطولوجيات محترمة، أو نشرت في مجلات ودوريات مهمة، وحصلوا على جوائز، فالاختيار حصل مسبقا مما هناك إجماع على نشره”.
ويختم إسبر “يتنوع شعراء هذه الأنطولوجيا بتنوع أممهم ومدنهم وأزمنتهم ونظرتهم إلى الشعر وطريقتهم في كتابته ونظرتهم إليه، من هذا التنوع والاختلاف ينبثق شعر على الهوامش في غرب الحداثة، لكن شعريته تتوهج في جميع الجهات”.
محمد الحمامصي