عن أحقية الفنان في الكتابة عن مهنته:

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة

  • عن أحقية الفنان في الكتابة عن مهنته:



    عن أحقية الفنان في الكتابة عن مهنته:

    يطرح موضوع اليوم سؤالًا شرعيًّا حول أحقيّة الفنان التشكيلي (الممارس يوميًا للتصوير، أو النحت، أو الطباعة، وسواها) في الكتابة عن مهنته التي يختبرها عمليًا كل يوم، أو حتى حقّه في تحليل أعماله الفنية، وأبعاد مشروعه التشكيلي فكريًا.
    كنت دومًا أؤكد أنه لا يحق للناقد الكتابة في الفن إذا لم تكن يداه ملوثتين بالألوان. نحن (أقصد الفنانين المحترفين) نعاني دومًا من الأخطاء النقدية المتراكمة التي يقترفها الوافدون من مادة نقيضة، وهي الأدب، أو السرد، أو المجاز والتورية، والرموز السيميولوجية اللفظية المتعسّفة، بمثاله إميل زولا، وإساءته لبول سيزان، مما أخر تقويمه عقودًا من الزمان.
    يطرح هذا السؤال على الأخص في المحترف العربي، لأن فنّانيه درجوا على التكاسل والقبول بأمية جحافل النقد المتعسّف، بعكس الفنانين في أوروبا، خاصة الذي رسموا المنعطفات الأساسية في تاريخ الفن (مثل الحداثة والمعاصرة). والأمثلة عديدة في هذا المقام. تعرضت سابقًا لمؤسس مادة النقد الفني (المناقضة للانتقاد)، وهو أميديو فاساري، الفنان الرابع الأبرز في عصر النهضة الإيطالي، بعد ميكل أنجلو، وليوناردو دافنشي، ورفائيل. عرفنا بكتابه بعبقريتهم ووثق تاريخ هذا العصر الاستثنائي، مثبتًا نظم الكتابة الفنية المنهجية المحايدة والأخلاقية. ثم علينا أن نتأمل نظيره، بول سينياك، في أواخر القرن التاسع عشر، وكتابه النقدي التأسيسي: "من دولاكروا إلى ما بعد الانطباعية". كان منظرًا لجماعته التجزيئيين (ثم غلب مصطلح التنقيطيين الصحافي عليه)، مع جورج سورا وغروز. ذكر في كتابه عصيان الوحشيين الأشد رهافة في اللون على المبادئ الانطباعية، وتحويلها إلى مساحات مسطحة موسيقية، كان ذلك بقيادة هنري ماتيس في صالون نهاية القرن (قبل تأسيس الجماعة عام 1905م، مع أندريه ديران، وفلامينغ)، يطلق أحد نقاد الصحافة مسبته لهم في الصحيفة التي يعمل فيها قائلًا عن تمثال بورديل (رامي السهم) بأنه "معروض في قفص الوحوش"، يقصد لوحات ماتيس ورفاقه. هو الذي قبل بذكاء هذه التهمة وأطلقها على الجماعة، الوحشيون. نشهد بعد ذلك استرداد الفنانين لحقهم في الكتابة الفنية عن طريق مدرسي مدرسة الباوهاوس: بمثال كاندينسكي، وبول كلي، وشنايدر، وموندريان، والبقية، لأن المنهج الذي رسمه المعماري غروبيوس يقوم على مادتين نظرية وعملية. وقد كرس عكس هذا التقدم في الشرق العربي نجومية الأدباء الذين يتفيأ بظلهم الإعلامي (مع سلطة الكلمة) الفنانون المرتبكون. والأمثلة كثيرة، ناهيك عن شيوع موضة الدكتوراة، التي تحولت إلى منصب حزبي، أو أمني ونقدي في الوقت نفسه، بل إن هنالك فنانين لا يصورون، ونقادًا لا يكتبون، يقتصرون على أحكامهم الأمية، بسلطاتهم الإدارية، أو المؤسساتية.
    إن تعميم هذه التهمة بدوره لا يخلو من "التعسف". فتعددية الاستثناءات قد تعيد التوازن من جديد بين الكلمة واللون والموتيف اللحني أو الإيقاعي، فلا يجب أن ننسى دور الشاعر أندريه بروتون في تأسيسه للسوريالية في أوائل القرن العشرين، ودعمه لماكس إرنست، لأنه ظل أمينًا على مختبره التشكيلي، وبالعكس طالب بطرد سلفادور دالي لأنه يحابي السرد الأدبي في فرويداته.
    راجعنا نقادنا المتألقين، ومنهم وجدنا فاروق يوسف، وسعد قاسم، وهما من خريجي كليات الفنون في بغداد ودمشق، فقد غلبت على نشاطهم الكتابة الصحافية، فتوقفوا عن ممارسة الفن، والمثال الاستثنائي الذي يناقض أي أطروحة تعميمية تتمثل في الشاعر الناقد المجيد بلند الحيدري، والشاعر الباحث عيسى مخلوف (قدم أغلب معارضي أنا وأسادور على أتم وجه تشكيلي)، وكذلك عباس بيضون، وأحمد بزون، أبرزهم عالم الجمال، محمود حوا، الذي طرد من التدريس في كلية الفنون التابعة لجامعة دمشق، والفنان الناقد العراقي، هاشم حنون.
    علينا مع ذلك بالاعتراف بأن أمثلة الممارسة المتوازنة للمختبرين النظري والحرفي نادرة ومبعثرة، ما بين شاكر حسن آل سعيد في بغداد، وسمير صايغ في بيروت، لا يقارنا بفكتور فازاريللي، الذي يملك مكتبة تأليفية تتجاوز عدد لوحاته. في المقابل، هنالك اتجاه أكاديمي بحثي طبع النشاط النظري للفنانين الممارسين، خاصة في بينالي القاهرة، والندوة الموازية التي كان يشرف عليها الفنان الناقد، أحمد فؤاد سليم، كما كان يشرف على البينالي عمومًا الفنان الدكتور أحمد نوار، واستقطب الاثنان قدرات استثنائية لبعض الباحثين الفنانين، من مثال عميد كلية التربية، الفنان د. مصطفى الرزاز، والكاتب الفني الاستثنائي الفنان، عادل السيوي. ثم مهدي مطشر من العراق، وسمير التريكي من تونس، وعز الدين شموط من سورية، وشربل داغر من لبنان. مع هذه القائمة العامرة يستعيد الفنانون حقهم في التعبير عن الكينونة المستقلة جماليًا في مهنتهم.
    أنا أجد أن الفلسفة أشد تقربًا ومصالحة مع الفن التشكيلي مقارنة بالسرد الأدبي، لنتذكر تأثير هنري برغسون على واسيلي كاندينسكي، وعلى بول كلي، وعلى بيير بونار، بالذات، ويقال بأنه لا يمكن إدراك معنى الديمومة لدى برغسون إلا من خلال لوحات بونار، والعكس صحيح.
    كذلك فإن نحت جياكوميتي هو نتاج تنازع الوجود والعدم لدى جان بول سارتر، وكذلك نيكولا دو ستائيل، فقد اقترنت القدرية الوجودية في تصويره بمفهوم اللاغائية والعبث واللاجدوى لدى ألبير كامو. ناهيك عن تأثير الفلسفة الألمانية عمومًا على تعبيرية الحربين، ونظرية الغشتالت على فن الوهم البصري، وغيره، والحديث يطول دون طائل.
    تأويل تصويري لذاكرة مزدوجة
    هذا مثال عما أقوله تحليلًا جماليًا عن لوحتي:
    تنهل لوحتي من ذاكرتين: الأولى مرتبطة بمكنونات المدينة، خاصة دمشق، موقع ولادتي عام 1941م، يتبعها دراستي الفنية، ثم عقد تعليمي في كليتها، ومدينة صيدا في لبنان، مقر أهلي من زمن بعيد، وكذلك بيروت من خلال العمل المتزامن مع دمشق، في عروض صالاتها ابتداء من غاليري وان، وانتهاء بغاليري روفليه. وذلك قبل أن أحط رحالي نهائيًا في باريس منذ 1976م.
    أما الذاكرة الثانية فهي زمانية ترتبط بالهاجس التوليفي بين الموسيقى واللون، بنوع من التواطؤ مع الدراسة الأكاديمية ما بين البوزار والسوربون، أي التخصص في علم الجمال المقارن الذي أسسه إتيان سوريو، وطوره تلميذاه ألكسندر بابادوبولو، وفرانك بوبير، اللذان درست لديهما.
    أُعتبر اليوم مصورًا ومختصًا في هذا الميدان كفرنسي منذ ما يقارب من نصف قرن من أصل لبناني مولود في دمشق. تتطابق الذاكرتان حين تبتدئ اللوحة بتجريد ألوانها لتصل إلى تعبيرية خاصة بثنائية: "الساكن والمسكون". تضبطها النواظم الموسيقية ابتداءً من الإيقاعات الخطية، وانتهاءً بالمقامات اللونية. هي التي ألخص حدتها الانفجارية بتعبير: "إطفاء الجمر في الصقيع".

    اسعد عرابي
يعمل...
X