تعريف الواقع جماليّاً
هاشم تايه
لعلّ أوّل ما يشدّ انتباهنا، ويثير تساؤلنا، ونحن نطالع منجز الفنان جاسم الفضل، أن هذا المنجز يضعنا أمام إشكاليّة هضم ظاهرة توزّعه المتزامن على ثلاثة اتجاهات فنيّة متباينة ما تزال، إلى اليوم، تتعايش معاً متنازعة مع بعضها، وهي تتغذّى على رصيد خبرته الأكاديميّة المختزنة التي نمتْ، وتكاملتْ على مدى عقود ممارسته الرّسم باحترافٍ اغتنت معه قدراته، ومهاراته كفنان أكاديميّ متمرّس، وتجلّت في مجموعة أعماله الواقعيّة خاصّةً. ويبدو أن الفضل، إلى الآن، لم يحسم أمر تحوّله إلى صياغة أسلوبيّة بعينها تنامتْ إليها، عضويّاً، تجاربه في الرسم، لتعكس وعيه بأهميّة المضيّ أبعد مع آخر تحوّلاته الفنيّة، وليس التراجع عنه إلى البدايات. إنّنا، هنا، بمواجهة رؤية مذبذبة تتنازعها صياغات متنابذة. ليس هذا تعريضاً، بقدر ما هو تقرير لحقيقة يعيشها منجز الفنان الفضل الذي نراه منقسماً على مستوييْن اثنين، أحدهما تمثيليّ تُمثّله أعماله الواقعيّة، والتعبيريّة، وآخر تجريدي.
ولأنّ مجموعة أعماله الواقعيّة المنجزة بحسّ أكاديميّ ذي مرونة لافتة، هي الأجدر، كمّاً، ونوعاً، بإطلاعنا على كفاءة أدائه، وتكامل عُدّته، وقدرته على التصرّف بهما على نحوٍ أمثل رَفَعَ هذه الأعمال إلى مستوى أعمال أساتذة الفن الواقعي تكنيكاً، ومهارة حرفيّة، فإنّنا سنركّز قراءتنا عليها.
تكشف الأعمال الواقعيّة للفنان الفضل نزعة محافظة في نقل المرجع الواقعي بلا انشقاق عن صورته الماثلة، وبلا تحوير لشكله كما هو عليه في الخارج، تحويراً من شأنه أن يُفصح عن رؤية فرديّة، وبما يضعنا أمام واقعيّة خاصّة بهذا الفنّان لها سمات مميّزة عن سواها من (الواقعيات)، بحيث تدفعنا إلى إعادة تعريفها في أعماله. هناك أمانة في إيداع المرجع الواقعي على السّطح التصويري، كأنّ الرّسم سجِلٌّ لتوثيق هذا المرجع بشخصيته الأليفة في زمانه، ومكانه.. الواقعيّة، مع الفضل، كأنّها تُوظّف الرسم كذاكرة تطارد لامبالاتنا بما يطاله الزّوالُ، والعسفُ من العالم الذي نعيش فيه بنكهته الخاصّة. كل رسم واقعي من رسوم الفضل يكافح ليُريَنا كم هو جميل الواقع الذي نعيش فيه، وكم نحن محظوظون لأنّنا في سلام الثقافة الوادعة التي ورثناها، ويُراد لها أن تندثر. ذلك هو هدف واقعية الفضل: أن تصف جمال محيطنا، وصورة حياتنا التي عشناها، ونحن، اليوم، على أعتاب خسارتها. ولهذا السّبب تبدو أعمال الفضل الواقعيّة احتفاءً بهذه الصّورة في الظاهر، ورثاءً لها في المضمر. هذا الأمر، وسواه، يدفعنا إلى اقتراح إنشاء متحف فنيّ عراقيّ خاصّ بأعمال فنّانينا الواقعيين ابتداءً من عبد القادر الرسّام.
مع اختلاف التقنية تبدو الأعمال الواقعيّة للفضل وكأنّها قرّرت أن تضطلع بالدور نفسه الذي سبق أن اضطلعتْ به الأعمال الواقعية لرسّامي الاستشراق، ويكاد ينحصر، هذا الدّور، بالتّعريف الجماليّ المبهور بأمكنة الشّرق، وطبيعة الحياة فيه، وأحوال ناسه الذين لا يعرفون عن العالم إلاّ عالمهم السّحريّ المحروس بإرث ماضيهم في مدنهم، وأريافهم، وصحاريهم.
يكشف المنجز الواقعي للفضل حِذقَ فنّانٍ خبير يتمتّع بقدرات، ومهارات فنيّة رفيعة مكّنتْه من التعامل مع مواده باحتراف، واستثمارها في أقصى مديات طاقاتها. ولا يغادر الفنانَ حرْصُهُ على إظهار براعته في نقل موضوعه، وتكييفه، بتفاصيله، على السطح التصويريّ، وتعزيز تأثيره جماليّاً بمادة الرسم، زيتاً كانت، أم ألواناً مائية، في إطار رؤية تزيينيّة محتفية في الغالب تريد للعمل الفنيّ أن يُشيع البهجة على جدار. ذلك يجري، عادةً، بعد عملية اختبار للمرجع الواقعي في محيطه المادي، وإعادة بنائه في العين بانتخاب أجزائه الأكثر حيويّة، وتقرير زاوية النظر إليه التي تكشفه داخل أنسجة الضوء، والظلّ، قبل أن يتولاه الرسم على سطحه الخاص. ويبدو أن الفنان الفضل اختار الكاميرا وسيطاً بينه وبين موضوعه الواقعي الذي سيخسر حيويّته في محيطه الحيّ، إذ تُجمّده، عادةً، عينُ الكاميرا في لحظة ثبات معلّقة سيكون على الفنان تحريكها، لاحقاً، في معمله. وفي كلّ موضوع حرّره الفضل على سطحه نكاد نفتقد الإزاحة الشكليّة المهمّة المنبعثة من نظرٍ خاصّ، التي تجعل الرسم أكبر من أن يكون وسيطاً، بل مبتكراً لحياة أخرى تنهض بأسباب الرّسم، وأهوائه، وغرائزه، ونزوعه للكشف عن ذاته داخل عملية كشفه موضوعَهُ. لكنّنا لا نعدم إزاحةً مخفّفة تصنعها بدائل الفنّان لما يراه في الموضوع بنمذجته، وتلطيف مظهره، وتقوية فواعله الشكليّة، بالمادة اللّونية داخل إطار الرّسم.
تُفصح أعمال الفضل الواقعية عن شغفٍ عارم بتمثيل وقائع، وأمكنة، وشكل حياة، وطراز ثقافة مهدّدة بأشكال من التجريف الفظّ، وما من تمثيل إلاّ أظهر حنيناً إلى ما اختفى، أو خوفاً على ما في طريقه إلى الاختفاء.. وفي كلّ عملٍ هناك نظرة الفنّان دامعة، ومبتهجة في آن، وهو يطوف مدينته، ويلتقط ما يراه من تكوينات في حواريها، ومنازلها العتيقة، ودكاكين حرفيّيها، وبسطات باعتها في الأسواق، ودور عبادتها، وانغمار قاطنيها في حياتهم اليوميّة بأزيائهم، وهمومهم، عابراً إلى ريفها بصور حياته القرويّة الخاصّة، ومن ريفها إلى صحرائها حيث يمكن الاحتفاء بواقع آخر.
ختاماً، تصلح أعمال الفضل أن تكون دروساً في معالجة أي موضوع واقعي معالجة فنيّة مثاليّة تستثمر طاقات مواد الرّسم، وإمكاناتها بما ينجز عملاً واقعيّاً باهراً.