الفنان الراحل جاسم الفضل
الرجل الذي اختارالسكن في مملكة الفن
صلاح عباس
تحفظ ذاكرتي الممتدة لمنتصف عقد السبعينات, الملامح الفتية للفنان جاسم الفضل, بدقة تكاد ان تكون متناهية, كما كنت اتطلع لرسوماته للبورتريه, التي كانت مشغولة وفق منهج الفنان التعبيري مودلياني, حيث الوجوه الملتفة والمستطيلة والملامح الحادة والخطوط المتقنة والالوان الكثيفة والمتضادة, التي تخلق أجواء من التباين والصرامة, وجوه كثيرة معلقة على جدران غرفته في القسم الداخلي بمنطقة الشورجة, كانت تلك الوجوه تثير حوار طويلا يبدأ ولا ينتهي, والاهم من كل ذلك كانت مشيعة بعناصر الفن ومفعمة بالحيوية والاثارة البصرية.
لقد كان جاسم الفضل محمولا بقوة موهبته الفنية في الرسم والتخطيط, فهذا الشاب القادم من مدينة البصرة, لم يجيئ عبثا وشأن طموحه مثل شأن من سبقوه من رواد الفن التشكيلي العراقي المعاصر, محمد مهر الدين, واسماعيل فتاح الترك, وعلي طالب, وصلاح جياد وفيصل لعيبي وغيرهم من الفنانين الكبار, وعندما باشر بالدرس فان طاقته الفنية كانت متفوقة على اغلب اقرانه من الطلبة, في حين كانت تدفعه الرغبة لابتكار ذاته الفنية على النحو المغاير والمختلف عن الاخرين, وبذا كان مهتما لإبراز مهاراته وعضلاته الادائية البارعة, لا لشئ, الا لأنه مجبول على شخصية فنان معتد بملكاته الفنية وكذلك رؤاه ومفاهيمه التي اكتسبها من خلال ثقافته الشخصية.
لقد كان يدرس في معهد الفنون الجميلة ببغداد مجموعة كبيرة من الفنانين الرواد واساتذة الفن, ومنهم: محمد علي شاكر, وسعد الطائي, ونزيهة سليم, وصادق ربيع, وعبد الرحيم الوكيل, وشاكر حسن ال سعيد وميران السعدي وعلي طالب ورافع الناصري, وسالم الدباغ ورسول علوان وسلمان عباس وسهام السعودي, واخرين غيرهم, وبذا وجد الطالب الجديد عالما مختلفا ومكتنزا بعناصر الفن وفق مناهج البحث المتقنة من جميع جوانبها, وعلى هذا الاساس كان الطالب جاسم الفضل يجد ضالته وسرعان ما يكتشف الكيفيات التي تسمح له بعبور الدرس الاكاديمي وتخطي اسسه.
كان الرسم عنده يمثل هما كبيرا واسئلة صعبة تلزم الاجابة عنها, وكان يكثف قراءته لتاريخ الفن العام, ويضاعف جهوده لكي يرسم تخطيطا وتلوينا, مواصلا رحلة الليل بالنهار, طيلة سنوات دراسته في المعهد.
ولكن, وبعد ان ابيضت سماء العراق, بعدما تلبدت بدخان الحروب الاستنزافية المتتابعة, ولقد اكلت منا سنوات الأسى أجمل ازاهير عمرنا, وبعد ان غلفنا تاريخ البلاد الخاسر, بمكعبات حديدية صدأة, وبأسباب توافر خدمات الانترنت, صرنا نلتقي ونتحاور ونرى بعضنا البعض, حينئذ وجدت جاسم الفضل رساما واقعيا من الطراز الاول, يرسم بمختلف مواد الرسم, مناظر طبيعية ووجوه, وحياة ساكنة ومعالم المدن, آخذا بنظر الاعتبار تحقيق اعلى قدر من المطابقة والمشابهة مع الانموذج في خارج أطر اللوحة, وهذا الضرب يتطلب دراسات منهجية للمنظور البعيد والقريب, واحتساب زوايا النظر والتأكيد على مساقط الاضواء وانكسارات الظلال والانتباه الى الاجزاء الدقيقة والتفاصيل المتداخلة في بنية اللوحة, وربما تكون اللوحة مرغوب بها لأنها تستجيب لأهواء المتلقين لها, وبصراحة ان هذا التوجه يعتبر حالة ارتداد وتراجع, وينبغي على الفنان ان يجتهد لكي يعلن عن رفضه للسياقات الاتباعية في الرسم وعدم الانخراط في المنطقة الفنية التي تتناغم مع ذائقة التلقي العامة, لاسيما اذا عرفنا بان الفنان ومنذ بداياته المبكرة كان يناور بالاختلاف والمشاكسة الفنية, بل كانت له صولات ومغامرات مهمة على صعيد الوعي بالفنون المعاصرة, ربما يرجع ذلك الى مسببات قسرية حتمت عليه انتهاج هذه السياقات من الرسم.
ان جاسم الفضل, اشتغل على الرسم منذ خمسة عقود من الزمن, مجربا مختلف المواد الخام الملموسة, ومختلف سبل الاداء الفني والتقني, واشتغل على رسم اللوحات بطريقة مهنية واحترافية والحسنة التي تحسب له في الرسم الواقعي, تكمن في كونه يستطيع إحالة الملامح البسيطة او القبيحة في الحياة اليومية الى ملامح جمالية مثيرة للإعجاب.
الرجل الذي اختارالسكن في مملكة الفن
صلاح عباس
تحفظ ذاكرتي الممتدة لمنتصف عقد السبعينات, الملامح الفتية للفنان جاسم الفضل, بدقة تكاد ان تكون متناهية, كما كنت اتطلع لرسوماته للبورتريه, التي كانت مشغولة وفق منهج الفنان التعبيري مودلياني, حيث الوجوه الملتفة والمستطيلة والملامح الحادة والخطوط المتقنة والالوان الكثيفة والمتضادة, التي تخلق أجواء من التباين والصرامة, وجوه كثيرة معلقة على جدران غرفته في القسم الداخلي بمنطقة الشورجة, كانت تلك الوجوه تثير حوار طويلا يبدأ ولا ينتهي, والاهم من كل ذلك كانت مشيعة بعناصر الفن ومفعمة بالحيوية والاثارة البصرية.
لقد كان جاسم الفضل محمولا بقوة موهبته الفنية في الرسم والتخطيط, فهذا الشاب القادم من مدينة البصرة, لم يجيئ عبثا وشأن طموحه مثل شأن من سبقوه من رواد الفن التشكيلي العراقي المعاصر, محمد مهر الدين, واسماعيل فتاح الترك, وعلي طالب, وصلاح جياد وفيصل لعيبي وغيرهم من الفنانين الكبار, وعندما باشر بالدرس فان طاقته الفنية كانت متفوقة على اغلب اقرانه من الطلبة, في حين كانت تدفعه الرغبة لابتكار ذاته الفنية على النحو المغاير والمختلف عن الاخرين, وبذا كان مهتما لإبراز مهاراته وعضلاته الادائية البارعة, لا لشئ, الا لأنه مجبول على شخصية فنان معتد بملكاته الفنية وكذلك رؤاه ومفاهيمه التي اكتسبها من خلال ثقافته الشخصية.
لقد كان يدرس في معهد الفنون الجميلة ببغداد مجموعة كبيرة من الفنانين الرواد واساتذة الفن, ومنهم: محمد علي شاكر, وسعد الطائي, ونزيهة سليم, وصادق ربيع, وعبد الرحيم الوكيل, وشاكر حسن ال سعيد وميران السعدي وعلي طالب ورافع الناصري, وسالم الدباغ ورسول علوان وسلمان عباس وسهام السعودي, واخرين غيرهم, وبذا وجد الطالب الجديد عالما مختلفا ومكتنزا بعناصر الفن وفق مناهج البحث المتقنة من جميع جوانبها, وعلى هذا الاساس كان الطالب جاسم الفضل يجد ضالته وسرعان ما يكتشف الكيفيات التي تسمح له بعبور الدرس الاكاديمي وتخطي اسسه.
كان الرسم عنده يمثل هما كبيرا واسئلة صعبة تلزم الاجابة عنها, وكان يكثف قراءته لتاريخ الفن العام, ويضاعف جهوده لكي يرسم تخطيطا وتلوينا, مواصلا رحلة الليل بالنهار, طيلة سنوات دراسته في المعهد.
ولكن, وبعد ان ابيضت سماء العراق, بعدما تلبدت بدخان الحروب الاستنزافية المتتابعة, ولقد اكلت منا سنوات الأسى أجمل ازاهير عمرنا, وبعد ان غلفنا تاريخ البلاد الخاسر, بمكعبات حديدية صدأة, وبأسباب توافر خدمات الانترنت, صرنا نلتقي ونتحاور ونرى بعضنا البعض, حينئذ وجدت جاسم الفضل رساما واقعيا من الطراز الاول, يرسم بمختلف مواد الرسم, مناظر طبيعية ووجوه, وحياة ساكنة ومعالم المدن, آخذا بنظر الاعتبار تحقيق اعلى قدر من المطابقة والمشابهة مع الانموذج في خارج أطر اللوحة, وهذا الضرب يتطلب دراسات منهجية للمنظور البعيد والقريب, واحتساب زوايا النظر والتأكيد على مساقط الاضواء وانكسارات الظلال والانتباه الى الاجزاء الدقيقة والتفاصيل المتداخلة في بنية اللوحة, وربما تكون اللوحة مرغوب بها لأنها تستجيب لأهواء المتلقين لها, وبصراحة ان هذا التوجه يعتبر حالة ارتداد وتراجع, وينبغي على الفنان ان يجتهد لكي يعلن عن رفضه للسياقات الاتباعية في الرسم وعدم الانخراط في المنطقة الفنية التي تتناغم مع ذائقة التلقي العامة, لاسيما اذا عرفنا بان الفنان ومنذ بداياته المبكرة كان يناور بالاختلاف والمشاكسة الفنية, بل كانت له صولات ومغامرات مهمة على صعيد الوعي بالفنون المعاصرة, ربما يرجع ذلك الى مسببات قسرية حتمت عليه انتهاج هذه السياقات من الرسم.
ان جاسم الفضل, اشتغل على الرسم منذ خمسة عقود من الزمن, مجربا مختلف المواد الخام الملموسة, ومختلف سبل الاداء الفني والتقني, واشتغل على رسم اللوحات بطريقة مهنية واحترافية والحسنة التي تحسب له في الرسم الواقعي, تكمن في كونه يستطيع إحالة الملامح البسيطة او القبيحة في الحياة اليومية الى ملامح جمالية مثيرة للإعجاب.