مئة عام على ميلاد الفنان السوري فاتح المدرس… “الخلود هو أن تصنع الزمن”
سوزان المحمود – الناس نيوز ::
يقول فاتح المدرس في معرض “فيلم مدرس” البالغ الأهمية المصور معه، وفي مرسمه، من قبل المخرجين السوريين المبدعين الثلاثة عمر أميرلاي وأسامة محمد ومحمد ملص: “الإنسان لا يعترف بشيء اسمه الزمن، لأنه ليس من مصلحته أن يعترف به، الإنسان يحب المكان لكنه لايحب الزمان، لأن الزمن عدو الإنسان، الوقت الزمن عدو العقل، العقل أحبَّ واستطاع في كثير من الحالات أن يلغي الزمن، باستطاعة العقل أن يأخذ الثانية في اللذة أو في التفكير ويمطّها ويساويها شهر، لكنه لم يستطع أن يعمل أفضل من ذل وأنا برأي الخلود لا يفسر إلا بهذه الطريقة هذا رأيي الشخصي، الخلود هو أن تصنع الزمن، العقل هو كل شيء، لكن الفنان التشكيلي يلتقطها لأنه يعيش فيها يوقفها وقت يريد ويعيش فيها قدر ما يريد في التحليل السليم في التكوينات وتضارب الألوان مع بعضها، بأسلوب سليم يستطيع أن يتحكم وهو يعمل بالوقت، لحظات يعطيها عمراً طويلاً وفي لحظات أخرى يشتغل فيها لأيام وهي في محلها مثل الرصاص”.
بمناسبة الذكرى المئوية لميلاد المعلم الكبير فاتح المدرس قمنا بتوجيه أسئلة محددة، وبأخذ شهادات شخصية لثلاثة من تلاميذ المعلم، وهم اليوم من أهم الفنانين في الحياة التشكيلية السورية :
عصام درويش
يقول درويش لجريدة ” الناس نيوز ” الأسترالية : فاتح كان أستاذنا منذ السنة الأولى في كلية الفنون الجميلة، كان هذا في عام 1974، كان من أهم الأساتذة على صعيد تعليم الفن، وليس على صعيد الرسم، كان يوجد أساتذة أهم منه بكثير في موضوع تعليم الرسم، كيف نرسم النسب، الضوء والظل واللون إلى آخره. فاتح طبعاً يُعلّم كل هذا لكن التأثير الرئيس له كان بفهم الفن، وفهم الحداثة، وفهم الحرية، حرية التفكير وحرية الإنتاج الفني، وأهم شيء هو حرية اختيار النمط الذي يجب أن تعمل عليه، لقد فتح لنا نافذة كبيرة في عقلنا، هذا هو فضل فاتح الكبير علينا، طبعاً هذا يتضمن كيف يمكن للشخص أن يختار ألوانه، وكيف يمكن أن يتأثر بفنانين آخرين، وكيف يمكن أن يقوم ببحثه الخاص.
طبعاً هناك قائمة طويلة من الفنانين التشكيليين الذين كانوا زملاءنا في الكلية، وكان فاتح أستاذهم، منهم من تأثر كثيراً ومباشرة بأسلوبه، ومنهم من حاول تقليده، ومنهم من قضى معظم حياته وهو تحت تأثيره المباشر بأسلوب شغله. لكن بالنسبة لي أنا شخصياً باعتباره دلنا على الطريق وفتح لنا نافذة الحرية، فأنا لم اشتغل أبداً استناداً للعالم الخاص به أو لأسلوبه، اشتغلت في الفن بطريقة مختلفة تماماً. تأثرت به كإنسان وكمجدّد وكباحث وكوجودي وكفيلسوف وكشاعر، لكنني لم أشتغل أبداً بشيء له علاقة بشغله، عملي مختلف تماماً، فعالم فاتح تعبيري، قوي، يذهب إلى اللوحة مباشرة بدون دراسات يستنبط الأشكال أثناء العمل المباشر على اللوحة، بالنسبة لي لوحتي مدروسة أقوم بدراسات كثيرة بقلم الرصاص والألوان قبل أن أبدأ بالعمل على اللوحة الأساسية، عالمي ميتافيزيقي له خيط مع السريالية، أما عالم فاتح فهو تعبيري مباشر، لايوجد شك بأن فاتح تأثر بالفنانين التعبيريين الألمان، والفرنسيين، والإيطاليين، لأنه درس في إيطاليا وفرنسا، وتأثر بالأفكار الثورية وبالوجودية بأفكار سارتر الفلسفية، واطلع على النتاج العالمي آنذاك، لكنه اختار موضوعاً محلياً له علاقة بجبالنا وسهولنا والبيئة الفلاحية والفلاحات، ببيئته وعائلته ووالدته الكردية، فهو تأثر كثيراً بالجو الكردي، وبأخواله، هذا جعل أعماله تنطبع بطابع محلي جداً وهذا ما نقله للعالمية، وكان هناك إحساس كبير بأن هذا فن سوري استلهم من التراث لكن بحداثة مميزة.
لفاتح موقع مهم في الفن السوري وفي الفن العربي وهو معروف على المستوى العالمي، وأعماله موجودة بمتاحف عالمية، وبمجموعات خاصة عند مشاهير بالعالم.
أما بالنسبة لأعماله النصية لا أعرف إن كان هناك محاولة لإعادة طباعتها، لأن هناك حقوق نشر موجودة لأشخاص طبعوا كتبه هذه مسألة خاصة لكل واحد، أنا شخصياً اشتريت من زمن طويل مذكرات فاتح من الخمسينيات تقريباً، ثلاثة دفاتر مجموعة جيدة من الكتابة وفيها رسوم أعتز كثيراً أنها موجودة عندي، أما بالنسبة لمحاضراته التي ألقاها على الطلاب لا أعرف إن كان هناك أحد مهتم بإعادة طباعتها، ربما يجب أن تفكر عائلته بذلك، لأن نصوص المحاضرات موجودة، لكن لا أعرف مدى أهميتها بالنسبة لمستقبل الفن السوري، فهو ألقاها كمحاضرات أولية بسيطة على طلاب الجامعة، أما بالنسبة لفاتح كناقد فأنا اعتقد أنه من أهم نقاد الفن التشكيلي، لكن باعتبار أنه كان مشغولاً بعمله الإبداعي وكان لديه مشكلة بالوقت، فهو كان نقيب فنون لمدة طويلة، هذا العمل الإداري لم يكن راضياً عنه، لكن مارسه خدمة للفن، لم يكتب كثيراً بالنقد ولم يتابع الحركة الفنية نقدياً مثل بعد النقاد المتفرغين، لذلك والذين اختصوا في مجال النقد، ولم يكن بعضهم منتجاً للفن، بينما هو كرس معظم وقته للإنتاج الفني الإبداعي.
تزوير أعمال فاتح
قدم الفنان عصام درويش وهو أحد مالكي مرسم فاتح المدرس الحاليين والمشرف عليه، محاضرة مهمة حول تزوير أعمال المدرس، وذلك خلال أيام التشكيل السوري في كلية الفنون الجميلة، وأعطى نماذج من الأعمال المزورة والأصلية، وتحدث عن عمليات التزوير وتأثيرها الخطير على سمعة الفن السوري في العالم، وكيف أثرت على انخفاض سعر لوحة الفن السوري، وشرح كيف يمكن تمييز لوحة المدرس الأصلية من المزورة، وكيف تم إحباط بعض عمليات بيع اللوحات المزورة.
زهير حسيب
يقول حسيب لجريدة ” الناس نيوز ” الأسترالية : “أعتبر فاتح من الرموز الثقافية الكبيرة، وهو مفكر بثقافة عالية عندما كان يدرس بباريس التقى بجان بول سارتر.
كان مرسم فاتح مركز إشعاع حضاري لكل الفنانين والموسيقيين، لأنهم جميعاً كانوا يستفيدون من تجاربه العميقة في الحياة، كنت طالبه بكلية الفنون وبقيت معه للنهاية، فقد كنت مساعده ويده اليمنى في المرسم، أأسس له اللوحات وأحضّر الألوان.
ولكن مرسم فاتح كان عبارة عن قبو رطب، كنا نعاني كثيراً من مشكلة المجاري الصحية التي تطوف وتخرب الكثير من اللوحات والكتب والأوراق، وكان السبب المباشر في إصابته بالروماتيزم، كان من المفترض أن تمنحه الدولة ممثلة بوزارة الثقافة مرسماً بشروط صحية جيدة وبإضاءة أفضل، لكنها لم تمنحه ذلك، وعلى الرغم من كل شيء خرجت من هذا المرسم الروائع، من يعرف أعمال فاتح يستغرب أنها خرجت من هذا المكان.
كان فاتح إنساناً شجاعاً إلى أبعد الحدود، كنت أحياناً أضع له موسيقى من منطقتنا الشرقية، كان يرقص عليها ويبكي ويقول هذه الموسيقى ذكرتني بأمي عايشو، وبطفولتي حمل أمه معه أينما ذهب عندما كان طالباً أخذها معه إلى إيطاليا وفرنسا، تعلقه بوالدته كان غريباً لأنه عاش يتيماً.
لقد رافقت المعاناة حياة فاتح منذ طفولته وأيضاً بسبب ولديه الذين توفيا صغيرين، ورغم الألم الكبير كان يرسم لفترات طويلة، كان طاحونة ألوان لديه خبرة عميقة باللون، وأنا اعتبره الملون الأول في سوريا، إنه شاغال سوريا بإحساسه باللون، فاتح يرسم خطوط اللوحة ثم يهدمها كلها، يسمع صوت أمه تطارده من خلال الألوان، كما كان يحدث عندما كانت تلاحقه بالبراري وتعضه من جسده، يعرف قساوة البرية ويعرف نباتاتها وهو بري تماماً، من هنا أتتت شجاعته وقوته الفكرية من أقواله التي كان يضعها في مرسمه (يستطيع رجل أن يغلف الجبل بالظلام) أيضاً (هذا المغني قاطع طريق يرسم الجبال بصوته)، (المطر لا يهطل على الفقراء)، (مر هولاكو من هنا ابتسم وقرأ الفاتحة)، قال له حسين راجي: وهل هو مسلم؟ قال فاتح: نعم، مر بساعة في العراق وأقام مجزرة، وكتب (عزيزي بيل كلينتون إن أردت أن تسأل عن المسيح الجديد فها هم أطفال الحجارة ).
فاتح تعذب كثيراً كان يشعر بألم عميق على الرغم أنه كان جباراً قاتل الظلم أينما كان، وكان إنسانياً لأبعد الحدود في إحدى الليالي شاهد طفلاً متشرداً في الطريق، أخذه من يده وأدخله المرسم وأعطاه نقوداً ليشتري لنفسه حذاءً ولباساً وطعاماً.
أسلوب وأشكال وألوان فاتح كلها مستمدة من الطفولة ومن طبيعة المنطقة الشرقية التي ترعرع فيها، حتى أزياء النساء التي كان يرسمها هي أزياء كردية كالأزياء التي كانت ترتديها أمه وخالاته وأخواله، لوحته التي فاز فيها كفر جنة هي لوحة قرية من قضاء عفرين.
في لوحة (سيدة جبل الزيتون) رسم والدته، ورسم لوحة لثلاث نساء وأهداها لي وهي تضم عايشو (عائشة) أمه، وفاته (فاطمة) خالته، وزكو (زكية) والدتي.
علاقة فاتح بالمرأة المرأة بالنسبة لفاتح كان يمتلك كاريزما خاصة جاذبة لنّساء، كانت تجذبه المرأة الجميلة والذكية المثقفة، ذات الصوت المنخفض، لم يكن يحب طبقة الصوت العالية.
من طرائف فاتح أنه كانت لديه سيارة قديمة ولم تكن قيادته جيدة، وكانت تحدث معه عدة حوادث صغيرة، وكلما حدث وأتلف جزءاً من سيارته كان يقوم بالرسم عليه، حتى تحولت سيارته إلى لوحة تجريدية بحد ذاتها.
بالنسبة لموضوع التزوير ربما كان فاتح أكثر فنان سوري زورت أعماله، لكن معظم المزورين لايمتلكون جزءاً صغيراً من تقنياته وإبداعه، وحدثت أعمال التزوير وهو على قيد الحياة، وكشفنا بعضها، لكنها ماتزال تحدث حتى اليوم.
أدوار شهدا
ويقول شهدا لجريدة ” الناس نيوز ” الأسترالية :: “لا أريد الكلام عن أعمال الفنان الرائع فاتح المدرس، فقد أشبعت أعماله تحليلاً ونقداً ومديحاً، ولكن كان من الحظ أن أكون أحد تلامذته أثناء الدراسة في كلية الفنون، بالإضافة إلى مجموع رواد الفن في سوريا، مثل: محمود حماد، إلياس زيات، نذير نبعة ونصير شورى، الذين أسسوا كل بأسلوبه للفن الحديث في سوريا. كان للفنان فاتح المدرس رؤاه الخاصة في تدريب الفن لطلابه خارج مفاهيم الواقعية الجافة، والنسب التشريحية المملة، كان يحرّض على رؤية جمال الشكل الداخلي، وأن الخط يجب أن يحمل طاقة الفنان الداخلية، وأن الأشكال ليست كما تبدو وإنما كما يجب أن تكون، هذه المبادئ هي ما اختزنته بداخلي إلى الآن، واعتز بأني كنت أحد طلابه وأصدقائه”.
المدرس كاتباً
أصدر في عام 1954 دراسة في الفن تكوّنت من ثلاثة أجزاء، عرض من خلالها موجز تاريخ الفنون الجميلة، ومن بينها كانت دراسة في النقد الفني المعاصر، وأيضاً دراسة في “تاريخ الفنون في اليمن قبل 600 ق. الميلاد”.
وصدر لفاتح في الكتابة الإبداعية ديوانين شعريين، الأول بالتعاون مع شريف خزندار “القمر الشرقي على شاطئ الغرب”، باللغتين العربية والفرنسية مع رسوم لفاتح، والذي قدم فيه فاتح القصيدة البصرية وكان ذلك في عام 1962 في دمشق، والثاني بعنوان “الزمن الشيء” مع حسين راجي، منشورات دار الثقافة 1990في دمشق. وصدرت مجموعته القصصية الوحيدة والفريدة “عود النعنع” لأول مرة عام 1981، ثم صدرت الطبعة الثانية منها عام 1986 عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر ببيروت.
يقول سعيد حوارنية في المقدمة التي وضعها لمجموعة “عود النعنع” عن عالم فاتح القصصي:
“عالم فاتح، كعالم كافكا، مأساوي ومظلم، ولكن كافكا يصل بنا إلى درجة اللاجدوى، بينما تحس بأن فاتح، رغم كون الشر يطحن الخير في كل قصصه، ورغم أن أبطال أربع قصص لديه ينتهون بالموت المجاني، نتيجة الظلم الاجتماعي وجبروت الطبيعة، وبطل الخامسة يموت في الحياة بعد أن استهلك تماماً كجسد وروح، فإن القارئ يحس بموجة عارمة من السخط والحقد، تتجاوز مرحلة التأثر إلى الفعل، فاللامعقولية عند كافكا يحل محلها عند فاتح آلية العلاقات الطبقية، الاقطاعية الشرقية الاستبدادية في القصص، فهي تضعك أمام العدو وجهاً لوجه ورغم هزيمة الأبطال المحتومة، فهي هزيمة لا تضع القارئ على حافة اليأس، وإنما على طريق التغيير، فلا معنى هنا لاتهام فاتح بالتشاؤم، فمنطق الموت والمأساة في الفن يتجاوز اليومي ليصبح الرمز للنضال ضد عذابات الإنسان وضد سببها”. يقول حورانية أيضاً “ولغة فاتح لغة طازجة ندية متقشفة، وخاصة في “عود النعنع” و “رشو آغا”، فوراء هذه العفوية والبراءة الظاهرية تكمن معلميّة وصنعة في اختيار الكلمة المناسبة، وأحياناً المخترعة! المهم أن تلعب الكلمات دور الألوان في اللوحة من حيث التوازن والشفافية والإيحاء، فلا تستوقفك ولا تشعر بانفرادها، وإنما باندغامها المدهش في مجموع العمل.
وقال عنه الكاتب الكبير عبد الرحمن منيف “فاتح المدرس في القصة القصيرة، كما في الفن التشكيلي، أحد الرواد والمعلمين… كيف تتحول القصة القصيرة إلى ملحمة، إلى نشيد؟ وكيف تستطيع، باقتصادها المتناهي، أن تتحول إلى عالم بهذا الاتساع؟ هذا هو جوهر الفن، وهذا ما يقوله فاتح المدرس بأكثر من شكل وبأكثر من وسيلة”.
سوزان المحمود – الناس نيوز ::
يقول فاتح المدرس في معرض “فيلم مدرس” البالغ الأهمية المصور معه، وفي مرسمه، من قبل المخرجين السوريين المبدعين الثلاثة عمر أميرلاي وأسامة محمد ومحمد ملص: “الإنسان لا يعترف بشيء اسمه الزمن، لأنه ليس من مصلحته أن يعترف به، الإنسان يحب المكان لكنه لايحب الزمان، لأن الزمن عدو الإنسان، الوقت الزمن عدو العقل، العقل أحبَّ واستطاع في كثير من الحالات أن يلغي الزمن، باستطاعة العقل أن يأخذ الثانية في اللذة أو في التفكير ويمطّها ويساويها شهر، لكنه لم يستطع أن يعمل أفضل من ذل وأنا برأي الخلود لا يفسر إلا بهذه الطريقة هذا رأيي الشخصي، الخلود هو أن تصنع الزمن، العقل هو كل شيء، لكن الفنان التشكيلي يلتقطها لأنه يعيش فيها يوقفها وقت يريد ويعيش فيها قدر ما يريد في التحليل السليم في التكوينات وتضارب الألوان مع بعضها، بأسلوب سليم يستطيع أن يتحكم وهو يعمل بالوقت، لحظات يعطيها عمراً طويلاً وفي لحظات أخرى يشتغل فيها لأيام وهي في محلها مثل الرصاص”.
بمناسبة الذكرى المئوية لميلاد المعلم الكبير فاتح المدرس قمنا بتوجيه أسئلة محددة، وبأخذ شهادات شخصية لثلاثة من تلاميذ المعلم، وهم اليوم من أهم الفنانين في الحياة التشكيلية السورية :
عصام درويش
يقول درويش لجريدة ” الناس نيوز ” الأسترالية : فاتح كان أستاذنا منذ السنة الأولى في كلية الفنون الجميلة، كان هذا في عام 1974، كان من أهم الأساتذة على صعيد تعليم الفن، وليس على صعيد الرسم، كان يوجد أساتذة أهم منه بكثير في موضوع تعليم الرسم، كيف نرسم النسب، الضوء والظل واللون إلى آخره. فاتح طبعاً يُعلّم كل هذا لكن التأثير الرئيس له كان بفهم الفن، وفهم الحداثة، وفهم الحرية، حرية التفكير وحرية الإنتاج الفني، وأهم شيء هو حرية اختيار النمط الذي يجب أن تعمل عليه، لقد فتح لنا نافذة كبيرة في عقلنا، هذا هو فضل فاتح الكبير علينا، طبعاً هذا يتضمن كيف يمكن للشخص أن يختار ألوانه، وكيف يمكن أن يتأثر بفنانين آخرين، وكيف يمكن أن يقوم ببحثه الخاص.
طبعاً هناك قائمة طويلة من الفنانين التشكيليين الذين كانوا زملاءنا في الكلية، وكان فاتح أستاذهم، منهم من تأثر كثيراً ومباشرة بأسلوبه، ومنهم من حاول تقليده، ومنهم من قضى معظم حياته وهو تحت تأثيره المباشر بأسلوب شغله. لكن بالنسبة لي أنا شخصياً باعتباره دلنا على الطريق وفتح لنا نافذة الحرية، فأنا لم اشتغل أبداً استناداً للعالم الخاص به أو لأسلوبه، اشتغلت في الفن بطريقة مختلفة تماماً. تأثرت به كإنسان وكمجدّد وكباحث وكوجودي وكفيلسوف وكشاعر، لكنني لم أشتغل أبداً بشيء له علاقة بشغله، عملي مختلف تماماً، فعالم فاتح تعبيري، قوي، يذهب إلى اللوحة مباشرة بدون دراسات يستنبط الأشكال أثناء العمل المباشر على اللوحة، بالنسبة لي لوحتي مدروسة أقوم بدراسات كثيرة بقلم الرصاص والألوان قبل أن أبدأ بالعمل على اللوحة الأساسية، عالمي ميتافيزيقي له خيط مع السريالية، أما عالم فاتح فهو تعبيري مباشر، لايوجد شك بأن فاتح تأثر بالفنانين التعبيريين الألمان، والفرنسيين، والإيطاليين، لأنه درس في إيطاليا وفرنسا، وتأثر بالأفكار الثورية وبالوجودية بأفكار سارتر الفلسفية، واطلع على النتاج العالمي آنذاك، لكنه اختار موضوعاً محلياً له علاقة بجبالنا وسهولنا والبيئة الفلاحية والفلاحات، ببيئته وعائلته ووالدته الكردية، فهو تأثر كثيراً بالجو الكردي، وبأخواله، هذا جعل أعماله تنطبع بطابع محلي جداً وهذا ما نقله للعالمية، وكان هناك إحساس كبير بأن هذا فن سوري استلهم من التراث لكن بحداثة مميزة.
لفاتح موقع مهم في الفن السوري وفي الفن العربي وهو معروف على المستوى العالمي، وأعماله موجودة بمتاحف عالمية، وبمجموعات خاصة عند مشاهير بالعالم.
أما بالنسبة لأعماله النصية لا أعرف إن كان هناك محاولة لإعادة طباعتها، لأن هناك حقوق نشر موجودة لأشخاص طبعوا كتبه هذه مسألة خاصة لكل واحد، أنا شخصياً اشتريت من زمن طويل مذكرات فاتح من الخمسينيات تقريباً، ثلاثة دفاتر مجموعة جيدة من الكتابة وفيها رسوم أعتز كثيراً أنها موجودة عندي، أما بالنسبة لمحاضراته التي ألقاها على الطلاب لا أعرف إن كان هناك أحد مهتم بإعادة طباعتها، ربما يجب أن تفكر عائلته بذلك، لأن نصوص المحاضرات موجودة، لكن لا أعرف مدى أهميتها بالنسبة لمستقبل الفن السوري، فهو ألقاها كمحاضرات أولية بسيطة على طلاب الجامعة، أما بالنسبة لفاتح كناقد فأنا اعتقد أنه من أهم نقاد الفن التشكيلي، لكن باعتبار أنه كان مشغولاً بعمله الإبداعي وكان لديه مشكلة بالوقت، فهو كان نقيب فنون لمدة طويلة، هذا العمل الإداري لم يكن راضياً عنه، لكن مارسه خدمة للفن، لم يكتب كثيراً بالنقد ولم يتابع الحركة الفنية نقدياً مثل بعد النقاد المتفرغين، لذلك والذين اختصوا في مجال النقد، ولم يكن بعضهم منتجاً للفن، بينما هو كرس معظم وقته للإنتاج الفني الإبداعي.
تزوير أعمال فاتح
قدم الفنان عصام درويش وهو أحد مالكي مرسم فاتح المدرس الحاليين والمشرف عليه، محاضرة مهمة حول تزوير أعمال المدرس، وذلك خلال أيام التشكيل السوري في كلية الفنون الجميلة، وأعطى نماذج من الأعمال المزورة والأصلية، وتحدث عن عمليات التزوير وتأثيرها الخطير على سمعة الفن السوري في العالم، وكيف أثرت على انخفاض سعر لوحة الفن السوري، وشرح كيف يمكن تمييز لوحة المدرس الأصلية من المزورة، وكيف تم إحباط بعض عمليات بيع اللوحات المزورة.
زهير حسيب
يقول حسيب لجريدة ” الناس نيوز ” الأسترالية : “أعتبر فاتح من الرموز الثقافية الكبيرة، وهو مفكر بثقافة عالية عندما كان يدرس بباريس التقى بجان بول سارتر.
كان مرسم فاتح مركز إشعاع حضاري لكل الفنانين والموسيقيين، لأنهم جميعاً كانوا يستفيدون من تجاربه العميقة في الحياة، كنت طالبه بكلية الفنون وبقيت معه للنهاية، فقد كنت مساعده ويده اليمنى في المرسم، أأسس له اللوحات وأحضّر الألوان.
ولكن مرسم فاتح كان عبارة عن قبو رطب، كنا نعاني كثيراً من مشكلة المجاري الصحية التي تطوف وتخرب الكثير من اللوحات والكتب والأوراق، وكان السبب المباشر في إصابته بالروماتيزم، كان من المفترض أن تمنحه الدولة ممثلة بوزارة الثقافة مرسماً بشروط صحية جيدة وبإضاءة أفضل، لكنها لم تمنحه ذلك، وعلى الرغم من كل شيء خرجت من هذا المرسم الروائع، من يعرف أعمال فاتح يستغرب أنها خرجت من هذا المكان.
كان فاتح إنساناً شجاعاً إلى أبعد الحدود، كنت أحياناً أضع له موسيقى من منطقتنا الشرقية، كان يرقص عليها ويبكي ويقول هذه الموسيقى ذكرتني بأمي عايشو، وبطفولتي حمل أمه معه أينما ذهب عندما كان طالباً أخذها معه إلى إيطاليا وفرنسا، تعلقه بوالدته كان غريباً لأنه عاش يتيماً.
لقد رافقت المعاناة حياة فاتح منذ طفولته وأيضاً بسبب ولديه الذين توفيا صغيرين، ورغم الألم الكبير كان يرسم لفترات طويلة، كان طاحونة ألوان لديه خبرة عميقة باللون، وأنا اعتبره الملون الأول في سوريا، إنه شاغال سوريا بإحساسه باللون، فاتح يرسم خطوط اللوحة ثم يهدمها كلها، يسمع صوت أمه تطارده من خلال الألوان، كما كان يحدث عندما كانت تلاحقه بالبراري وتعضه من جسده، يعرف قساوة البرية ويعرف نباتاتها وهو بري تماماً، من هنا أتتت شجاعته وقوته الفكرية من أقواله التي كان يضعها في مرسمه (يستطيع رجل أن يغلف الجبل بالظلام) أيضاً (هذا المغني قاطع طريق يرسم الجبال بصوته)، (المطر لا يهطل على الفقراء)، (مر هولاكو من هنا ابتسم وقرأ الفاتحة)، قال له حسين راجي: وهل هو مسلم؟ قال فاتح: نعم، مر بساعة في العراق وأقام مجزرة، وكتب (عزيزي بيل كلينتون إن أردت أن تسأل عن المسيح الجديد فها هم أطفال الحجارة ).
فاتح تعذب كثيراً كان يشعر بألم عميق على الرغم أنه كان جباراً قاتل الظلم أينما كان، وكان إنسانياً لأبعد الحدود في إحدى الليالي شاهد طفلاً متشرداً في الطريق، أخذه من يده وأدخله المرسم وأعطاه نقوداً ليشتري لنفسه حذاءً ولباساً وطعاماً.
أسلوب وأشكال وألوان فاتح كلها مستمدة من الطفولة ومن طبيعة المنطقة الشرقية التي ترعرع فيها، حتى أزياء النساء التي كان يرسمها هي أزياء كردية كالأزياء التي كانت ترتديها أمه وخالاته وأخواله، لوحته التي فاز فيها كفر جنة هي لوحة قرية من قضاء عفرين.
في لوحة (سيدة جبل الزيتون) رسم والدته، ورسم لوحة لثلاث نساء وأهداها لي وهي تضم عايشو (عائشة) أمه، وفاته (فاطمة) خالته، وزكو (زكية) والدتي.
علاقة فاتح بالمرأة المرأة بالنسبة لفاتح كان يمتلك كاريزما خاصة جاذبة لنّساء، كانت تجذبه المرأة الجميلة والذكية المثقفة، ذات الصوت المنخفض، لم يكن يحب طبقة الصوت العالية.
من طرائف فاتح أنه كانت لديه سيارة قديمة ولم تكن قيادته جيدة، وكانت تحدث معه عدة حوادث صغيرة، وكلما حدث وأتلف جزءاً من سيارته كان يقوم بالرسم عليه، حتى تحولت سيارته إلى لوحة تجريدية بحد ذاتها.
بالنسبة لموضوع التزوير ربما كان فاتح أكثر فنان سوري زورت أعماله، لكن معظم المزورين لايمتلكون جزءاً صغيراً من تقنياته وإبداعه، وحدثت أعمال التزوير وهو على قيد الحياة، وكشفنا بعضها، لكنها ماتزال تحدث حتى اليوم.
أدوار شهدا
ويقول شهدا لجريدة ” الناس نيوز ” الأسترالية :: “لا أريد الكلام عن أعمال الفنان الرائع فاتح المدرس، فقد أشبعت أعماله تحليلاً ونقداً ومديحاً، ولكن كان من الحظ أن أكون أحد تلامذته أثناء الدراسة في كلية الفنون، بالإضافة إلى مجموع رواد الفن في سوريا، مثل: محمود حماد، إلياس زيات، نذير نبعة ونصير شورى، الذين أسسوا كل بأسلوبه للفن الحديث في سوريا. كان للفنان فاتح المدرس رؤاه الخاصة في تدريب الفن لطلابه خارج مفاهيم الواقعية الجافة، والنسب التشريحية المملة، كان يحرّض على رؤية جمال الشكل الداخلي، وأن الخط يجب أن يحمل طاقة الفنان الداخلية، وأن الأشكال ليست كما تبدو وإنما كما يجب أن تكون، هذه المبادئ هي ما اختزنته بداخلي إلى الآن، واعتز بأني كنت أحد طلابه وأصدقائه”.
المدرس كاتباً
أصدر في عام 1954 دراسة في الفن تكوّنت من ثلاثة أجزاء، عرض من خلالها موجز تاريخ الفنون الجميلة، ومن بينها كانت دراسة في النقد الفني المعاصر، وأيضاً دراسة في “تاريخ الفنون في اليمن قبل 600 ق. الميلاد”.
وصدر لفاتح في الكتابة الإبداعية ديوانين شعريين، الأول بالتعاون مع شريف خزندار “القمر الشرقي على شاطئ الغرب”، باللغتين العربية والفرنسية مع رسوم لفاتح، والذي قدم فيه فاتح القصيدة البصرية وكان ذلك في عام 1962 في دمشق، والثاني بعنوان “الزمن الشيء” مع حسين راجي، منشورات دار الثقافة 1990في دمشق. وصدرت مجموعته القصصية الوحيدة والفريدة “عود النعنع” لأول مرة عام 1981، ثم صدرت الطبعة الثانية منها عام 1986 عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر ببيروت.
يقول سعيد حوارنية في المقدمة التي وضعها لمجموعة “عود النعنع” عن عالم فاتح القصصي:
“عالم فاتح، كعالم كافكا، مأساوي ومظلم، ولكن كافكا يصل بنا إلى درجة اللاجدوى، بينما تحس بأن فاتح، رغم كون الشر يطحن الخير في كل قصصه، ورغم أن أبطال أربع قصص لديه ينتهون بالموت المجاني، نتيجة الظلم الاجتماعي وجبروت الطبيعة، وبطل الخامسة يموت في الحياة بعد أن استهلك تماماً كجسد وروح، فإن القارئ يحس بموجة عارمة من السخط والحقد، تتجاوز مرحلة التأثر إلى الفعل، فاللامعقولية عند كافكا يحل محلها عند فاتح آلية العلاقات الطبقية، الاقطاعية الشرقية الاستبدادية في القصص، فهي تضعك أمام العدو وجهاً لوجه ورغم هزيمة الأبطال المحتومة، فهي هزيمة لا تضع القارئ على حافة اليأس، وإنما على طريق التغيير، فلا معنى هنا لاتهام فاتح بالتشاؤم، فمنطق الموت والمأساة في الفن يتجاوز اليومي ليصبح الرمز للنضال ضد عذابات الإنسان وضد سببها”. يقول حورانية أيضاً “ولغة فاتح لغة طازجة ندية متقشفة، وخاصة في “عود النعنع” و “رشو آغا”، فوراء هذه العفوية والبراءة الظاهرية تكمن معلميّة وصنعة في اختيار الكلمة المناسبة، وأحياناً المخترعة! المهم أن تلعب الكلمات دور الألوان في اللوحة من حيث التوازن والشفافية والإيحاء، فلا تستوقفك ولا تشعر بانفرادها، وإنما باندغامها المدهش في مجموع العمل.
وقال عنه الكاتب الكبير عبد الرحمن منيف “فاتح المدرس في القصة القصيرة، كما في الفن التشكيلي، أحد الرواد والمعلمين… كيف تتحول القصة القصيرة إلى ملحمة، إلى نشيد؟ وكيف تستطيع، باقتصادها المتناهي، أن تتحول إلى عالم بهذا الاتساع؟ هذا هو جوهر الفن، وهذا ما يقوله فاتح المدرس بأكثر من شكل وبأكثر من وسيلة”.