بيوتي خيالات اُستحضرت من الذاكرة الفكرية والبصرية
الناقد سعد القاسم
تحمل اللوحات بشكل عام موضوعاً يتعلق باختصاص الفنان، وهو بالنسبة لي العمارة الداخلية، لذلك أخذت الأعمال طابعاً معمارياً، اعتمد عليه في نسيج اللوحات، وعلى استعارات مختلفة لعناصر من البيوت الدمشقية وتوليفها وإعادة تشكيلها من جديد. مع التأكيد على التكوين الرصين وفي إحداث تلخيص خاص تكون جميع هذه العناصر التكوينية فيه متفاعلة بنمط فني واحد منسق لا يشتت العين. عناصر مستقاة من البيئة الشعبية للبيوت والأحياء السكنية الدمشقية، والتي لم يضع المعماريون مناهج ومخططات لبنائها، إنما جاءت عفوية متأثرة بالتقاليد والأعراف الموروثة، ذات طابع تراثي واضح (العمارة مازالت أكثر الفنون تعلقاً بالتراث). لذلك جاءت هذه الأعمال الفنية شاهد حق لعالم هذه البيوت وعالم الحارات الشعبية وما تعطيه من جماليات، تجعلنا نسترجع بذكرياتنا وأذهاننا ما قد افتقدناه من هذه العوالم، والتي مازالت قائمة بعض منها حتى الآن، تعطي وجه الحياة فيها صفات ومناخات لا تستطيع أن تعطيها دروب المدنية المعاصرة، ظهرت بأشكال متمسكة بوسيلة التجميل البيئية الخاصة، ألا وهي المواد الخام المستخدمة من طين وحجر وخشب وما شابه من خامات الطبيعة بأصولها ونقائها،
يقول المعمار حسن فتحي عن العيش في بيوت اسمنتية معاصرة: « عش الطائر يشبه شكله والانسان خلق من طين ولم يخلق من اسمنت مسلح.. لماذا نعيش نحن في بيوت أشكالها تناقض عضويتنا ». ويعتبر حسن فتحي، البيت مثل الصدفة بالنسبة للحلزون فهو يأخذ شكل ساكنه، لذلك أضحى هذا البيت لصاحبه الملجأ المريح في جميع الظروف، فالعمارة الطينية تقدم وسطاً سكنياً أكثر انسيابية، مقارنة مع البيوت البيتونية والمواد المعدنية وغيره..والتي تمثل نماذج تقنية باردة جامدة بلا روح، لا علاقة لها بالبيئة والتراث. بيوت سكنها الانسان بكل كيانه مزوداً بأخلاقه وحنينه، مشبع بالذكريات والقصص، ولهذا حين يبتعد عن بيته لوقت محدد أو غير محدد، نراه يحس بالحنين إليه، وإلى الذكريات والمشاعر التي افتقدها، لذلك جاءت عناصر هذه البيوت بتكوينات وتشكيلات تعيد لنا تلك الذاكرة
يقول فان كوخ: « كلما هجرتني الأشياء وأمعنت في ذلك كلما تصبح نظرتي أسرع وأكثر حدة لرؤية الجانب التشكيلي فيها ». فالفكرة الهادفة وراء العمل الفني، هي التذكير بالقيم الجمالية الرائعة، التي أصبحت منسية في عمارة بيوتنا السكنية الشعبية، والتي في صورتها الحالية بمنطقتنا خالية ومجردة من شخصيتها الأصلية، نتيجة المستوردات الدخيلة عليها، واستحضار ما غاص في الذاكرة من مخزون ملامح هذه البيوت وشخصياتها المميزة، والتي كادت تصبح على عتبة النسيان، وكذلك لتصبح وثيقة تراثية للأجيال القادمة..وكما قال المعمار حسن فتحي رائد العمارة الوطنية عن نفسه: « لم يبتدع فكراً جديداً، ولكنه يقيم التراث ويجعله متصلاً بالحاضر».
ليست هذه البيوت الشعبية والدمشقية، التي جاءت في لوحاتي، صوراً عن الواقع، بل هي من خيالات اُستحضرت من الذاكرة الفكرية والبصرية، جاءت بصيغة تشكيلية مغايرة للواقع، يقول أفلوطين: « الخيال يساعد في التفوق على الطبيعة». إذ عن طريق الخيال يستحضر الفنان الغيب ويلاحظ ما لا يشاهده الانسان العادي، ليصبح فنه أكثر من محاكاة أو إعادة ترتيب وتشكيل للعالم الخارجي. فإن اعتماد الخيال في الرسم، دليل إشراك المشاعر والأحاسيس في عملية خلق العمل الفني، والذي هو نتيجة حسية ملموسة للصورة الذهنية التي اختزلت في الذاكرة، يقول مايكل أنجلو: « إن المرء لا يرسم بيده بل بفكره». فالخيال في الفنون الجميلة هو (سيد المَلكَات) وهو الذي يحلل العناصر ويعيد تشكيلها بصور واستبصارات مختلفة، فلا يظهر العمل الفني من خلال الأشياء والعناصر الموجودة في الطبيعة، بل من خلال المعنى الذي يعطيه الفنان لهذه العناصر. فالصلة المتينة بين فكر وخيال الفنان، قادران على خلق صوراً جديدة للعمل الفني وإيجاد وابتكار أشياء وأشكال وتصورات جديدة، وتكوينات ذات مفهوم معاصر، تحمل شخصيته وهويته الخاصة.
* مطلع بيان فني ذاتي عن تجربة الراحل الغالي سهيل معتوق أنجزه قبل نحو سنة، وهو موضوع غلاف العدد الأحدث من مجلة (الحياة التشكيلية) الذي ما يزال قيد الطبع.