عازف الپيانو : معزوفة التشرد منذ العام 2002 الذي ظهر فيه فيلم ( عازف الپيانو The Pianist ) ، لم يرتقِ الى مستواه فيلمٌ واحدٌ من أفلام ( الهولوكوست ) التي تناولت قضية إبادة اليهود على يد النازيين إثناء الحرب العالمية الثانية ، بما فيها تلك الأفلام التي نالت العديد من الجوائز العالمية ، والتي ربما نالتها لأسبابٍ سياسية و ليست فنية ، لا كما حصل مع ( عازف الپيانو ) الذي مسك الرمانتين بيدٍ واحدة . ففي العام 2002 ، بهر هذا الفيلم كل من كان مأخوذاً بهذه الأنواع من الأفلام و من كان ضدها ، على حد ٍ سواء ، من حيث السيناريو الذي كتبه " رونالد هاروود " الذي نال عنه جائزة الأوسكار ، او التمثيل الذي جسّد البطولة فيه " أدريان برودي " فنال جائزة الأوسكار كأفضل ممثل في دور رئيسي ، أو الإخراج الذي كانت الأوسكار من نصيب مخرجه الفرنسي الپولندي " رومان پولانسكي " ، الذي لم يتمكن من حضور حفل توزيع الجوائز بسبب مطاردة القضاء الأمريكي له على خلفيةِ تهمةِ اغتصابٍ جنسيٍ لفتاةٍ قاصر منذ العام 1977 ، و مازالت القضية لم تُغلق حتى هذه اللحظة . هذا فضلا ًعن الجوائز المختلفة الأخرى التي نالها الفيلمُ من مهرجانات ( كان ) ـ السعفة الذهبية ـ و ( سيزار ) و ( بافتا ) ، و هي من أبرز الجوائز السينمائية العالمية . فيلم ( عازف الپيانو ) صُمّم على طريقة " پولانسكي " ، الباهرة دائماً ، ليحتل مكانة راسخة في ذاكرة المشاهدين ، حتى و إن كانوا ضد أفلام ( الهولوكوست ) ، بقصته و أحداثها ، و السيناريو الذي وظـّـف هذه القصة ، و تصويرهِ ، و موسيقاه ، و تمثيلهِ ، و في النهاية بإخراجهِ الحاذقِ الذي كرّس إسمَ " رومان پولانسكي " في تاريخ السينما و توّج تاريخَه السينمائيَ الشخصي . الفيلمُ يعتمد قصة ً حقيقية ً حصلت لـ ( عازف الپيانو ) الپولندي اليهودي " ڤالديك سپيلمان " ( 1911 ـ 2000 ) الذي تعرض للإضطهاد و التشرد الرهيب في بلاده ( پولندا ) على يد النازيين الآلمان ، و الذين احتلوها كمَعْبر الى أوروبا الشرقية ، عام 1939 ، بمليونٍ و نصفِ مليونِ عسكريٍ آلماني ، كما هو معروف تاريخياً . و المخرج ، نفسُهُ ، ( المولود عام 1933 ) كان قد تعرّض الى ما يشبه ما تعرض اليه بطل القصة الحقيقي " سپيلمان " ،. فـعائلة " پولانسكي " اليهودية نفسُها كانت قد تعرضت الى الإعتقال في المعسكر النازي الشهير ( أوشفيتز ) ، حيث توفيت والدتُهُ ، في حين تمكن والدُه من الهرب بإبنه ، و تَركِهِ لدى عائلةٍ پولنديةٍ مسيحية ، اضطرت الى ابقائه في حضيرة الحيوانات ، خشية َ اكتشافِهِ من قِبـَـلِ الجيش النازي أو المتعاونين معه من العملاء الپولنديين . نحن ، إذاً ، أمام مُخرج يفهم مشاعر بطل فيلمه الحقيقي ، و لديه من خزين الشحنات ما يكفي لإفراغها في لب عمله ، و يتتبع مسار مواطنه المشرد و يتلمس مأساة هذا المواطن من خلال مأساته الشخصية ، ليجسدها عبر خبرته في الصنعة السينمائية فيخُرج الينا هذا الفيلم الذي لا يُنسى . كل أحداث الفيلم تدور في العاصمة الپولندية ( وارسو ) . و تبدأ ـ مع نغمات الپيانو ـ بصورة فيلمية وثائقية ، بالأبيض و الأسود ، للمدينة التي كانت تعيش في سلام عام 1939 . ثم تظهر ــ بالألوان ــ أصابعُ العازف " سپيلمان " ، و هي الصورة نفسها التي استُخدمت في بوستر الفيلم ، ثم تظهر صورته ، كاملة ً ، و هو يعزف في دار الإذاعة الپولندية الرسمية ، ولكن ستختلط موسيقاه مع أصوات القصف الذي سيطال دار الإذاعة ، فيضطر الى الهرب في هروب جماعي حيث تلتقيه امرأة معجبة بعزفه لموسيقى " شوپان " ، هي السيدة " دوروتا " .. عازفة آلة الـ ( چلو ) ، و التي ستبذل و زوجها قصارى جهودهما في مساعدته لاحقاً . هذه بداية تمهيدية ، قدّمها " پولانسكي " لمُشاهِدهِ الذي سيجرّهُ الى أحداث درامية تجعله مُنشدّاً تدريجياً الى صنعة سينمائية يكاد لا يفيق من سحرها حتى ينتهي الفيلم نهاية ً مدروسة دراسة ًعبقرية سينمائية وفرت لـ " پولانسكي " استحقاقه الجوائز التي نالها عن هذا الفيلم الباهر ، و في مقدمتها جائزة الأوسكار . و على الرغم من أن المخرج أعتمد الهرم الإغريقي في عرض التراجيديا ( التمهيد ، الذروة ، النهاية ) ، إلا أنه قدم فيلمه على مساحة سردية عريضة ، ليشد المُشاهِدَ العادي ، و بالتأكيد مع الإهتمام بحساسية المُشاهد الفَطِن المتخصص الذي يفهم البناء الدرامي . بداية ( الدراما ) في الفيلم تنطلق من شقة " سپيلمان " حيث تجد العائلة ُ نفسَها في محنةٍ أمنيّةٍ و ماليةٍ مُهينة ، بسبب الجيش النازي المحتل ، و الذي يتفنن المخرج في تقديم مَشاهد تمثل سلوكيات أفراده المُنحطّـة . و السيناريو يُمهّد للمأساة باجراءاتٍ صارمة ً تفرضها سلطة الاحتلال النازية ، و هي إجراءاتٌ فرضتها على جميع البلدان التي غزتها ، مثل : عدم السماح لليهودي بالإحتفاظ بأكثر من 2000 زلوتي ( عملة پولندية ) . عدم السماح لليهود بارتياد المقاهي و المتنزهات . و اعتباراً من الأول من ديسمبر 1939 ، يتوجّب على كل يهودي ، فوق الثانية عشرة من العمر ، أن يضع شريطاً أبيضَ على ذراعه الأيمن ، يحمل ( نجمة داوود ) ، لتمييزه عن غير اليهود . و الإعلان عن اعتبار يوم 31 اكتوبر من العام 1940 تاريخاً لنزوح اليهود من العاصمة الپولندية ( وارسو ) الى منطقة محددة ، خُصصت لإقامة اليهود حصراً . و كل هذه الإجراءات موقـّعة بتوقيع القائد النازي " دكتور فيشر " . و بهذه الإجراءات تنهار كل الآمال التي بعثت النشوة في العائلة حين سماعها من محطة إذاعة ( بي . بي . سي . ) الأخبار التي تحدثت عن ( إعلان بريطانيا الحرب على آلمانيا النازية ) و ( قـُرب انضمام فرنسا الى جانب بريطانيا ) و أن ( پولندا لم تعـد وحيدة ) . ولكنها بقيت وحيدة .. بل و تعرضت للغدر . و واقع الحال فإن اليهودَ من سكان پولندا ، لم يكونوا وحدهم من عانوا من وطأة الإحتلال ، بل جميع الپولنديين ، ماعدا الخونة المتعاونين مع المحتلين ، و مهما يكن فالاحتلال يبقى احتلالاً . و فوق هذا فإن احتلال پولندا كان احتلالاً مختلفاً و ذا أثر بالغ على الپولنديين . فقد كان " ستالين " و " هتلر " قد تآمرا ــ قبلَ انطلاقِ الحربِ العالمية الثانية ــ على تقسيم پولندا بينهما ، وَفقاً للإتفاقية التي وقّعها ــ سِرّاً ــ وزيرا الخارجية ، الروسي " مولوتو ڤ " و الآلماني " ريبنتروپ " ، باعتبار پولندا كانت جزءاً من الإمبراطوريتين الروسية و الآلمانية قبل الحرب العالمية الأولى . هذا الإتفاق ، لم يكن يعلم به أحد حتى دخلت قواتُ " هتلر " پولندا في 1 سبتمبر / أيلول من عام 1939 ، و دخلتها قواتُ " ستالين " من الطرف الآخر في السابع عشر من الشهر نفسه . و لكي يُخمِد " ستالين " أنفاسَ نـُـخَب الشعب الپولندي المُعترضة على هذا الإتفاق فقد دبّر مجازرَ غابة ( كاتين ) التي راح ضحيتها نحو 22 ألف پولندي من العسكريين و الكتاب و الفنانين و الصحفيين و أساتذة الجامعات . ولكن السوڤييت كتموا سر هذه المجازر ، و لم يتحدث عنها أحد ، حتى غزا الجيشُ الآلماني الأراضي السوڤييتية في 22 يونيو / حزيران عام 1941 ، في عمليةٍ أُطلِقَ عليها إسمُ ( بارباروسا ) ، فعثرت القواتُ الآلمانية على أولِ مقبرةٍ جماعيةٍ في غابة ( كاتين ) و هي تضم رُفاتِ ضباطٍ پولنديين بحُلَلِهِم و رُتبَهِم العسكرية . ولكن الروس أنكروا المجزرة و ألقوا التهمة على الآلمان أنفسهم و ظلوا يتنصلون من مسؤوليتها ، حتى كشف عنها الرئيس الروسي ” گورباچوڤ ” ، و تبيّنت مسؤولية الكرملين عنها و أن الذي كان يقف وراء فكرتها هو المجرم السوڤييتي ” لا ڤرينتي بيريا ” رئيس الشرطة السرية الذي ذهب الآلاف من المواطنين الروس ضحية جرائمه في عهد ستالين . و في عام 2007 كان المخرج البولندي الشهير ” اندريه ڤايدا ” ( 1926 ـ 2016 ) قد أخرج فيلماً روائياً رائعاً عن هذه المجزرة بعنوان ( كاتين KATYN ) . و ” أندريه ڤايدا ” هو أول مخرج عمل معه ” رومان پولانسكي ” ــ كممثل ــ في فيلم ( جيل A Generation ) عام 1950 . ما يعني أنه تتلمذ على يد فنان سيصبح واحداً من أهم مخرجي السينما العالمية . غير أن فيلمه ( عازف الپيانو ) ـــ الذي جاء قبل فيلم ( كاتين ) بخمس سنوات ـــ فيلمُ سيرةٍ ذاتية ، يتناول محنة فردية لمواطن پولندي معروف هو العازف ” ڤالديك سپيلمان " ( 1911 ـ 2000 ) التي يمكن اعتبارها تلخيصاً لمحنة اليهود من سكان پولندا ، ولكنها ــــ في النهاية ــ تلخيصٌ لمحنة الشعب الپولندي بأكمله مع الاحتلال . و الفيلمُ يعتمد مذكرات ” سپيلمان ” نفسه ، و التي صدرت عام 1946 بعنوان ( موت المدينة ) و قد وثق فيها تفاصيل هذه المحنة التي مرّ بها من عام 1939 حتى عام 1945 ، و هي سنوات الإحتلال الآلماني لپولندا . ولكن هذه المذكرات مُنعت ــ حينها ــ في كلٍ من پولندا و الإتحاد السوڤييتي ، و لا حقاً في إسرائيل . فهي لا تقتصر على معاناة الفنان المُشرد ” سپيلمان ” الذي مُنع من ركوب القطار مع أهله الذين حصلوا على تذاكر الهجرة الى أمريكا ، بل تشمل معاناة الشعب الپولندي برمّته ، و يتعرض في مذكراته الى مقاومة الوطنيين للإحتلال النازي ، ولكنه يتعرض ــ أيضاً ــ لخيانات بعض الپولنديين لبلدهم و خيانات بعض اليهود لدينهم ، كما أن إسرائيل لا تريد تصديق أن ضابطاً آلمانياً نازياً موسيقياً تعاطف مع اليهودي العازف ” سپيلمان ” ، ولكن هذه الواقعة ذكرها الفنان في مذكراته و أكّد عليها ” پولانسكي ” في فيلمه . كان دور ” ادريان برودي ” في هذا الفيلم دوراً مُقنعاً استحق عنه الإوسكار ، فكان ذلك بداية انطلاقته السينمائية الحقيقية ، و بداية شهرته ، و عندما نال الأوسكار عن هذا الدور كان في التاسعة و العشرين من عمره ، ولكنه لم يقدم بعده دوراً يرقى الى مستوى دوره في ( عازف الپيانو ) .
https://ok.ru/video/633135958768
https://ok.ru/video/633135958768