قبل أيام زرت متحف ايف سان لورون عند هضبة الشانزليزية في أفنيو مرسير. كان الزحام على أشده، والطابور يصل نهاية زقاق بواسو. وقفت متكئا على قراءة كتاب فيركونار عن باريس في القرن التاسع عشر.
دخلت. كان اللون الأسود على الجدران مغمورا بصور الحياة اللوكس من باريس الستينيات والسبعينيات، تشعر أنك أمام عصر آخر، عصر إحياء عارم للأبيقورية الحسية التي وجد فيها بنيامن دوس العالم الأكثر شهوانية في الفصل الغربي.
هل استمرت هذه النزعة الباريسية طويلاً؟
عمل ايف سان لوران في بداية حياته في مشغل كريستيان ديور. ثم خرج ليعمل وحده.
طرح عطره الصادم «أوبيوم» في العام 1977، ذلك أن فرنسا، من وجهة نظري، كانت هي الحضارة الغربية مقطرة، فقدست الحياة الحسية، وأفردت فراغاً هائلاً للحياة اليومية، هذا افتراقها عن الغرب، وافتراق الغرب عن كل الحضارات الإنسانية، ذلك أنه وحده الذي طور أستطيقا كاملة عن الأزياء تسللت له عبر الثقافة الهيلينية.
في كل الحضارات الإنسانية تقريباً، تتعلق الملابس بالطهرانية، بينما تتعلق الملابس في الغرب بالجنسانية، لا من تقديس العاطفة وحدها، إنما من تدليل الجسد أيضاً، فالملابس تقوم بتنفيذ رائع لإطالة المتعة، إنّ الإخفاء والتستر هو لغرض توهج الشهوة وشبوبها، حيث يتحول الإخفاء إلى لعبة متبادلة يعطي الرجل والمرأة فيها كل طرف نفسه للطرف الآخر.
أجهزت عقلية الفقيه في الحضارة الإسلامية على عقلية الفيلسوف بجعل الجسد شائناً ومرفوضاً فبقيت الثقافة الغربية وحدها من حيث قدرتها على ربط الملابس بالأستطيقا أي بالجمال وليس بالأتيقا أي الأخلاق.
تراجعت الحضارات الأخرى كلها بما فيها الحضارة الإسلامية لتربط بين الملابس والإيثيقا (الأخلاق).
استطاعت الحضارة الاسلامية ان تخطو بقوة في بداية تاريخها نحو ربط الملابس بالاستطيقا، لكن كلما انحدرت تغيرت رؤية الثقافة إلى الجسد، حتى وصلت عند ابن تيمية والبخاري إلى جعل الجسد شائناً ومرفوضاً.
لقد حدث في الحضارة العربية الإسلامية نوع من المواجهة القاسية بين التراث الهيليني والتقليد الديني، كلما غادر الإسلام عصره الذهبي، أي العصر الوسيط، استطاعت منظومة الفقيه كبح جماح الهيلينية المتسللة، واستطاعت رد الحياة الإسلامية إلى نوع من التقشف القاسي.
إلا أن الهيلينية استطاعت التسرب بقوة إلى الحضارة الغربية حتى هيمنت عليها، إنها الجدلية الخلاقة التي أثمرت روح المنطق العاطفي منشبكاً مع المنطق العقلي، حتى المنطق الذي تأسس في الحضارة الإسلامية على المعرفة بالتصورات، وهو جزء من المنطق الاشراقي الذي لا يسلم - بدوره - من تأثير المنطق العقلي، إلا أنه كبح تقديسه للجسد، ولم يبق من الجسد المدلل والممّتع في الحضارة الإسلامية إلا الجسد العليل في منظومات ومدونات الطب العربي الوسيط.
وإن كان هذا الجدال كائناً في ثقافة العصر الوسيط في الغرب، إلا أن تسلل الهيلينية كان حاسماً. لقد عدت الحضارة الغربية الملابس نوعاً من استدراج الرغبة والحب، هذه المعجبة spectacle هذه المشهدية الإعلانية لعارضات الأزياء: نساء جميلات فارعات الطول، ترتسم على وجوههن نظرة جانبية صارمة، بينما يرقب الجمهور هذا التناسق المذهل في انتظار مصعوقٍ، وتبقى العدسات مسمّرات إلى الحركة المنضبطة، حركة الجسد في أقصى رشاقته وتناسقه، لالتقاط اللحظة الدراماتيكية من حكاية إيروس.
لقد توفي إيف سان لوران، الأسطورة الأكثر توهجاً في عالم تصميم الأزياء، بعد مرض طويل عن عمر ناهز السبعين عاماً، وفي كل حياته كان شاعراً بارعاً ومصوراً فناناً، استوحى في تصاميمه الخلاقة الأعمال الخالدة لماتيس، وفان كوخ وغوغان، واستوحى القصائد الأكثر حسية من ديوان رامبو، والأكثر تجريدية من ديوان فاليري، وخلق ببراعة كاملة نوعاً من المواءمة بين توهج الروح وحركة الجسد وبين طبيعة النسيج أو القماش مع الألوان. الا أنّ نفوذ سان لوران في عالم الازياء انحسر أواخر تسعينيات القرن الماضي، كما انخفضت ارباح مشغله مما اضطره الى اغلاقه في عام 2002، فهل نحن أمام صعود انتصاري للأزياء الأميركية، هذا الخليط المشوش بين فن الكيتش والذوق الشعبي، وهي الهيمنة الطاغية التي بشر به آندي وارهول للفن الأكثر ابتذالاً بلا منازع.
علي بدير
دخلت. كان اللون الأسود على الجدران مغمورا بصور الحياة اللوكس من باريس الستينيات والسبعينيات، تشعر أنك أمام عصر آخر، عصر إحياء عارم للأبيقورية الحسية التي وجد فيها بنيامن دوس العالم الأكثر شهوانية في الفصل الغربي.
هل استمرت هذه النزعة الباريسية طويلاً؟
عمل ايف سان لوران في بداية حياته في مشغل كريستيان ديور. ثم خرج ليعمل وحده.
طرح عطره الصادم «أوبيوم» في العام 1977، ذلك أن فرنسا، من وجهة نظري، كانت هي الحضارة الغربية مقطرة، فقدست الحياة الحسية، وأفردت فراغاً هائلاً للحياة اليومية، هذا افتراقها عن الغرب، وافتراق الغرب عن كل الحضارات الإنسانية، ذلك أنه وحده الذي طور أستطيقا كاملة عن الأزياء تسللت له عبر الثقافة الهيلينية.
في كل الحضارات الإنسانية تقريباً، تتعلق الملابس بالطهرانية، بينما تتعلق الملابس في الغرب بالجنسانية، لا من تقديس العاطفة وحدها، إنما من تدليل الجسد أيضاً، فالملابس تقوم بتنفيذ رائع لإطالة المتعة، إنّ الإخفاء والتستر هو لغرض توهج الشهوة وشبوبها، حيث يتحول الإخفاء إلى لعبة متبادلة يعطي الرجل والمرأة فيها كل طرف نفسه للطرف الآخر.
أجهزت عقلية الفقيه في الحضارة الإسلامية على عقلية الفيلسوف بجعل الجسد شائناً ومرفوضاً فبقيت الثقافة الغربية وحدها من حيث قدرتها على ربط الملابس بالأستطيقا أي بالجمال وليس بالأتيقا أي الأخلاق.
تراجعت الحضارات الأخرى كلها بما فيها الحضارة الإسلامية لتربط بين الملابس والإيثيقا (الأخلاق).
استطاعت الحضارة الاسلامية ان تخطو بقوة في بداية تاريخها نحو ربط الملابس بالاستطيقا، لكن كلما انحدرت تغيرت رؤية الثقافة إلى الجسد، حتى وصلت عند ابن تيمية والبخاري إلى جعل الجسد شائناً ومرفوضاً.
لقد حدث في الحضارة العربية الإسلامية نوع من المواجهة القاسية بين التراث الهيليني والتقليد الديني، كلما غادر الإسلام عصره الذهبي، أي العصر الوسيط، استطاعت منظومة الفقيه كبح جماح الهيلينية المتسللة، واستطاعت رد الحياة الإسلامية إلى نوع من التقشف القاسي.
إلا أن الهيلينية استطاعت التسرب بقوة إلى الحضارة الغربية حتى هيمنت عليها، إنها الجدلية الخلاقة التي أثمرت روح المنطق العاطفي منشبكاً مع المنطق العقلي، حتى المنطق الذي تأسس في الحضارة الإسلامية على المعرفة بالتصورات، وهو جزء من المنطق الاشراقي الذي لا يسلم - بدوره - من تأثير المنطق العقلي، إلا أنه كبح تقديسه للجسد، ولم يبق من الجسد المدلل والممّتع في الحضارة الإسلامية إلا الجسد العليل في منظومات ومدونات الطب العربي الوسيط.
وإن كان هذا الجدال كائناً في ثقافة العصر الوسيط في الغرب، إلا أن تسلل الهيلينية كان حاسماً. لقد عدت الحضارة الغربية الملابس نوعاً من استدراج الرغبة والحب، هذه المعجبة spectacle هذه المشهدية الإعلانية لعارضات الأزياء: نساء جميلات فارعات الطول، ترتسم على وجوههن نظرة جانبية صارمة، بينما يرقب الجمهور هذا التناسق المذهل في انتظار مصعوقٍ، وتبقى العدسات مسمّرات إلى الحركة المنضبطة، حركة الجسد في أقصى رشاقته وتناسقه، لالتقاط اللحظة الدراماتيكية من حكاية إيروس.
لقد توفي إيف سان لوران، الأسطورة الأكثر توهجاً في عالم تصميم الأزياء، بعد مرض طويل عن عمر ناهز السبعين عاماً، وفي كل حياته كان شاعراً بارعاً ومصوراً فناناً، استوحى في تصاميمه الخلاقة الأعمال الخالدة لماتيس، وفان كوخ وغوغان، واستوحى القصائد الأكثر حسية من ديوان رامبو، والأكثر تجريدية من ديوان فاليري، وخلق ببراعة كاملة نوعاً من المواءمة بين توهج الروح وحركة الجسد وبين طبيعة النسيج أو القماش مع الألوان. الا أنّ نفوذ سان لوران في عالم الازياء انحسر أواخر تسعينيات القرن الماضي، كما انخفضت ارباح مشغله مما اضطره الى اغلاقه في عام 2002، فهل نحن أمام صعود انتصاري للأزياء الأميركية، هذا الخليط المشوش بين فن الكيتش والذوق الشعبي، وهي الهيمنة الطاغية التي بشر به آندي وارهول للفن الأكثر ابتذالاً بلا منازع.
علي بدير