ليبيا مائة عام من المسرح"1908م- 2008 م"أو هكذا تكلم المسرحيون -2-75- نوري عبدالدائم
**************************************
التجريب إبداع لا اندفاع
بقلم / أحمد بشير عزيز
من خلال متابعتي لأيام طرابلس المسرحية في دورتها الثالثة التي أقيمت على مسرح الكشاف خلال فترة المهرجان
وذلك بمشاركة 13 فرقة مسرحية هي الفرق العاملة في طرابلس لاحظت أن عدداً من المخرجين اختاروا التجريب مجالاً
لإبداعهم وقدموا فيه أعمالهم التي عرضت بالأيام ، ولكن هل كانت كل تلك الأعمال صالحة لأن تقدم في إطار التجريب ؟
وهل كل المخرجين الذين قدموها يملكون القدرة والاستعداد الذي يؤهلهم لولوج هذا الأتجاه الفني والإنتاج فيه ؟
وهل حققت تلك الاعمال الغاية المطلوبة ونجحت في إيصال مضامينها إلى الجمهور ؟
بتقديري إن عدداً من أولئك المخرجين أخطاءوا الطريق وحلقوا في فضاءات رمادية تشوش فيها كل شىء وضاع فيها
الشكل والمضمون .
فالتجريب ليس معناه التغريب والغموض وليس هو دوامة حلزونية تنهي كل شىء في مسارها بحجة أنه أى التجريب هو
تجاوز ومغامرة وجدل واشتباك وحتى إذا كان كذلك فهو لايعني الزلة والانكسار ولايعني الهلامية والتخريف والانفصام .
التجريب حالة إبداعية موضوعها الإنسان وبالتالي لابد أن يكون ملتصقاً بهموم المجتمع وقضاياه وليس هدماً للنص
لكنه تكملة له وعلى هذا الأساس فالمجرب لابد أن يكون مدركاً لما يقدمه مستوعباً لمفرداته عالماً بما يريد أن
يحققه .
تاريخ المسرح يقول ذلك .. والتجربة المسرحية الممتدة عبر قرون عديدة تؤكد ذلك ، فتسبس صاحب العربة في المسرح
اليوناني القديم كان مجرباً عندما اوجد الممثل الأول الذي أعتلى العربة وقدم من خلالها عرضاً أوصل من خلالها
مضموناً موجهاً للجمهور فارتبط به الجمهور بعد إحساسه بشىء جديد أطل عليه ، جدير بالقبول.
«اسخليوس» ، عندما أضاف الممثل الثاني كان مجرباً وكان هادفاً إلى تحقيق صيغة جديدة تضيف شيئاً وتزيد من حلة
التواصل مع الجمهور .
وهكذا «اسخليوس» عندما أضاف الممثل الثالث والأقنعة والأحذية والملابس .. كان مجرباً وكان حريصاً على تطوير
تكتيك العرض المسرحي والاقتراب أكثر من الجمهور ومساعدته على استيعاب ما يقدم على خشبة المسرح بصورة أكثر
سهولة ويسر .
تجارب عديدة قام بها المبدعون المسرحيون هدفوا إلى التطوير والترقية وتعميق مفهوم المسرح وترسيخ قيمته .
اسماء كثيرة وكثيرة «بريخت» مفهومه الجمالي «بسكاتور» و «ماير هولد» وتجاربهما في علاقة الممثل بالجمهور «
افرينوف» وتجاربه حول أهمية الجانب البصري في المسرح «غروتوفسكي» وتجاربه في المسرح الفقير الذي ارتكز على
الاقتصاد في المناظر والأصباغ والألوان انطوان آرتو الذي ربط نقل الواقع إلى المسرح بضرورة اعتماده على «
البانتومايم» ولغة الإشارة وغيرهم الكثيرون ناهيك عن التجارب العربية على مستوى النص التي بدأت بالسامر «يوسف
أدريس» ثم الحكواتي «توفيق الحكيم» ثم المرتجل «د . علي الراعي» ثم الاحتفالية «عبدالكريم برشيد» وعلى مستوى
الإخراج عند روجيه عساف ، الطبيب الصديق ، محمد إدريس كنماذج ، هكذا هو التجريب فتح الآفاق أمام الفنان لكي
يبدع ويعمل دون قيود ولكن أيضا دون شطط أو تزجية أو مصانعة.
أعود فأقول إن هناك خلطاً في تحليل مفهوم الجريب عن عدد من المخرجين الذين قدموا أعمالهم بأيام طرابلس
المسرحية النصوص التي جربوا عليها هي نصوص تقليدية تتناول موضوعات اجتماعية لا تحتاج لإدخالها في دائرة
التجريب باعتبار عدم قابليتهما من جهة وعدم قدرتها على الاحتفاظ بهويتها من جهة ثانية .
فليس كل نص يقبل أن يوضع على مشرحة التجريب ويشكل كاتباً يمكنه أن يكتب عملاً يحمل في داخله ما يفتح مسارب يمكن
استثمارها في مجال التجريب ، فالتجريب لغة في الكتابة ولغة في الإخراج تحتاج لمن يحذا صنعتها ويرسم أبعادها
دون الاخلال بمضمونها أو شكلها ، ومن هنا فإنه من غير المفيد في التجريب النقل من واقع إلى واقع مغاير ولا
ألباس شكل على مضمون ليس من قياسه .
أنا أدرك إن المخرجين الشباب لهم طموحاتهم ولهم رؤاهم ولهم حرصهم على الانفلات من عمليات التأطير ولهم رغبتهم
في الانطلاق في أجواء مفتوحة ولكن ليس معنى ذلك أن يحلقوا في المجهول دون إدراك لما يصنعون ودون هدف واضح
المعالم ينتهي إلى نتيجة يستفيد منها المتلقي .
نحن نخشي أن يأخذهم الحلم أن هم فعلوا ذلك فتكون قضيتهم قاسية ، صحيح أن التجريب هو إبداعات فردية تسعى كل
واحدة منها إلى خلق ذاتها لكن ذلك لابد أن يكون وفق دراسة وفهم ووعي وبصيرة ، صحيح أيضا أن العروض التجريبية
هي عروض تركيبية تبرز فيها براعات المجرب وتترجم رؤاه الفكرية والجمالية ولكن لايجب أن يكون ذلك على أساس
الاحتفاء بالشكل على حساب المضمون.
وأتصور أن هذا هو بيت القصيد في عدد من العروض التي قدمت بأيام طرابلس المسرحية والتي اختارت التجريب مجالات
لها"الاحتفاء بالشكل على حساب المضمون" للأسف هذا لا يخدم مفهوم التجريب ، فالتجريب ليس شيئاً هلامياً فضفاضاً ،
التجريب هو ابتكار واكتشاف داخل المألوف وتقديمه عبر أشكال وتكوينات ورؤى جمالية وفكرية وفلسفية غير مألوفة
، ولكنها تنطلق من طبيعة الموضوع «النص» وتترجم أبعاده وتنسجم معه .
أما أن نحشد على الركح أعداداً من البشر ممثلين أو مجاميع ونجعلها تصرخ وتموء وتقفز وتتمرغ وتتشابك وتصنع
بأجسادها وحركاتها تكوينات لاتفسير ولا تعبير ولا معنى لها بل أنها متناقضة مع مضمون النص فذلك عين التهريج
وضعف الفهم ومنتهى الاستخفاف بالمتلقى الذي جاء ليستمتع ويستفيد .
هناك فرق كبير بين الإبداع والتألق والابتكار وبين الانفلات وغياب التركيز والتهريج والتخريف.
أقول إن هذا البعض من المخرجين يتمتعون بالموهبة لكن الموهبة وحدها لاتكفي ولديهم الاستعداد لكن الاستعجال ضار
ولديهم الطموح لكن الرغبة في بلوغ الذروة في وقت أكثر من قياسي ومن اقصر الطرق ذلك معناه النهاية منذ
البداية .
لذلك نأمل أن يتفهم هذا البعض ذلك وأن يتحرك بخطى ثابتة وبوعي مسؤول ورغبة صادقة في إنجاز عمل له مقولة تحمل
معنى وله رؤية واضحة وهدف محدد لاضبابية فيه وهذا هو الطريق الصحيح لبلوغ دائرة الضوء الحقيقية دائرة الإبداع
والتألق .
ليبيا مائة عام من المسرح"1908م- 2008 م"أو هكذا تكلم المسرحيون -2-75- نوري عبدالدائم
**************************************
التجريب إبداع لا اندفاع
بقلم / أحمد بشير عزيز
من خلال متابعتي لأيام طرابلس المسرحية في دورتها الثالثة التي أقيمت على مسرح الكشاف خلال فترة المهرجان
وذلك بمشاركة 13 فرقة مسرحية هي الفرق العاملة في طرابلس لاحظت أن عدداً من المخرجين اختاروا التجريب مجالاً
لإبداعهم وقدموا فيه أعمالهم التي عرضت بالأيام ، ولكن هل كانت كل تلك الأعمال صالحة لأن تقدم في إطار التجريب ؟
وهل كل المخرجين الذين قدموها يملكون القدرة والاستعداد الذي يؤهلهم لولوج هذا الأتجاه الفني والإنتاج فيه ؟
وهل حققت تلك الاعمال الغاية المطلوبة ونجحت في إيصال مضامينها إلى الجمهور ؟
بتقديري إن عدداً من أولئك المخرجين أخطاءوا الطريق وحلقوا في فضاءات رمادية تشوش فيها كل شىء وضاع فيها
الشكل والمضمون .
فالتجريب ليس معناه التغريب والغموض وليس هو دوامة حلزونية تنهي كل شىء في مسارها بحجة أنه أى التجريب هو
تجاوز ومغامرة وجدل واشتباك وحتى إذا كان كذلك فهو لايعني الزلة والانكسار ولايعني الهلامية والتخريف والانفصام .
التجريب حالة إبداعية موضوعها الإنسان وبالتالي لابد أن يكون ملتصقاً بهموم المجتمع وقضاياه وليس هدماً للنص
لكنه تكملة له وعلى هذا الأساس فالمجرب لابد أن يكون مدركاً لما يقدمه مستوعباً لمفرداته عالماً بما يريد أن
يحققه .
تاريخ المسرح يقول ذلك .. والتجربة المسرحية الممتدة عبر قرون عديدة تؤكد ذلك ، فتسبس صاحب العربة في المسرح
اليوناني القديم كان مجرباً عندما اوجد الممثل الأول الذي أعتلى العربة وقدم من خلالها عرضاً أوصل من خلالها
مضموناً موجهاً للجمهور فارتبط به الجمهور بعد إحساسه بشىء جديد أطل عليه ، جدير بالقبول.
«اسخليوس» ، عندما أضاف الممثل الثاني كان مجرباً وكان هادفاً إلى تحقيق صيغة جديدة تضيف شيئاً وتزيد من حلة
التواصل مع الجمهور .
وهكذا «اسخليوس» عندما أضاف الممثل الثالث والأقنعة والأحذية والملابس .. كان مجرباً وكان حريصاً على تطوير
تكتيك العرض المسرحي والاقتراب أكثر من الجمهور ومساعدته على استيعاب ما يقدم على خشبة المسرح بصورة أكثر
سهولة ويسر .
تجارب عديدة قام بها المبدعون المسرحيون هدفوا إلى التطوير والترقية وتعميق مفهوم المسرح وترسيخ قيمته .
اسماء كثيرة وكثيرة «بريخت» مفهومه الجمالي «بسكاتور» و «ماير هولد» وتجاربهما في علاقة الممثل بالجمهور «
افرينوف» وتجاربه حول أهمية الجانب البصري في المسرح «غروتوفسكي» وتجاربه في المسرح الفقير الذي ارتكز على
الاقتصاد في المناظر والأصباغ والألوان انطوان آرتو الذي ربط نقل الواقع إلى المسرح بضرورة اعتماده على «
البانتومايم» ولغة الإشارة وغيرهم الكثيرون ناهيك عن التجارب العربية على مستوى النص التي بدأت بالسامر «يوسف
أدريس» ثم الحكواتي «توفيق الحكيم» ثم المرتجل «د . علي الراعي» ثم الاحتفالية «عبدالكريم برشيد» وعلى مستوى
الإخراج عند روجيه عساف ، الطبيب الصديق ، محمد إدريس كنماذج ، هكذا هو التجريب فتح الآفاق أمام الفنان لكي
يبدع ويعمل دون قيود ولكن أيضا دون شطط أو تزجية أو مصانعة.
أعود فأقول إن هناك خلطاً في تحليل مفهوم الجريب عن عدد من المخرجين الذين قدموا أعمالهم بأيام طرابلس
المسرحية النصوص التي جربوا عليها هي نصوص تقليدية تتناول موضوعات اجتماعية لا تحتاج لإدخالها في دائرة
التجريب باعتبار عدم قابليتهما من جهة وعدم قدرتها على الاحتفاظ بهويتها من جهة ثانية .
فليس كل نص يقبل أن يوضع على مشرحة التجريب ويشكل كاتباً يمكنه أن يكتب عملاً يحمل في داخله ما يفتح مسارب يمكن
استثمارها في مجال التجريب ، فالتجريب لغة في الكتابة ولغة في الإخراج تحتاج لمن يحذا صنعتها ويرسم أبعادها
دون الاخلال بمضمونها أو شكلها ، ومن هنا فإنه من غير المفيد في التجريب النقل من واقع إلى واقع مغاير ولا
ألباس شكل على مضمون ليس من قياسه .
أنا أدرك إن المخرجين الشباب لهم طموحاتهم ولهم رؤاهم ولهم حرصهم على الانفلات من عمليات التأطير ولهم رغبتهم
في الانطلاق في أجواء مفتوحة ولكن ليس معنى ذلك أن يحلقوا في المجهول دون إدراك لما يصنعون ودون هدف واضح
المعالم ينتهي إلى نتيجة يستفيد منها المتلقي .
نحن نخشي أن يأخذهم الحلم أن هم فعلوا ذلك فتكون قضيتهم قاسية ، صحيح أن التجريب هو إبداعات فردية تسعى كل
واحدة منها إلى خلق ذاتها لكن ذلك لابد أن يكون وفق دراسة وفهم ووعي وبصيرة ، صحيح أيضا أن العروض التجريبية
هي عروض تركيبية تبرز فيها براعات المجرب وتترجم رؤاه الفكرية والجمالية ولكن لايجب أن يكون ذلك على أساس
الاحتفاء بالشكل على حساب المضمون.
وأتصور أن هذا هو بيت القصيد في عدد من العروض التي قدمت بأيام طرابلس المسرحية والتي اختارت التجريب مجالات
لها"الاحتفاء بالشكل على حساب المضمون" للأسف هذا لا يخدم مفهوم التجريب ، فالتجريب ليس شيئاً هلامياً فضفاضاً ،
التجريب هو ابتكار واكتشاف داخل المألوف وتقديمه عبر أشكال وتكوينات ورؤى جمالية وفكرية وفلسفية غير مألوفة
، ولكنها تنطلق من طبيعة الموضوع «النص» وتترجم أبعاده وتنسجم معه .
أما أن نحشد على الركح أعداداً من البشر ممثلين أو مجاميع ونجعلها تصرخ وتموء وتقفز وتتمرغ وتتشابك وتصنع
بأجسادها وحركاتها تكوينات لاتفسير ولا تعبير ولا معنى لها بل أنها متناقضة مع مضمون النص فذلك عين التهريج
وضعف الفهم ومنتهى الاستخفاف بالمتلقى الذي جاء ليستمتع ويستفيد .
هناك فرق كبير بين الإبداع والتألق والابتكار وبين الانفلات وغياب التركيز والتهريج والتخريف.
أقول إن هذا البعض من المخرجين يتمتعون بالموهبة لكن الموهبة وحدها لاتكفي ولديهم الاستعداد لكن الاستعجال ضار
ولديهم الطموح لكن الرغبة في بلوغ الذروة في وقت أكثر من قياسي ومن اقصر الطرق ذلك معناه النهاية منذ
البداية .
لذلك نأمل أن يتفهم هذا البعض ذلك وأن يتحرك بخطى ثابتة وبوعي مسؤول ورغبة صادقة في إنجاز عمل له مقولة تحمل
معنى وله رؤية واضحة وهدف محدد لاضبابية فيه وهذا هو الطريق الصحيح لبلوغ دائرة الضوء الحقيقية دائرة الإبداع
والتألق .