ليبيا مائة عام من المسرح"1908م- 2008م"أوهكذا تكلم المسرحيون -2-43- نوري عبدالدائم
**************************************
حول موجات التجريب في مسرحنا..
قفز على المحلي.. واستنساخ للوافد
بقلم / أحمد بشير عزيز
إن دخولنا لعالم التجريب بهذا الاندفاع الذي ظهر في السنوات الأخيرة بقدر ما له من ميزات بقدر ما له من
محاذير، لأن التجريب ليس "موضة" يتقاطر عليها كل من هبّ ودبّ، وإنما هو إعمال الفكر والخيال في دنيا الإبداع
المسرحي في محاولة دائبة للتطوير والارتقاء واستكشاف منافذ جديدة للتحليل والتدليل.
ليس المقصود بالتجريب في مسرحنا العربي أن نتحول إلى أدوات امتصاص لتجارب الغرب والتأثر بما تفرزه هذه
التجارب، والعمل على نقلها بكل لوازمها وتفاصيلها إلى مجتمعنا العربي.
إن ذلك سيفقدنا خصوصية الرؤية المسرحية المستقلة وسيجعلنا نبحر في اتجاه لا يمكن أن يقبله مجرانا.
إن معرفتنا بالمسرح طيلة قرن من الزمان أو يزيد جديرة بأن تدفعنا في إطار التجريب إلى استثمار أصولنا
ومبدعاتنا التراثية واستلهام ظواهرنا المسرحية العربية. وأيضاً بلورة قضايانا المصيرية واليومية.
نحن لا نستطيع أن نكون خارج الدائرة الإنسانية أو أن ننقطع عن التجارب العالمية.
ولكنه لابد أن يكون ذلك من خلال منظورنا ورؤيتنا وتقييمنا، فنحن لا نستطيع أن نتحدث عن العصرية بمعزل عن تراثنا
التاريخي والفني والأدبي. وإلا ما استطعنا استكشاف أشكال حديثة ووسائل جمالية جديدة لإبداعاتنا.
إن عدداً من التجارب التي شاهدناها مؤخراً تجعلنا نتخوف على مستقبل التجريب في وطننا العربي لأنها تجارب في
أغلبها تتبنى- وبدون وعي- معاناة الغربة التي تعصف بالمجمع الأوروبي حالات القلق وفقدان الترابط والانهيارات
الأخلاقية التي تسود ذلك المجتمع. وإلا بماذا نفسر ذلك الصراخ والعويل وذلك النباح والمواء الذي نشاهده بصورة
مقززة على بعض خشباتنا؟
ماذا يعني أن يتبنى مسرحنا مشاهد الجنس أو التقيؤ أو التبول -عذراً- على خشباتنا؟ ما معنى هذا الهوس العجيب
الذي نراه على خشباتنا والذي ببدو في بعض الأحيان أقرب إلى (اللوغرتيمات) التي لا نعرف لها معنى والتي هي أشبه
بالزئبق الذي يفلت من كل تحديد في أحيان أخرى؟.
التجريب ليس معناه أن نتجاوز قيمنا ونتخطى هويتنا ونقفز على تاريخنا وأصولنا، والتجريب ليس نبتاً وحشياً
مجنوناً ينطلق من نزوة الإبداع الذي لا يتأسس على هوية، وليس الإبداع الذي ينأى عن الوظيفة الاجتماعية.
صحيح أنه من مهمات التجريب أن يرتاد مناطق بكرا في تراثنا وتقاليدنا وأصولنا، ولكن ليس بطريقة عشوائية
زخرفية عبثية، لأن التجريب هو فعل أساسي من أفعال الوجود والحضور والعمل الجاد الذي يحمل شحنة الوعي التي
تقاوم أشكال الغزو الثقافي.
نحن نعترف بأن هناك من التجارب ما يدفع إلى الانبهار والاندهاش لاعتمادها على عملية "قصدية" على حد تعبير (
د.هدى وصفي) يتأخر فيها الإبداع درجة لتتقدم فيها الحرفية والصنعة.
إن وطننا العربي مليء بالهموم والانهيارات السياسية والاجتماعية والاقتصادية كما هو مليء بالقيم الإنسانية
والحضارية والتاريخية، أليست هذه أفكاراً وقضايا جديرة للتمحور في دوائر التجريب؟
إن الذين يقولون بالميل إلى عالمية النظرة نقول لهم ألسنا جزء من هذا العالم؟ فلماذا ننسى أنفسنا؟
والذين يدّعون بتنقية ذوق المتلقي من رواسب وإرهاصات التخلف نقول لهم أي ذوق تنقون وأنتم تدلقون على مسارحنا
عقداً نفسية وجنسية مزرية.
تاريخنا المسرحي يشير إلى تجارب عديدة انطلقت على مساحة وطننا العربي لكنها لم تتواصل لسبب أو لآخر. أليس
الأجدى أن نعيد النظر في هذه التجارب نظرة تعمل على تطويرها وتوسيع دوائر التجريب فيها وتجاوز نقاط ضعفها؟
وتاريخنا المسرحي يشير إلى تجارب مسرح "السامر" الذي دعا إليه "يوسف إدريس" ومسرح "الحكواتي" الذي أطلقه "
توفيق الحكيم" والمسرح "المرتجل" الذي تبناه "علي الراعي" ومسرح "التأسيس" الذي أخرجه "سعد الله ونوس" والمسرح
"الاحتفالي" ومسرح "الحلقة" والمسرح "الثالث" ومسرح "البساط" وغيرها.
إن هذه التجارب استطاعت أن تلمح بشيء ولكنها في أغلبها لم تستمر أو أنها استمرت متعثرة وفي تقييمي أن هذه
التجارب لم تُصب بالبوار حتى الآن بل يمكن أن تتطور إلى أشكال واتجاهات مسرحية ذات قيمة كبيرة إن ركز مخرّبونا
عليها وسعوا إلى تطويرها.
إن هدف كل هذه التجارب كان البحث عن التمييز ضمن الألوان العالمية. فالدكتور "علي الراعي" مثلاً عندما نادى
بالمسرح المرتجل كان هدفه أن يقدم أنموذجاً يمكن من خلاله التخلص من هاجس سيطرة النظريات الغربية على مسرحنا
وكان هدفه أيضاً أن يفسح مجالاً مفيداً لاستنباط أشكال مسرحية جديدة تضمن خصوصيتنا. وعلى ذلك يقول "إن المحبطين
ومسرح الارتجال والسامر وخيال الظل والأراجوز لو استخدمت متقدمة لاكتملت جدوى التجريب على أكثر من مستوى".
الاحتفاليون أيضاً كان ذلك هدفهم فالطيب الصديقي ضمن مجمل تجاربه حاول أن يخرج بالمقامة من ستر الظاهرة
المسرحية إلى العمل المسرحي الذي يتمتع بمواصفات الدراما وأن يبلور المقامة شخوصاً ومواقف تفصح عن فحواها
بمضمون واضح في قيمته وتأثيره.
والاحتفاليون كانوا يسعون إلى التأصيل من خلال العودة إلى الذاكرة الشعبية التي تختزن الكثير من الظواهر
الشعبية، والاحتفالات التي رسمها الإنسان الشعبي بكل تلقائية وعفوية.
فكلما اقتربت تجارب المسرحيين العرب من التراث الشعبي كلما اقتربت من هوية تجريبية للمسرح العربي.
فلماذا لا يواصل مجربونا المسرحيون البحث في هذه التجارب علّهم يطورونها ويريحوننا من "بيتر بروك"
و"غروتوفسكي" اللذين أصبحا هاجساً ممضاً ومخيفاً يلجم إبداعنا المستقل بحالات من الاستلاب والانقياد الأعمى؟.
إن "بروك" نفسه لجأ إلى أفريقية والهند وإيران للبحث عن مصادر للتجريب لإحساسه بأن المسرح الغربي بشكل عام
مسرح جامد. أليس الأجدر بنا أن نستثمر ما يجود به محيطنا وبيئتنا ومعطياتنا الحضارية والتاريخية؟!!
إن مستقبل التجريب في وطننا العربي سيكون زاهراً لو عملنا على استثمار إمكانياتنا استثماراً مدروساً وشبّعنا
خيالنا بما تزخر به بيئتنا العربية وبلورنا ذلك من خلال لغة مسرحية واعية مستفيدة من التجارب الإنسانية. لكنها
في نفس الوقت متحررة من مركبات الاحتذاء والأسر.
فحين يتم نقل التجريب الغربي على سبيل التقليد مع تجاوز القدرة والخصوصية والمعطى الثقافي والتاريخي والبيئي
والاجتماعي فإن التجريب يكون عبثاً وعبئاً حقيقياً. أليس الوقت مناسباً الآن لأن نلتفت إلى موروثنا وإلى إبداعنا
التاريخي والحضاري؟ إنه الأصالة التي لا تتحقق بدونها العصرية.
ليبيا مائة عام من المسرح"1908م- 2008م"أوهكذا تكلم المسرحيون -2-43- نوري عبدالدائم
**************************************
حول موجات التجريب في مسرحنا..
قفز على المحلي.. واستنساخ للوافد
بقلم / أحمد بشير عزيز
إن دخولنا لعالم التجريب بهذا الاندفاع الذي ظهر في السنوات الأخيرة بقدر ما له من ميزات بقدر ما له من
محاذير، لأن التجريب ليس "موضة" يتقاطر عليها كل من هبّ ودبّ، وإنما هو إعمال الفكر والخيال في دنيا الإبداع
المسرحي في محاولة دائبة للتطوير والارتقاء واستكشاف منافذ جديدة للتحليل والتدليل.
ليس المقصود بالتجريب في مسرحنا العربي أن نتحول إلى أدوات امتصاص لتجارب الغرب والتأثر بما تفرزه هذه
التجارب، والعمل على نقلها بكل لوازمها وتفاصيلها إلى مجتمعنا العربي.
إن ذلك سيفقدنا خصوصية الرؤية المسرحية المستقلة وسيجعلنا نبحر في اتجاه لا يمكن أن يقبله مجرانا.
إن معرفتنا بالمسرح طيلة قرن من الزمان أو يزيد جديرة بأن تدفعنا في إطار التجريب إلى استثمار أصولنا
ومبدعاتنا التراثية واستلهام ظواهرنا المسرحية العربية. وأيضاً بلورة قضايانا المصيرية واليومية.
نحن لا نستطيع أن نكون خارج الدائرة الإنسانية أو أن ننقطع عن التجارب العالمية.
ولكنه لابد أن يكون ذلك من خلال منظورنا ورؤيتنا وتقييمنا، فنحن لا نستطيع أن نتحدث عن العصرية بمعزل عن تراثنا
التاريخي والفني والأدبي. وإلا ما استطعنا استكشاف أشكال حديثة ووسائل جمالية جديدة لإبداعاتنا.
إن عدداً من التجارب التي شاهدناها مؤخراً تجعلنا نتخوف على مستقبل التجريب في وطننا العربي لأنها تجارب في
أغلبها تتبنى- وبدون وعي- معاناة الغربة التي تعصف بالمجمع الأوروبي حالات القلق وفقدان الترابط والانهيارات
الأخلاقية التي تسود ذلك المجتمع. وإلا بماذا نفسر ذلك الصراخ والعويل وذلك النباح والمواء الذي نشاهده بصورة
مقززة على بعض خشباتنا؟
ماذا يعني أن يتبنى مسرحنا مشاهد الجنس أو التقيؤ أو التبول -عذراً- على خشباتنا؟ ما معنى هذا الهوس العجيب
الذي نراه على خشباتنا والذي ببدو في بعض الأحيان أقرب إلى (اللوغرتيمات) التي لا نعرف لها معنى والتي هي أشبه
بالزئبق الذي يفلت من كل تحديد في أحيان أخرى؟.
التجريب ليس معناه أن نتجاوز قيمنا ونتخطى هويتنا ونقفز على تاريخنا وأصولنا، والتجريب ليس نبتاً وحشياً
مجنوناً ينطلق من نزوة الإبداع الذي لا يتأسس على هوية، وليس الإبداع الذي ينأى عن الوظيفة الاجتماعية.
صحيح أنه من مهمات التجريب أن يرتاد مناطق بكرا في تراثنا وتقاليدنا وأصولنا، ولكن ليس بطريقة عشوائية
زخرفية عبثية، لأن التجريب هو فعل أساسي من أفعال الوجود والحضور والعمل الجاد الذي يحمل شحنة الوعي التي
تقاوم أشكال الغزو الثقافي.
نحن نعترف بأن هناك من التجارب ما يدفع إلى الانبهار والاندهاش لاعتمادها على عملية "قصدية" على حد تعبير (
د.هدى وصفي) يتأخر فيها الإبداع درجة لتتقدم فيها الحرفية والصنعة.
إن وطننا العربي مليء بالهموم والانهيارات السياسية والاجتماعية والاقتصادية كما هو مليء بالقيم الإنسانية
والحضارية والتاريخية، أليست هذه أفكاراً وقضايا جديرة للتمحور في دوائر التجريب؟
إن الذين يقولون بالميل إلى عالمية النظرة نقول لهم ألسنا جزء من هذا العالم؟ فلماذا ننسى أنفسنا؟
والذين يدّعون بتنقية ذوق المتلقي من رواسب وإرهاصات التخلف نقول لهم أي ذوق تنقون وأنتم تدلقون على مسارحنا
عقداً نفسية وجنسية مزرية.
تاريخنا المسرحي يشير إلى تجارب عديدة انطلقت على مساحة وطننا العربي لكنها لم تتواصل لسبب أو لآخر. أليس
الأجدى أن نعيد النظر في هذه التجارب نظرة تعمل على تطويرها وتوسيع دوائر التجريب فيها وتجاوز نقاط ضعفها؟
وتاريخنا المسرحي يشير إلى تجارب مسرح "السامر" الذي دعا إليه "يوسف إدريس" ومسرح "الحكواتي" الذي أطلقه "
توفيق الحكيم" والمسرح "المرتجل" الذي تبناه "علي الراعي" ومسرح "التأسيس" الذي أخرجه "سعد الله ونوس" والمسرح
"الاحتفالي" ومسرح "الحلقة" والمسرح "الثالث" ومسرح "البساط" وغيرها.
إن هذه التجارب استطاعت أن تلمح بشيء ولكنها في أغلبها لم تستمر أو أنها استمرت متعثرة وفي تقييمي أن هذه
التجارب لم تُصب بالبوار حتى الآن بل يمكن أن تتطور إلى أشكال واتجاهات مسرحية ذات قيمة كبيرة إن ركز مخرّبونا
عليها وسعوا إلى تطويرها.
إن هدف كل هذه التجارب كان البحث عن التمييز ضمن الألوان العالمية. فالدكتور "علي الراعي" مثلاً عندما نادى
بالمسرح المرتجل كان هدفه أن يقدم أنموذجاً يمكن من خلاله التخلص من هاجس سيطرة النظريات الغربية على مسرحنا
وكان هدفه أيضاً أن يفسح مجالاً مفيداً لاستنباط أشكال مسرحية جديدة تضمن خصوصيتنا. وعلى ذلك يقول "إن المحبطين
ومسرح الارتجال والسامر وخيال الظل والأراجوز لو استخدمت متقدمة لاكتملت جدوى التجريب على أكثر من مستوى".
الاحتفاليون أيضاً كان ذلك هدفهم فالطيب الصديقي ضمن مجمل تجاربه حاول أن يخرج بالمقامة من ستر الظاهرة
المسرحية إلى العمل المسرحي الذي يتمتع بمواصفات الدراما وأن يبلور المقامة شخوصاً ومواقف تفصح عن فحواها
بمضمون واضح في قيمته وتأثيره.
والاحتفاليون كانوا يسعون إلى التأصيل من خلال العودة إلى الذاكرة الشعبية التي تختزن الكثير من الظواهر
الشعبية، والاحتفالات التي رسمها الإنسان الشعبي بكل تلقائية وعفوية.
فكلما اقتربت تجارب المسرحيين العرب من التراث الشعبي كلما اقتربت من هوية تجريبية للمسرح العربي.
فلماذا لا يواصل مجربونا المسرحيون البحث في هذه التجارب علّهم يطورونها ويريحوننا من "بيتر بروك"
و"غروتوفسكي" اللذين أصبحا هاجساً ممضاً ومخيفاً يلجم إبداعنا المستقل بحالات من الاستلاب والانقياد الأعمى؟.
إن "بروك" نفسه لجأ إلى أفريقية والهند وإيران للبحث عن مصادر للتجريب لإحساسه بأن المسرح الغربي بشكل عام
مسرح جامد. أليس الأجدر بنا أن نستثمر ما يجود به محيطنا وبيئتنا ومعطياتنا الحضارية والتاريخية؟!!
إن مستقبل التجريب في وطننا العربي سيكون زاهراً لو عملنا على استثمار إمكانياتنا استثماراً مدروساً وشبّعنا
خيالنا بما تزخر به بيئتنا العربية وبلورنا ذلك من خلال لغة مسرحية واعية مستفيدة من التجارب الإنسانية. لكنها
في نفس الوقت متحررة من مركبات الاحتذاء والأسر.
فحين يتم نقل التجريب الغربي على سبيل التقليد مع تجاوز القدرة والخصوصية والمعطى الثقافي والتاريخي والبيئي
والاجتماعي فإن التجريب يكون عبثاً وعبئاً حقيقياً. أليس الوقت مناسباً الآن لأن نلتفت إلى موروثنا وإلى إبداعنا
التاريخي والحضاري؟ إنه الأصالة التي لا تتحقق بدونها العصرية.