تشارلي تشابلن
عين الطفل ونباهة الفيلسوف
مرت السينما في العالم، وهوليود منها على وجه التحديد بعصور ذهبية، وأنجبت نجوماً عشقتهم الجماهير، ولكنها وإلى يومنا لم تستطع أن تنجب نجماً بلغ الشأو الذي بلغه تشارلي تشابلن، ذلك أن فتنة هذه الكوميديان العظيم قذ احتفظت وعلى مدى نصف قرن بقدرتها على إعادة صنع ذاتها، وعلى الانتساب إلى أزمنة تجازوت زمنها بكثير.
ظهر تشارلي كمعترض على مسار ثقافة وقيم مرحلة تمضي حثيثاً نحو فكرة التقدم المنتصر للرأسمالية وأخلاقها وقيمها، فشكّل هذا الرجل الضئيل، بثيابه المهلهلة، هجوماً عقائدياً بمعناه الجمالي، لاختراق تلك المتاريس التي أطبقت على أحلام فقراء الناس وصغارهم حتى كادت أن تخنقها.
هل أراد تشابلن من بطله الصغير هذا الدور، أو هو جاء عفو خاطر فني، أو فيض نفس مبدعة؟ كل تلك الأمور مجتمعة خلقت أسطورة تشابلن وغذتها بالأحلام الأكثر نبلاً وإنسانية.
دخل تشابلن الحلبة بثياب صعلوك وقلب طفل ورهافة فراشة، فصنع من الكوميديا، التي كانت محض فرجة وتسلية، فناً للضحك من الحياة عبر معرفتها والاستهانة بالجانب الدعيّ والمؤذي منها . هو يقول في مذكراته:
«إنني أؤمن بالقدرة على الإضحاك واستنزال الدموع، فهي تعالج سِمّ الضغينة والرعب. فالأفلام الجيدة لها لغة عالمية، لأنها تلبي حاجة الناس إلى الضحك والفهم والإشفاق، أنها وسيلة للقضاء على الخوف الذي يسود العالم الآن».
هكذا لخص تشابلن، عندما شارف على الستين، ما يريده من السينما.
بين الكوميديا والواقع المأساوي لأميركا وأوروبا العشرينيات من القرن المنصرم، ثمة وشيجة أراد خلقها تشابلن، إن لم تكن هي موجودة أصلاً في صلب موضوعها. ففي الوقت الذي كان يجابه الغرب جيوش العاطلين عن العمل بغير اكتراث، وتستعد ألمانيا وإيطاليا كي تنقل النظريات الأكثر غروراً وتطرفاً وفاشية إلى حيز التطبيق، في هذا الوقت بالذات، بدأت شهرة تشابلن تكتسح العالم، فكان الناس يخرجون من أفلامه بحصيلة من الضحك والفرح، وبمفارقة ما، هي في وجه من أوجهها دعوة لمعرفة الجمال والبراءة في النفس الإنسانية، ولكن ليس بمعزل عن حقائق الحياة البسيطة، والتحديق في الهوة المتزايدة الاتساع بينهم وبين أصحاب الامتيازات.
نحن هنا أمام أكثر أهمية من مجرد توافق في التوقيت بين نهج إبداعي يستخدم كل ما يملكه الفقير المستلب من عدة بسيطة للتعبير: سينما الصمت، وبهلوانيات رجل السيرك، واستعراضات مسرح الفودفيل الرخيص، ومخيلة الأطفال الكاريكاتيرية، مقابل ثقافة تتكلم وفق منظورات عالمية للبورجوازية الصاعدة.
لعل تلك الأسلحة "لخائبة" التي نظر إليها أصحاب النفوذ، باستهانة أول الأمر، دعتهم إلى إعلان الحرب على تشابلن، وإلى إسقاط القناع عن "ديمقراطيتهم" بإقامة الحد عليه، وطلبه المثول أمام محاكمهم المكارثية بتهمة الشيوعية.
قال تشابلن مرة:
«أتعلمون لماذا يضحك الناس إذا ما رأوا شرطياً يسير على الرصيف ثم يتزحلق ويقع.. أنهم يضحكون لأن هذا الشرطي يمثل السلطة.
تصوروا رأسمالياً يتفجر ادعاء، وله ذقن محترم، وسراويل مخططة، وسترة ريدنجوت، وكل خصائص ملابس المليونير وصفاته، أنه ولا شك بمنظره هذا يكاد يدفع أي واحد منا مهما كان عاقلاً ورزيناً إلى التفكير بشد ذقنه. فكيف إذا كان رجلاً صغيراً طيباً مثلي؟
نعم توجد فئة من الناس ترى أن شد ذقن هذا الرأسمالي عمل مخزٍ وفاضح، ولكن تسعين في المائة من الناس سيسرون لتحقيق هذا الفعل».
وهكذا يمضي تشابلن بخطى البطة المتعثرة، ومقالب البهاليل والمغفلين وخراقتهم، ليسحب ذقن ذلك الرجل مراراً وعلى مرأى منه، ليكشف لنا عن هذا الفن العسير في معرفة النفس الإنسانية بالتوقيع على أوتار طفولتها. لعل الكوميديان هنا يتمسك بقوة التسويغ التي توفرها له مزحته، ومقدار الفكاهة السوداء التي يحويها عالمه لكي يهجو ببداهة واسترخاء كل من لا تحبهم طفولته.
بيد أن تلك المقدمات لا تدفعنا إلى تأكيد المنحى الأيديولوجي لفن تشابلن، ذاك أن شخصية تشارلي الطليقة والعفوية لا تحتمل ثقل الحمولة الأيديولوجية بأبعادها الفكرية والسياسية، مع أن تشابلن لا بد أن يكون من بين حاملي الأفكار الطليعية لعصره، ومن الطبيعي أن يكن له هوى ما أو ميل أو حتى ارتباط بالفكر الماركسي، وإعجاب لا ينكره، بشخص لينين وبلد الاشتراكية الأول.
فن تشابلن في أوله مزيج من البانتوميم والكروباتيك، والأحداث التي تجمع بين الواقع والفانتازيا، فمخيلة تشابلن في امتيازها مخيلة طفل يرى الأشياء غير ما يراها الكبير، فله عينان ذهنيتان كما يقول سيرغي ايزنشتاين هما اللتان تستطيعان رؤية جحيم دانتي أو نزوة جويا في العصور الحديثة وراء أشكال المرح الطليق، فالهروب من الواقع يتبع روح الطفولة دائماً.
«إن نزعة الهرب الجغرافية ـ كما يستطرد ايزنشتاين في مذكراته ـ أصبحت عديمة الجدوى، فأصبح الباقي هو الهرب "النشوئي" أي العودة إلى الوراء في طريق تطور المرء، عودة إلى أفكار وعواطف "الطفولة الذهبية" وهو ما يمكن تعريفه بأنه تراجع نحو روح الطفولة، أو الهرب إلى عالم شخصي من أفكار الطفولة».
عندما يرى تشارلي قدم الشرطي يعمد إلى إخفائها بالرمال، كي ينفيها عن عالمه المرئي، وهو عندما يحلم بعالم آخر جميل يضع أجنحة لكل الأشياء، وللناس، للكلاب والأطفال، ولرجال الشرطة أيضاً، كلهم قادرون على التحليق في حلم تشارلي الجميل.
فن البانتوميم بأشكاله البسيطة هو لغة تشابلن لتوصيل فكرته، وهو في الوقت ذاته وسيلة من وسائل استثاره خياله، وتركيز انتباهه، إنه صلاة سريعة تختصر في ثوان موقفاً كوميدياً مشحوناً بالدلالات، فالتنقّل بمصاحبة الحركة الرشيقة البارعة للإنسان يعني تكثيفاً للحركة المتباطئة للحياة، والأصل في هذا الاستخدام هو فطري وبدائي وطفولي، لذا يبرع الطفل في التقليد قبل أن يكبر وينتبه لأفعاله.
وكانت أمام تشابلن وسائل مختلفة للتواصل مع المشاهد: العينان ورشاقة الأصابع واليدان والأقدام المتباعدة، ومرونة الجسد وقابليته على التحول في ثوان إلى ما يريده: إلى مصباح أو شجرة أو زهرة تتفتح. ولكن تلك السرعة في المحاكاة تخفي بين طياتها ليس ممثلاً بارعاً وحسب، بل متأملاً في أوجه الجمال والعوق في هذا العالم. ويتوضح هذا المنحى لدى تشابلن في أفلامه الناطقة بشكل آخر. أن كاليفرو، المهرج العجوز، في فيلم «أضواء المسرح» يستطيع أن يصنع بيديه لراقصة البالية حركة تحاكي الزهرة أو الحجر وتبوح بجمال ومقدرة الحب والتسامح في التغلب على عالم القسوة. يتداخل بالطبع هنا أداء تشابلن الناطق في صنع ممثل من نمط خاص يحقق قدرة التواصل الوجداني، تواصل الأفكار والمشاعر بينه وبين زميلته، بينه وبين المتفرج، لعل قواه الباطنية المتحركة تشع في تلك اللحظة لتحقيق ذلك الاتصال الذهني السريع والخاطف والمليء بالعمق وجمرة الحدس المتقدة.
«إنني أرى كل شيء في عشر ثوان أو لا أرى أي شيء على الإطلاق». وقول تشابلن هذا قدر ما ينطبق على سيرته السينمائية الأولى التي تستدعي تلك البداهة والذكاء والحساسية المفرطة في الاستعراضات السريعة لأفلامه الصامتة، فهي تظهر بصيغة أخرى في أفلامه الناطقة على مستوى الحوار والأداء الذي يتوخى الضربات الخاطفة في التأثير.
شخصية الرجل الصغير أقرب إلى الآلة القابلة للتفكيك، ولكنها في الوقت ذاته تملك تناسقاً هرمونياً مع حركتها ومحيطها، قدر ما تنبو عنه، عن الأشياء والناس. لعل هذه الشخصية تتآلف مع محيطها أو تطفو عليه كما ينساب الزورق على المياه، وعندما يصطخب هذا المحيط تبقى باستمرار تحتفظ بتلك البراءة وذلك التوازن الداخلي الذي يسيّرها، يسير حركاتها الجسدية ويسير روحها الشفاف.
إنها تحمل في وجه من أوجهها، مواصفات الشخصية التي قال عنها برغسون في كتابه «الضحك» أننا «نرى فيها بما يشبه الاستشفاف آلة قابلة للتفكيك، ولكن يجب إلى جانب ذلك أن يكون الإيحاء خفياً، وأن يكون الشخص الذي تجمد كل عضو منه في قطعة آلية، لا يزال في نظرنا كائناً يحيا».
ومن بين مواصفات شخصية تشابلن البرغسونية، أيضاً، سمة اللامبالاة أو عدم التأثر الذي يصاحب الضحك عادة، فلا يمكن للضحك أن يحدث هزته إلا إذا سقط على صفحة نفس هادئة تمام الهدوء، فالذي يحتاجه الضحك حسب برغسون هو نظرة المتفرج اللامبالي إلى الحياة، لهذا فإن المضحك يخاطب العقل المحض، هذا العقل الذي ينبغي أن يكون على صلة بعقول الآخرين لأننا لأ نتدوق المضحك في حالة شعورنا بالعزلة، فضحكنا هو أبداً ضحك جماعة. ومن هنا كانت نقلة تشابلن في الكوميديا من فرجة اللهو السهلة التي تقرب إلى السذاجة وتسطيح الحياة إلى فرجة أخرى تحوّل القضايا الكبرى إلى فرجة كاريكاتيرية، وقدر ما تستهين بها، وتضعها تحت مجهر لا يرحم، لتترك عند المتفرج ما يشبه الانطباع عن مرحلة ما، شهادة على عصر وعلى أفكار ومفاهيم. عُد ّ فيلم «الأزمنة الحديثة» (1936) بمثابة صرخة إنسانية بوجه تروستات المال التي حولت الإنسان إلى آلة يُعتصر جهدها الإنساني بفظاظة. نحن لا نستطيع أن نمنع أنفسنا من الشعور بالضيق في مشهد آلة الإطعام التي أُرغم تشارلي على الرضوح لاختبارها رغم أن الموقف يحوي درجة عالية من الكوميديا، لعل هذا الفيلم بكل مشاهده يريد أن يقول أن بوابات العالم الرأسمالي ستبقى مغلقة بوجه الإنسان الصغير لو لم يلملم روحه، ويثأر لكرامته وكرامة الجماعة، لذا يتقدم تشارلي التظاهرة بعد أن يلتقط بالصدفة، والصدفة هنا ذات دلالة أيضاً، علماً أحمر يحمله ويتقدم الجموع. تلك الأفعال الخطيرة التي تحمل من التراجيديا أكثر ما تحمل من الكوميديا، يؤديها تشارلي كما لو أنها لا تعنيه، أو كما لو أن الصدفة فقط ، أو سوء الحظ، هما اللذان دفعاه إليها. لذا فهو يبقى على انفعاله عند درجة الصفر، وينزلق من المواقف المأساوية إلى موقف السخرية منها ومن الأشياء ومن الصعاب كلها.
وفي أول أفلامه الناطقة (1940) تعرّض تشابلن لأشهر ظاهرة سياسية، ألا وهي الفاشية أو الديكتاتورية، فالدكتاتورية قدر ما تحمل من العذاب والآلام لشعوبها، تمتلك في تركيبتها اللاعقلانية قدرأ كبيراً من الكوميديا والجنون، حيث انتبه إليهما تشابلن منذ البداية. فقد قال أكثر من مرة للصحافيين: «ولدت قبل أربعة أيام من ميلاد هتلر». ولا يعرف تشابلن هل أن هذا الأخير قد سرق منه شاربه أم أنه أراد أن يسخر منه بذلك الشارب. المهم أنه استطاع أن يحقق فيلم «الديكتاتور الكبير» عشية الحرب العالمية الثانية، ولم تكن أميركا قد دخلت الحرب مع ألمانيا، وهو هنا يتقدم للنيل من أكبر طغاة عصره، وهو في ذروة انتصاراته من دون أن يلتجئ إلى الترميز أو التورية. فالديكتاتورية هينكل في الفيلم يتشابه بالشكل مع حلّاق يهودي يسوقه سوء حظه إلى الهرب من المعتقل، وارتداء ثياب ضابط فاشي لكي يلقي خطبة اضطراراً، وهنا تبرز موهبة تشابلن في أن يجعل للتعارض بين الخطاب "اللغة" التي يبربر بها الديكتاتور وبين إشاراته مادة للضحك. قيل أنه استخدام لغة الييدش في ذلك الخطاب، وهو أمر غير مؤكد وربما اختلقه اليهود أو اللوبي الصهيوني، فالمهم ماذا أراد تشابلن من هذا التماثل في الشكل بين الحلاق اليهودي والدكتاتور؟ ربما هي مجرد مفارقة فنية لا نرغب نحن العرب للمضي في البحث عن دلالاتها الأبعد، وبالأخص في تلك الفترة التي كان اليهود فيها أكثر الناس إثارة للشفقة، ولكن الأكثر أهمية أن تشابلن، كان دون أدنى ريب، قد وصل الذورة في فن الهجاء السياسي. فكان الضحك، بالنسبة إليه، وسيلة تصحيح الخطأ، حين يستطيع المجتمع أن يرد الشر بالشر، لعل تلك الظاهرات ـ حسب برغسون ـ هي أنماط من الوقاحة تجاه المجتمع، يرد عليها المجتمع بوقاحة أشد منها هي الضحك.
خلق تشابلن شخصية الصعلوك المتشرد التي كانت تتويجاً للمرحلة الذهبية في حياة السينما الصامتة، وتلك الشخصية "النمط" كانت موضع جدل عند النقّاد رغم اتفاقهم على أهميتها. فمنهم من قال أنها مستمدة من شخصية الكوميدي ماكس لندر كما يؤكد جورج سادول، فيما يرى نقاد آخرون أنها من وحي إحدى شخصيات فرقة كارنو المسرحية التي كان تشابلن أحد منتسبيها قبل اشتغاله في السينما، مع أن تشابلن يؤكد في مذكراته على أن تلك الشخصية قد تلّبسته في لحظات خاطفة لا يعرف تفسيرها. فقد وجد نفسه بعد أن ارتدى ملابس المتشرد: «القبعة السوداء العالية والبنطال العريض المرّقع، والسترة الضيقة القصيرة الباهتة، والحذاء الكبير المتلوي، والعصا التي ترمز إلى كبرياء المرحلة التي ضحك منها تشابلن، لقد وجد نفسه في حالة من التماهي معها ومع الدور الذي أراده لهذا المتشرد. فحدد عند خروجه من غرفة الملابس لمخرج أفلامه حينذاك، ماك سينيت، معالم تلك الشخصية قائلاً: «إنه رجل ذو جوانب متعددة، فهو أفّاق ومهذب، وشاعر وحالم، وهو وحيد في الحياة، ولكنه يأمل في أن يحب ويغامر، وهو يستطيع أن يوهمك بأنه عالم موسيقي أو دوق أو لاعب بولو، ومع ذلك فهو لا يتعفف عن التقاط أعقاب السجائر أو خطف الحلوى من الأطفال، ومن الممكن بالطبع إذا اقتضت الظروف أن يضرب امراة على قفاها، ولكنه لا يفعل هذا إلا في أقصى حالات غضبه».
تلك الشخصية التي خلقها تشابلن غاب عنها بعض نمطيتها في فترة من الفترات، ولعل العودة إلى آراء علم النفس تساعد في تبرير هذا النقد الموجه ضد تشابلن: فالنمط في الكوميديا، حسب برغسون غير قادر على أن يكون فناً، بل هو وسيط بين الفن والحياة. والكوميديا تقدم الأنماط لأنها ضحلة، أنها تستقر على السطح فلا تكتسب أي عمق، إذ تعالج الأشخاص عند نقاط تماسهم حيث يصبح ممكناً للواحد أن يشبه الآخر. وفي رد أريك بنتلي في «الحياة في الدراما» الذي يورد آراء برغسون يؤكد أن الاستخفاف بنقاط تماس الأشخاص، استخفاف بالعلاقات البشرية كلها، وأن من الخطأ أن لا يرى برغسون الصراع العميق إلا في المأساة وحدها، ولا سيما أن سيد الكوميديا الفرنسية الأول موليير عبّر عن صراعه الداخلي في الكوميديا بقدر ما عبّر رأسين عن صراعه في المأساة.
والحال أن شخصية تشارلي قد تضمنت حشداً من الأوجه المركّبة التي تحوي في تناظراتها مجموعة من العناصر المتناقضة يبرز على السطح منها بعداها الأوضح: الكوميدي والمأساوي، ولكنها تعالج في سياق هذين الخطين مواضيع تتضمن الاغتراب الإنساني والقسوة والعنف في الشخصية إضافة إلى الحنان والشفقة، والعلاقة الجمالية وغيرها من الإشكالات الحياتية والفكرية والوجدانية. فموضوعة تشابلن غالباً ما تبدأ بخطأ ما في العالم الذي يبدو فيه الصعلوك مغترباً عنه وعن سعادته، وهو إذ بدأ في أهاجيه الاجتماعية بمواضيع مثل البطالة والادعاء والزيف، يمضي في أفلامه اللاحقة، حتى في زمن السينما الناطقة، إلى موضوعة الحب المستحيل الذي يملأ قلب المتشرد بالضياء والحنان والشفقة، فيعمل كل ما بمقدوره لتقديم المعونة لحبيبته، ولكي يحظى بقلوب النساء اللواتي يحبهن، إلى الزعم بأنه دوق أو ثري، ثم لكي يتحمل عالم القسوة، يتلّبس هذه الحالة إلى الحد الذي يتحول فيه إلى مسيو فردو قاتل النساء. كان خيال تشابلن قد صاغ لهذه الشخصية بُعد شاعري يتكفّل بخلق مستويات متعددة تمضي بها إلى أبعد مما تمضي بها الملهاة السلهة التي تطفو على سطح الحياة. فالرجل الساذج الغرّ الذي يعاني من السهو والذهول، يملك حساسية غائمة في تلك النشوة الشاعرية. حساسية إزاء التفصيلات الخفية للمشاعر والمواقف التي تشكّل الجوهر الأخلاقي للشخصية الإنسانية. في فيلم «حمى الذهب» على سبيل المثال، يضع تشابلن تصورات أو مقولات مختلفة ويعمل عليها بأوجهها المتعددة، لعله في هذا الفيلم، نموذج للرجل الأميركي الذي تبدأ مغامرة حياته في البحث عن الثورة بعيداً عن كل الاعتبارات الأخرى. ولكن شخصيته تنشطر إلى شخصيات أخرى تختلف كل منها عن الأخرى حسب موقعها. فمغامرته في البحث عن الذهب تؤدي به إلى تلّبس حالة الجائع بتفصيلاتها الأشد سخرية: من تخيل زميله على هيئة دجاجة أو طير، إلى اضطراره طبخ حذائه وأكله. هذه الحالة تفضي به إلى مدخل لشخصية أخرى هي شخصية المحبّ الذي يعاني العزلة والحرج المستمر، والشعور بالمهانة لا من وضع داخلي يحكمه، فهو محصن إزاء الخارج بتماسك داخلي لا يدلل عليه منظره البراني، ولكن محصلة أفعاله كلها، بما فيها موقفه من الثورة التي يبحث عنها بهوس، تدلل على هذا. كان تشابلن متنبه إلى حقيقة يعتبرها على درجة من الأهمية في أفلامه، وهي أن يدع للمتفرج فرصة كي يفكر حتى وهو منقلب على قفاه من الضحك. جاهزية الشخصية لدى تشابلن لا تدعنا نقول عنه كم هو طيب وساذج هذا الشخص، بل تطلب منا أن نقول، أيضاً، كم هو لعين وذو بصيرة ثاقبة.
ثنائية العلاقة بين الوهم والحقيقة
أسس تشابلن، عبر بطله النموذجي، علاقة جدلية بينه كمخرج ومؤلف، وبين تلك الشخصية التي خلقها. فقد توارت شخصية تشابلن الأصلية خلف شخصية الصعلوك تشارلي التي عشقها الملايين، وكان على الناس أن ينتزعوا من تشابلن كل مواصفات تلك الشخصية مهملين ما يتعلق بجوانبها الأخرى. وقد عمد تشابلن في البداية إلى خلق تلك الهيمنة لشخصية الرجل الصغير، وعندما أصبح عند مفترق الطرق في اختبار قدراته المنوعة في الإخراج والتأليف اتجه إلى كسر هذا الخط الوهمي، وبالاخص في أفلامه الناطقة، وحتى قبلها في فيلم «امرأة من باريس» (1923) الذي لم يظهر فيه سوى بدور صغير. هذا الفيلم الذي قال عنه سادول بأنه قد أدخل علم النفس إلى الدراما السينمائية، واعتبره النقاد، رغم فشله الجماهيري، أول الأفلام في تاريخ السينما التي تتحدث عن لا إمكانية التواصل بين البشر، وثاني أفلامه في هذا المسعى «السيد فردو» (1947)) الناطق الذي يحكى قصة رجل يقتل 12 امراة، وهو في الوقت عينه أب وزوج اعتيادي. وقد قال عنه تشابلن، بأن هذا الرجل نتاج هذا الزمن المليء بالكوارث الكبرى. أما «ملك في نيويورك» (1957) فهو أقرب إلى السيرة الذاتية التي يتعرض فيها للمكارثية في أميركا، والكيفية التي يجري فيها الوصول إلى المناصب العليا وهستيريا معاداة الشيوعية. ولم يمثل تشابلن في «كونتيسة من هونع كونغ» (1966) بل اختار للفيلم مارلون براندو وصوفيا لورين.
لكن محاولات تشابلن، للخروج عن شخصيته التي عرفتها واحبتها الجماهير، كانت محكومة بالفشل أو النجاح النسبي والمحدود، لأن مجده الحقيقي اعتمد على تلك الشخصية التي تمايزت بفرادتها وبقوة تأثيرها. وبصدد تلك العلاقة الجدلية بينه وبينها كتب عدد من النقاد محاولين تلمس هذه الثنائية والبحث عن مغزاها. وقد ورد في كتاب «تشارلي تشابلن، في حياته وأعماله» لمارسال مارتين وآخرين (ترجمة: وإعداد إبراهيم العريس) موضوعة متكاملة عن تلك العلاقة نورد فقرات منها لا تدلنا الترجمة على اسم كاتبها. إنه يقول: «خلال تسع سنوات ظل تشابلن أسيراً لتشارلو في وجهات النظر كافة: سيكولوجياً وتجارياً. كان ينبغي عليه أن يحقق أفلاماً عديدة تعتمد على شخصية تشارلو، لأن الجمهور لم يسأم ابداً من الرجل الصغير، ولأن النقاد والمعلقين لم يخفوا إعجابهم أمام تلك الظاهرة الجديدة من نوعها التي كشفت كل الممثلين الهزليين الآخرين». إزاء هذا يخامر المرء انطباع مفاده أن تشابلن قد ساهم في تلك الهيمنة التي مارستها شخصيته، مكتفياً باثرائها وتعميقها، وعن هذا يكتب جان دوفينيو: «ان إدراك تشابلن لأهمية الشريد، تبدو لاحقة لابتكاره للشخصية، ونحن نشعر بأن الفنان، وفقط بعد أن خلق في أفلامه الأولى صورة الشخص الفقير، عاد ليبتكر ذلك الطابع الدرامي الذي هدف منه إلى التخلص من اغترابه، عبر تقديمه».
ونحن بوسعنا أن نورد تحليلاً طويلاً لمراحل التحول التدريجي لشخصية تشارلو: «انئدْ ستكون مجبرين على ملاحظة أن تشابلن يطور شخصيته، لكن الشخصية لا تتطور إلا تبعاً لحاجتها الخاصة في عبورها من الطفولة إلى الصبا، ويمكننا أن نقول إن تشابلن يسبه تشارلو وليس العكس: أن تشابلن سينتهي به الأمر إلى وهم اغترابه فقط عبر تمثيله لهذا الاغتراب، إذ يتحول شيئاً فشيئاً إلى ذلك الفوضوي الاجتماعي الذي كانه تشارلو منذ الفيلم الأول» ـ ص120 ـ.
لم تُخلق شخصية تشارلي بمعزل عن حياة حافلة وغنية عاشها تشابلن، فأضحت مادة وموضوعاً لأفلامه. وفي الخمسينيات كتب تشابلن مذكراته فكانت من أدب السير النادر الذي لا يكشف عن ماهية الكاتب فقط، بل عن أصول اللعبة التي دخلها تشابلن مع الحياة. فخط موهبته ـ كما يتوضح من خلال مذكراته ـ كان يمضي به نحو رغبة محمومة للتماثل الأخلاقي بين التواضع والسخرية، والتواضع بمدلوله التشابلني احترام للنفس والذات الفقيرة، والسخرية دائماً هي القادرة على دحر الطغيان والفظاظة والادعاء.
يقول تشابلن في مذكراته: «لقد أضاءت لي أمي في تلك الحجرة المظلمة من البدروم في شارع أوكلي بلندن.. ذلك النور الذي لم يعرف عالمنا ابداً ما هو أرق منه. والذي غذى الأدب والمسرح بأعظم وأخصب مواضيعهما: الحب والعطف والإنسانية».
وإذا استطاع تشابلن أن ينقل مواضيع الحب والحنان والتعاطف الإنساني إلى أفلامه، فقد كانت مذكراته نفسها حافلة بتلك الروحية التي نظر فيها إلى ماضيه وحاضره. لعلها لم تكن تعني، فقط، سيرة فنان أو نجم من النجوم الذين خلقتهم الشاشة والمخرجون والقصص الخيالية؛ بل هي تؤرشف لفن من السيّر العظيمة لرجالات مروراً خفاقاً على هذه الدنيا، ولكنهم استطاعوا أن يمسكوا بالجوهر المضيء للروح الإنسانية، ويحولوا الفن إلى أداة جمالية ترقى بالحس الجماهيري إلى فعل التحريض دون أن تتقص منه بالهتاف أو التسطيح أو الشعارات.
ولد تشابلن حسب مذكراته في 16 نيسان 1889 في لندن. بحي كنتجنون الفقير. من أب وأم كانا يعملان كممثلين متجولين مع فرق الكوميديا، وواجه الفاقة مند سنوات حياته الأولى، فصعد على المسرح وهو في الخامسة من عمره. كانت تلك محض صدفة وقتت يوم مغادرة أمه الراقصة والمغنية خشبة المسرح لآخر مرة.
يكتب في مذكراته:
«أذكر أنني كنت واقفاً في الكواليس في تلك الليلة عندما خان أمي صوتها وتحول إلى همس خافت. فبدأ الجمهور يضحك ويمأميء كالماعز، ويموء كالقطط، وكان الأمر يبدو غامضاً بالنسبة لي. أنا لا أفهم بالضبط ما الذي يحدث ولكن الضجة ظلت تتزايد حتى أُرغمت أمي على مغادرة المسرح. وعندما وصلت إلى الكواليس نشب جدل بينها وبين مدير المسرح الذي قال شيئاً عن إدخالي إلى المسرح لأحل محلها، وكان قد رأني أمثّل وأقلد الأصدقاء. قادني من يدي إلى الداخل وتركت وحدي على المسرح. وأمام أضواء المنصة التي تخطف البصر، والوجوه التي تسبح في الدخان، بدأت أغني بمصاحبة الفرقة الموسيقية، وبينما أنا في منتصف الأغنية تدفق على المسرح سيل من قطع النقود، فتوقفت على الفور وأعلنت أنني سأجمع النقود أولاً ثم أغني بعد ذلك. فآثار هذا ضحكات صاخبة. كنت اتصرف كما لو أنني في البيت، وتحدثت إلى الجمهور ورقصت وقلدت كثيرين بمن في ذلك أمي في نشيدها الإيرلندي وفي براءة تامة قلدت صوتها وهو يشرخ. اذهلني الأثر الذي أحدثه ذلك في الجمهور. كانت هناك ضحكات وهتافات، ثم أتت أمي إلى المسرح لتأخذني، آثار ظهورها عاصفة هائلة من التصفيق، وكانت هذه الليلة أول مرة أظهر فيها على المسرح وآخر مرة تظهر فيها أمي».
واجه تشابلن قسوة الشارع والتشرد بعد أن جُنّت أمه من الجوع والهموم، ولم يستطع أبوه السكير المتزوج من امراة أخرى اعالته مع أخيه سدني، فدخل الملجأ وتنقل بين الأعمال المذلة، ولكنه استطاع تعلم الرقص والتمثيل والاشتغال في السيرك، وفي الرابعة عشرة استطاع العمل في ميوزك هول فكانت مدرسة تشابلن الأول في تعلم فنه. فجمهورها ناقد لا يغفر للفنان أي خطأ يرتكبه، إلى أن حانت فرصته للذهاب مع فرقة كارنو إلى أميركا، ونجاحه الكبير الذي حوله إلى أسطورة عالمية.
لعل تلك الحياة القاسية الشحيحة لم تستطع أن تكسر اشعاع نفسه الإنسانية الكبيرة، بل خلقت منه معانداً شجاعاً من أجل الحياة والدفاع عن الجمال.
لقد أضاعت منه تلك الحياة الصعبة فرصة التعليم المنتظم والاستزادة من المعرفة، ولكنه استطاع أن يلحق بركبها بعد فترة دون أن يفوته شيء.
إنه يقول في مذكراته:
«في العالم رابطة عشاق المعرفة، وقد كنت أنا واحداً من أعضائها. ولكن دوافعي لم تكن نقية تماماً: فأنا أريد أن أعرف، لا حبأً بالمعرفة، ولكن دفاعاً عن نفسي ضد احتقار العالم للجاهلين. وهكذا اعتدت كلما وجدت وقتاً أن اتسكع ما بين متاجر الكتب القديمة.. وعثرت بالصدفة ـ في فيلادلفيا ـ على نسخة من كتاب روبرت انجرسون «مقالات ومحاضرات» فكان ذلك اكتشافاً مثيراً، إذ كان إلحاده يؤكد عقيدتي بأن ما في «العهد القديم» من قسوة مفزعة إنما يذل روح الإنسان ويهبط بها. ثم اكتشف أمرسون، وشعرت بعد قراءة بحثه عن «الاعتماد على النفس» بأنني منحت حقاً ذهبياً من حقوق الميلاد. ثم جاء بعد ذلك شوبنهاور، الذي اشتريت له ثلاثة أجزاء من «العالم إرادة وفكر» وظللت اقرأ فيها من حين إلى آخر ـ دون أن اقرأها ابداً قراءة شاملة ـ طوال أربعين عاماً. أما «أوراق العشب» لوالت ويتمان، فإنني ضقت بها، وما أزال حتى يومنا هذا. فهو قلب عاشق متفجر أكثر مما يجب، ومتصوف وطني أكثر ما ينبغي. كذلك تمتعت ـ في فترات الراحة وفي غرفة الملابس ـ بمعرفة مارك توين، وبو، وهاوثورن، وايرفنج، وهازليت».
والمفارقة حسب المذكرات قراءته برغسون، وبالأخص مفاهيمه عن الكوميديا، كما قرأ لنيتشه وشكسبير وديكنز، وحشد منوع من الكتاب والأدباء، مكرراً وبتواضع أنه رجل غير مثقف، وأن حدوسه الفنية وموهبته هي التي خلقت منه فناناً. ولكن سادول يؤكد في أكثر من موقع اهتمام شابلن بالثقافة منذ الرابعة عشرة من عمره حيث بدأ بقراءة الكتب بنهم الأمر الذي جعل أهل الحي يلقبونه بالمجنون ويسخرون منه. وفي كل الأحوال، سواء كانت ثقافة تشابلن أو موهبته وحدوسه الفنية هي التي خلقت شخصية هذا الكوميديان العظيم، فقد كان مدرسة معرفية توقف عندها العالم بتمعن، كتاباً ونقاداً ومشاهدين بسطاء.
الحرية 30/4/1989
عين الطفل ونباهة الفيلسوف
مرت السينما في العالم، وهوليود منها على وجه التحديد بعصور ذهبية، وأنجبت نجوماً عشقتهم الجماهير، ولكنها وإلى يومنا لم تستطع أن تنجب نجماً بلغ الشأو الذي بلغه تشارلي تشابلن، ذلك أن فتنة هذه الكوميديان العظيم قذ احتفظت وعلى مدى نصف قرن بقدرتها على إعادة صنع ذاتها، وعلى الانتساب إلى أزمنة تجازوت زمنها بكثير.
ظهر تشارلي كمعترض على مسار ثقافة وقيم مرحلة تمضي حثيثاً نحو فكرة التقدم المنتصر للرأسمالية وأخلاقها وقيمها، فشكّل هذا الرجل الضئيل، بثيابه المهلهلة، هجوماً عقائدياً بمعناه الجمالي، لاختراق تلك المتاريس التي أطبقت على أحلام فقراء الناس وصغارهم حتى كادت أن تخنقها.
هل أراد تشابلن من بطله الصغير هذا الدور، أو هو جاء عفو خاطر فني، أو فيض نفس مبدعة؟ كل تلك الأمور مجتمعة خلقت أسطورة تشابلن وغذتها بالأحلام الأكثر نبلاً وإنسانية.
دخل تشابلن الحلبة بثياب صعلوك وقلب طفل ورهافة فراشة، فصنع من الكوميديا، التي كانت محض فرجة وتسلية، فناً للضحك من الحياة عبر معرفتها والاستهانة بالجانب الدعيّ والمؤذي منها . هو يقول في مذكراته:
«إنني أؤمن بالقدرة على الإضحاك واستنزال الدموع، فهي تعالج سِمّ الضغينة والرعب. فالأفلام الجيدة لها لغة عالمية، لأنها تلبي حاجة الناس إلى الضحك والفهم والإشفاق، أنها وسيلة للقضاء على الخوف الذي يسود العالم الآن».
هكذا لخص تشابلن، عندما شارف على الستين، ما يريده من السينما.
بين الكوميديا والواقع المأساوي لأميركا وأوروبا العشرينيات من القرن المنصرم، ثمة وشيجة أراد خلقها تشابلن، إن لم تكن هي موجودة أصلاً في صلب موضوعها. ففي الوقت الذي كان يجابه الغرب جيوش العاطلين عن العمل بغير اكتراث، وتستعد ألمانيا وإيطاليا كي تنقل النظريات الأكثر غروراً وتطرفاً وفاشية إلى حيز التطبيق، في هذا الوقت بالذات، بدأت شهرة تشابلن تكتسح العالم، فكان الناس يخرجون من أفلامه بحصيلة من الضحك والفرح، وبمفارقة ما، هي في وجه من أوجهها دعوة لمعرفة الجمال والبراءة في النفس الإنسانية، ولكن ليس بمعزل عن حقائق الحياة البسيطة، والتحديق في الهوة المتزايدة الاتساع بينهم وبين أصحاب الامتيازات.
نحن هنا أمام أكثر أهمية من مجرد توافق في التوقيت بين نهج إبداعي يستخدم كل ما يملكه الفقير المستلب من عدة بسيطة للتعبير: سينما الصمت، وبهلوانيات رجل السيرك، واستعراضات مسرح الفودفيل الرخيص، ومخيلة الأطفال الكاريكاتيرية، مقابل ثقافة تتكلم وفق منظورات عالمية للبورجوازية الصاعدة.
لعل تلك الأسلحة "لخائبة" التي نظر إليها أصحاب النفوذ، باستهانة أول الأمر، دعتهم إلى إعلان الحرب على تشابلن، وإلى إسقاط القناع عن "ديمقراطيتهم" بإقامة الحد عليه، وطلبه المثول أمام محاكمهم المكارثية بتهمة الشيوعية.
قال تشابلن مرة:
«أتعلمون لماذا يضحك الناس إذا ما رأوا شرطياً يسير على الرصيف ثم يتزحلق ويقع.. أنهم يضحكون لأن هذا الشرطي يمثل السلطة.
تصوروا رأسمالياً يتفجر ادعاء، وله ذقن محترم، وسراويل مخططة، وسترة ريدنجوت، وكل خصائص ملابس المليونير وصفاته، أنه ولا شك بمنظره هذا يكاد يدفع أي واحد منا مهما كان عاقلاً ورزيناً إلى التفكير بشد ذقنه. فكيف إذا كان رجلاً صغيراً طيباً مثلي؟
نعم توجد فئة من الناس ترى أن شد ذقن هذا الرأسمالي عمل مخزٍ وفاضح، ولكن تسعين في المائة من الناس سيسرون لتحقيق هذا الفعل».
وهكذا يمضي تشابلن بخطى البطة المتعثرة، ومقالب البهاليل والمغفلين وخراقتهم، ليسحب ذقن ذلك الرجل مراراً وعلى مرأى منه، ليكشف لنا عن هذا الفن العسير في معرفة النفس الإنسانية بالتوقيع على أوتار طفولتها. لعل الكوميديان هنا يتمسك بقوة التسويغ التي توفرها له مزحته، ومقدار الفكاهة السوداء التي يحويها عالمه لكي يهجو ببداهة واسترخاء كل من لا تحبهم طفولته.
بيد أن تلك المقدمات لا تدفعنا إلى تأكيد المنحى الأيديولوجي لفن تشابلن، ذاك أن شخصية تشارلي الطليقة والعفوية لا تحتمل ثقل الحمولة الأيديولوجية بأبعادها الفكرية والسياسية، مع أن تشابلن لا بد أن يكون من بين حاملي الأفكار الطليعية لعصره، ومن الطبيعي أن يكن له هوى ما أو ميل أو حتى ارتباط بالفكر الماركسي، وإعجاب لا ينكره، بشخص لينين وبلد الاشتراكية الأول.
فن تشابلن في أوله مزيج من البانتوميم والكروباتيك، والأحداث التي تجمع بين الواقع والفانتازيا، فمخيلة تشابلن في امتيازها مخيلة طفل يرى الأشياء غير ما يراها الكبير، فله عينان ذهنيتان كما يقول سيرغي ايزنشتاين هما اللتان تستطيعان رؤية جحيم دانتي أو نزوة جويا في العصور الحديثة وراء أشكال المرح الطليق، فالهروب من الواقع يتبع روح الطفولة دائماً.
«إن نزعة الهرب الجغرافية ـ كما يستطرد ايزنشتاين في مذكراته ـ أصبحت عديمة الجدوى، فأصبح الباقي هو الهرب "النشوئي" أي العودة إلى الوراء في طريق تطور المرء، عودة إلى أفكار وعواطف "الطفولة الذهبية" وهو ما يمكن تعريفه بأنه تراجع نحو روح الطفولة، أو الهرب إلى عالم شخصي من أفكار الطفولة».
عندما يرى تشارلي قدم الشرطي يعمد إلى إخفائها بالرمال، كي ينفيها عن عالمه المرئي، وهو عندما يحلم بعالم آخر جميل يضع أجنحة لكل الأشياء، وللناس، للكلاب والأطفال، ولرجال الشرطة أيضاً، كلهم قادرون على التحليق في حلم تشارلي الجميل.
فن البانتوميم بأشكاله البسيطة هو لغة تشابلن لتوصيل فكرته، وهو في الوقت ذاته وسيلة من وسائل استثاره خياله، وتركيز انتباهه، إنه صلاة سريعة تختصر في ثوان موقفاً كوميدياً مشحوناً بالدلالات، فالتنقّل بمصاحبة الحركة الرشيقة البارعة للإنسان يعني تكثيفاً للحركة المتباطئة للحياة، والأصل في هذا الاستخدام هو فطري وبدائي وطفولي، لذا يبرع الطفل في التقليد قبل أن يكبر وينتبه لأفعاله.
وكانت أمام تشابلن وسائل مختلفة للتواصل مع المشاهد: العينان ورشاقة الأصابع واليدان والأقدام المتباعدة، ومرونة الجسد وقابليته على التحول في ثوان إلى ما يريده: إلى مصباح أو شجرة أو زهرة تتفتح. ولكن تلك السرعة في المحاكاة تخفي بين طياتها ليس ممثلاً بارعاً وحسب، بل متأملاً في أوجه الجمال والعوق في هذا العالم. ويتوضح هذا المنحى لدى تشابلن في أفلامه الناطقة بشكل آخر. أن كاليفرو، المهرج العجوز، في فيلم «أضواء المسرح» يستطيع أن يصنع بيديه لراقصة البالية حركة تحاكي الزهرة أو الحجر وتبوح بجمال ومقدرة الحب والتسامح في التغلب على عالم القسوة. يتداخل بالطبع هنا أداء تشابلن الناطق في صنع ممثل من نمط خاص يحقق قدرة التواصل الوجداني، تواصل الأفكار والمشاعر بينه وبين زميلته، بينه وبين المتفرج، لعل قواه الباطنية المتحركة تشع في تلك اللحظة لتحقيق ذلك الاتصال الذهني السريع والخاطف والمليء بالعمق وجمرة الحدس المتقدة.
«إنني أرى كل شيء في عشر ثوان أو لا أرى أي شيء على الإطلاق». وقول تشابلن هذا قدر ما ينطبق على سيرته السينمائية الأولى التي تستدعي تلك البداهة والذكاء والحساسية المفرطة في الاستعراضات السريعة لأفلامه الصامتة، فهي تظهر بصيغة أخرى في أفلامه الناطقة على مستوى الحوار والأداء الذي يتوخى الضربات الخاطفة في التأثير.
شخصية الرجل الصغير أقرب إلى الآلة القابلة للتفكيك، ولكنها في الوقت ذاته تملك تناسقاً هرمونياً مع حركتها ومحيطها، قدر ما تنبو عنه، عن الأشياء والناس. لعل هذه الشخصية تتآلف مع محيطها أو تطفو عليه كما ينساب الزورق على المياه، وعندما يصطخب هذا المحيط تبقى باستمرار تحتفظ بتلك البراءة وذلك التوازن الداخلي الذي يسيّرها، يسير حركاتها الجسدية ويسير روحها الشفاف.
إنها تحمل في وجه من أوجهها، مواصفات الشخصية التي قال عنها برغسون في كتابه «الضحك» أننا «نرى فيها بما يشبه الاستشفاف آلة قابلة للتفكيك، ولكن يجب إلى جانب ذلك أن يكون الإيحاء خفياً، وأن يكون الشخص الذي تجمد كل عضو منه في قطعة آلية، لا يزال في نظرنا كائناً يحيا».
ومن بين مواصفات شخصية تشابلن البرغسونية، أيضاً، سمة اللامبالاة أو عدم التأثر الذي يصاحب الضحك عادة، فلا يمكن للضحك أن يحدث هزته إلا إذا سقط على صفحة نفس هادئة تمام الهدوء، فالذي يحتاجه الضحك حسب برغسون هو نظرة المتفرج اللامبالي إلى الحياة، لهذا فإن المضحك يخاطب العقل المحض، هذا العقل الذي ينبغي أن يكون على صلة بعقول الآخرين لأننا لأ نتدوق المضحك في حالة شعورنا بالعزلة، فضحكنا هو أبداً ضحك جماعة. ومن هنا كانت نقلة تشابلن في الكوميديا من فرجة اللهو السهلة التي تقرب إلى السذاجة وتسطيح الحياة إلى فرجة أخرى تحوّل القضايا الكبرى إلى فرجة كاريكاتيرية، وقدر ما تستهين بها، وتضعها تحت مجهر لا يرحم، لتترك عند المتفرج ما يشبه الانطباع عن مرحلة ما، شهادة على عصر وعلى أفكار ومفاهيم. عُد ّ فيلم «الأزمنة الحديثة» (1936) بمثابة صرخة إنسانية بوجه تروستات المال التي حولت الإنسان إلى آلة يُعتصر جهدها الإنساني بفظاظة. نحن لا نستطيع أن نمنع أنفسنا من الشعور بالضيق في مشهد آلة الإطعام التي أُرغم تشارلي على الرضوح لاختبارها رغم أن الموقف يحوي درجة عالية من الكوميديا، لعل هذا الفيلم بكل مشاهده يريد أن يقول أن بوابات العالم الرأسمالي ستبقى مغلقة بوجه الإنسان الصغير لو لم يلملم روحه، ويثأر لكرامته وكرامة الجماعة، لذا يتقدم تشارلي التظاهرة بعد أن يلتقط بالصدفة، والصدفة هنا ذات دلالة أيضاً، علماً أحمر يحمله ويتقدم الجموع. تلك الأفعال الخطيرة التي تحمل من التراجيديا أكثر ما تحمل من الكوميديا، يؤديها تشارلي كما لو أنها لا تعنيه، أو كما لو أن الصدفة فقط ، أو سوء الحظ، هما اللذان دفعاه إليها. لذا فهو يبقى على انفعاله عند درجة الصفر، وينزلق من المواقف المأساوية إلى موقف السخرية منها ومن الأشياء ومن الصعاب كلها.
وفي أول أفلامه الناطقة (1940) تعرّض تشابلن لأشهر ظاهرة سياسية، ألا وهي الفاشية أو الديكتاتورية، فالدكتاتورية قدر ما تحمل من العذاب والآلام لشعوبها، تمتلك في تركيبتها اللاعقلانية قدرأ كبيراً من الكوميديا والجنون، حيث انتبه إليهما تشابلن منذ البداية. فقد قال أكثر من مرة للصحافيين: «ولدت قبل أربعة أيام من ميلاد هتلر». ولا يعرف تشابلن هل أن هذا الأخير قد سرق منه شاربه أم أنه أراد أن يسخر منه بذلك الشارب. المهم أنه استطاع أن يحقق فيلم «الديكتاتور الكبير» عشية الحرب العالمية الثانية، ولم تكن أميركا قد دخلت الحرب مع ألمانيا، وهو هنا يتقدم للنيل من أكبر طغاة عصره، وهو في ذروة انتصاراته من دون أن يلتجئ إلى الترميز أو التورية. فالديكتاتورية هينكل في الفيلم يتشابه بالشكل مع حلّاق يهودي يسوقه سوء حظه إلى الهرب من المعتقل، وارتداء ثياب ضابط فاشي لكي يلقي خطبة اضطراراً، وهنا تبرز موهبة تشابلن في أن يجعل للتعارض بين الخطاب "اللغة" التي يبربر بها الديكتاتور وبين إشاراته مادة للضحك. قيل أنه استخدام لغة الييدش في ذلك الخطاب، وهو أمر غير مؤكد وربما اختلقه اليهود أو اللوبي الصهيوني، فالمهم ماذا أراد تشابلن من هذا التماثل في الشكل بين الحلاق اليهودي والدكتاتور؟ ربما هي مجرد مفارقة فنية لا نرغب نحن العرب للمضي في البحث عن دلالاتها الأبعد، وبالأخص في تلك الفترة التي كان اليهود فيها أكثر الناس إثارة للشفقة، ولكن الأكثر أهمية أن تشابلن، كان دون أدنى ريب، قد وصل الذورة في فن الهجاء السياسي. فكان الضحك، بالنسبة إليه، وسيلة تصحيح الخطأ، حين يستطيع المجتمع أن يرد الشر بالشر، لعل تلك الظاهرات ـ حسب برغسون ـ هي أنماط من الوقاحة تجاه المجتمع، يرد عليها المجتمع بوقاحة أشد منها هي الضحك.
خلق تشابلن شخصية الصعلوك المتشرد التي كانت تتويجاً للمرحلة الذهبية في حياة السينما الصامتة، وتلك الشخصية "النمط" كانت موضع جدل عند النقّاد رغم اتفاقهم على أهميتها. فمنهم من قال أنها مستمدة من شخصية الكوميدي ماكس لندر كما يؤكد جورج سادول، فيما يرى نقاد آخرون أنها من وحي إحدى شخصيات فرقة كارنو المسرحية التي كان تشابلن أحد منتسبيها قبل اشتغاله في السينما، مع أن تشابلن يؤكد في مذكراته على أن تلك الشخصية قد تلّبسته في لحظات خاطفة لا يعرف تفسيرها. فقد وجد نفسه بعد أن ارتدى ملابس المتشرد: «القبعة السوداء العالية والبنطال العريض المرّقع، والسترة الضيقة القصيرة الباهتة، والحذاء الكبير المتلوي، والعصا التي ترمز إلى كبرياء المرحلة التي ضحك منها تشابلن، لقد وجد نفسه في حالة من التماهي معها ومع الدور الذي أراده لهذا المتشرد. فحدد عند خروجه من غرفة الملابس لمخرج أفلامه حينذاك، ماك سينيت، معالم تلك الشخصية قائلاً: «إنه رجل ذو جوانب متعددة، فهو أفّاق ومهذب، وشاعر وحالم، وهو وحيد في الحياة، ولكنه يأمل في أن يحب ويغامر، وهو يستطيع أن يوهمك بأنه عالم موسيقي أو دوق أو لاعب بولو، ومع ذلك فهو لا يتعفف عن التقاط أعقاب السجائر أو خطف الحلوى من الأطفال، ومن الممكن بالطبع إذا اقتضت الظروف أن يضرب امراة على قفاها، ولكنه لا يفعل هذا إلا في أقصى حالات غضبه».
تلك الشخصية التي خلقها تشابلن غاب عنها بعض نمطيتها في فترة من الفترات، ولعل العودة إلى آراء علم النفس تساعد في تبرير هذا النقد الموجه ضد تشابلن: فالنمط في الكوميديا، حسب برغسون غير قادر على أن يكون فناً، بل هو وسيط بين الفن والحياة. والكوميديا تقدم الأنماط لأنها ضحلة، أنها تستقر على السطح فلا تكتسب أي عمق، إذ تعالج الأشخاص عند نقاط تماسهم حيث يصبح ممكناً للواحد أن يشبه الآخر. وفي رد أريك بنتلي في «الحياة في الدراما» الذي يورد آراء برغسون يؤكد أن الاستخفاف بنقاط تماس الأشخاص، استخفاف بالعلاقات البشرية كلها، وأن من الخطأ أن لا يرى برغسون الصراع العميق إلا في المأساة وحدها، ولا سيما أن سيد الكوميديا الفرنسية الأول موليير عبّر عن صراعه الداخلي في الكوميديا بقدر ما عبّر رأسين عن صراعه في المأساة.
والحال أن شخصية تشارلي قد تضمنت حشداً من الأوجه المركّبة التي تحوي في تناظراتها مجموعة من العناصر المتناقضة يبرز على السطح منها بعداها الأوضح: الكوميدي والمأساوي، ولكنها تعالج في سياق هذين الخطين مواضيع تتضمن الاغتراب الإنساني والقسوة والعنف في الشخصية إضافة إلى الحنان والشفقة، والعلاقة الجمالية وغيرها من الإشكالات الحياتية والفكرية والوجدانية. فموضوعة تشابلن غالباً ما تبدأ بخطأ ما في العالم الذي يبدو فيه الصعلوك مغترباً عنه وعن سعادته، وهو إذ بدأ في أهاجيه الاجتماعية بمواضيع مثل البطالة والادعاء والزيف، يمضي في أفلامه اللاحقة، حتى في زمن السينما الناطقة، إلى موضوعة الحب المستحيل الذي يملأ قلب المتشرد بالضياء والحنان والشفقة، فيعمل كل ما بمقدوره لتقديم المعونة لحبيبته، ولكي يحظى بقلوب النساء اللواتي يحبهن، إلى الزعم بأنه دوق أو ثري، ثم لكي يتحمل عالم القسوة، يتلّبس هذه الحالة إلى الحد الذي يتحول فيه إلى مسيو فردو قاتل النساء. كان خيال تشابلن قد صاغ لهذه الشخصية بُعد شاعري يتكفّل بخلق مستويات متعددة تمضي بها إلى أبعد مما تمضي بها الملهاة السلهة التي تطفو على سطح الحياة. فالرجل الساذج الغرّ الذي يعاني من السهو والذهول، يملك حساسية غائمة في تلك النشوة الشاعرية. حساسية إزاء التفصيلات الخفية للمشاعر والمواقف التي تشكّل الجوهر الأخلاقي للشخصية الإنسانية. في فيلم «حمى الذهب» على سبيل المثال، يضع تشابلن تصورات أو مقولات مختلفة ويعمل عليها بأوجهها المتعددة، لعله في هذا الفيلم، نموذج للرجل الأميركي الذي تبدأ مغامرة حياته في البحث عن الثورة بعيداً عن كل الاعتبارات الأخرى. ولكن شخصيته تنشطر إلى شخصيات أخرى تختلف كل منها عن الأخرى حسب موقعها. فمغامرته في البحث عن الذهب تؤدي به إلى تلّبس حالة الجائع بتفصيلاتها الأشد سخرية: من تخيل زميله على هيئة دجاجة أو طير، إلى اضطراره طبخ حذائه وأكله. هذه الحالة تفضي به إلى مدخل لشخصية أخرى هي شخصية المحبّ الذي يعاني العزلة والحرج المستمر، والشعور بالمهانة لا من وضع داخلي يحكمه، فهو محصن إزاء الخارج بتماسك داخلي لا يدلل عليه منظره البراني، ولكن محصلة أفعاله كلها، بما فيها موقفه من الثورة التي يبحث عنها بهوس، تدلل على هذا. كان تشابلن متنبه إلى حقيقة يعتبرها على درجة من الأهمية في أفلامه، وهي أن يدع للمتفرج فرصة كي يفكر حتى وهو منقلب على قفاه من الضحك. جاهزية الشخصية لدى تشابلن لا تدعنا نقول عنه كم هو طيب وساذج هذا الشخص، بل تطلب منا أن نقول، أيضاً، كم هو لعين وذو بصيرة ثاقبة.
ثنائية العلاقة بين الوهم والحقيقة
أسس تشابلن، عبر بطله النموذجي، علاقة جدلية بينه كمخرج ومؤلف، وبين تلك الشخصية التي خلقها. فقد توارت شخصية تشابلن الأصلية خلف شخصية الصعلوك تشارلي التي عشقها الملايين، وكان على الناس أن ينتزعوا من تشابلن كل مواصفات تلك الشخصية مهملين ما يتعلق بجوانبها الأخرى. وقد عمد تشابلن في البداية إلى خلق تلك الهيمنة لشخصية الرجل الصغير، وعندما أصبح عند مفترق الطرق في اختبار قدراته المنوعة في الإخراج والتأليف اتجه إلى كسر هذا الخط الوهمي، وبالاخص في أفلامه الناطقة، وحتى قبلها في فيلم «امرأة من باريس» (1923) الذي لم يظهر فيه سوى بدور صغير. هذا الفيلم الذي قال عنه سادول بأنه قد أدخل علم النفس إلى الدراما السينمائية، واعتبره النقاد، رغم فشله الجماهيري، أول الأفلام في تاريخ السينما التي تتحدث عن لا إمكانية التواصل بين البشر، وثاني أفلامه في هذا المسعى «السيد فردو» (1947)) الناطق الذي يحكى قصة رجل يقتل 12 امراة، وهو في الوقت عينه أب وزوج اعتيادي. وقد قال عنه تشابلن، بأن هذا الرجل نتاج هذا الزمن المليء بالكوارث الكبرى. أما «ملك في نيويورك» (1957) فهو أقرب إلى السيرة الذاتية التي يتعرض فيها للمكارثية في أميركا، والكيفية التي يجري فيها الوصول إلى المناصب العليا وهستيريا معاداة الشيوعية. ولم يمثل تشابلن في «كونتيسة من هونع كونغ» (1966) بل اختار للفيلم مارلون براندو وصوفيا لورين.
لكن محاولات تشابلن، للخروج عن شخصيته التي عرفتها واحبتها الجماهير، كانت محكومة بالفشل أو النجاح النسبي والمحدود، لأن مجده الحقيقي اعتمد على تلك الشخصية التي تمايزت بفرادتها وبقوة تأثيرها. وبصدد تلك العلاقة الجدلية بينه وبينها كتب عدد من النقاد محاولين تلمس هذه الثنائية والبحث عن مغزاها. وقد ورد في كتاب «تشارلي تشابلن، في حياته وأعماله» لمارسال مارتين وآخرين (ترجمة: وإعداد إبراهيم العريس) موضوعة متكاملة عن تلك العلاقة نورد فقرات منها لا تدلنا الترجمة على اسم كاتبها. إنه يقول: «خلال تسع سنوات ظل تشابلن أسيراً لتشارلو في وجهات النظر كافة: سيكولوجياً وتجارياً. كان ينبغي عليه أن يحقق أفلاماً عديدة تعتمد على شخصية تشارلو، لأن الجمهور لم يسأم ابداً من الرجل الصغير، ولأن النقاد والمعلقين لم يخفوا إعجابهم أمام تلك الظاهرة الجديدة من نوعها التي كشفت كل الممثلين الهزليين الآخرين». إزاء هذا يخامر المرء انطباع مفاده أن تشابلن قد ساهم في تلك الهيمنة التي مارستها شخصيته، مكتفياً باثرائها وتعميقها، وعن هذا يكتب جان دوفينيو: «ان إدراك تشابلن لأهمية الشريد، تبدو لاحقة لابتكاره للشخصية، ونحن نشعر بأن الفنان، وفقط بعد أن خلق في أفلامه الأولى صورة الشخص الفقير، عاد ليبتكر ذلك الطابع الدرامي الذي هدف منه إلى التخلص من اغترابه، عبر تقديمه».
ونحن بوسعنا أن نورد تحليلاً طويلاً لمراحل التحول التدريجي لشخصية تشارلو: «انئدْ ستكون مجبرين على ملاحظة أن تشابلن يطور شخصيته، لكن الشخصية لا تتطور إلا تبعاً لحاجتها الخاصة في عبورها من الطفولة إلى الصبا، ويمكننا أن نقول إن تشابلن يسبه تشارلو وليس العكس: أن تشابلن سينتهي به الأمر إلى وهم اغترابه فقط عبر تمثيله لهذا الاغتراب، إذ يتحول شيئاً فشيئاً إلى ذلك الفوضوي الاجتماعي الذي كانه تشارلو منذ الفيلم الأول» ـ ص120 ـ.
لم تُخلق شخصية تشارلي بمعزل عن حياة حافلة وغنية عاشها تشابلن، فأضحت مادة وموضوعاً لأفلامه. وفي الخمسينيات كتب تشابلن مذكراته فكانت من أدب السير النادر الذي لا يكشف عن ماهية الكاتب فقط، بل عن أصول اللعبة التي دخلها تشابلن مع الحياة. فخط موهبته ـ كما يتوضح من خلال مذكراته ـ كان يمضي به نحو رغبة محمومة للتماثل الأخلاقي بين التواضع والسخرية، والتواضع بمدلوله التشابلني احترام للنفس والذات الفقيرة، والسخرية دائماً هي القادرة على دحر الطغيان والفظاظة والادعاء.
يقول تشابلن في مذكراته: «لقد أضاءت لي أمي في تلك الحجرة المظلمة من البدروم في شارع أوكلي بلندن.. ذلك النور الذي لم يعرف عالمنا ابداً ما هو أرق منه. والذي غذى الأدب والمسرح بأعظم وأخصب مواضيعهما: الحب والعطف والإنسانية».
وإذا استطاع تشابلن أن ينقل مواضيع الحب والحنان والتعاطف الإنساني إلى أفلامه، فقد كانت مذكراته نفسها حافلة بتلك الروحية التي نظر فيها إلى ماضيه وحاضره. لعلها لم تكن تعني، فقط، سيرة فنان أو نجم من النجوم الذين خلقتهم الشاشة والمخرجون والقصص الخيالية؛ بل هي تؤرشف لفن من السيّر العظيمة لرجالات مروراً خفاقاً على هذه الدنيا، ولكنهم استطاعوا أن يمسكوا بالجوهر المضيء للروح الإنسانية، ويحولوا الفن إلى أداة جمالية ترقى بالحس الجماهيري إلى فعل التحريض دون أن تتقص منه بالهتاف أو التسطيح أو الشعارات.
ولد تشابلن حسب مذكراته في 16 نيسان 1889 في لندن. بحي كنتجنون الفقير. من أب وأم كانا يعملان كممثلين متجولين مع فرق الكوميديا، وواجه الفاقة مند سنوات حياته الأولى، فصعد على المسرح وهو في الخامسة من عمره. كانت تلك محض صدفة وقتت يوم مغادرة أمه الراقصة والمغنية خشبة المسرح لآخر مرة.
يكتب في مذكراته:
«أذكر أنني كنت واقفاً في الكواليس في تلك الليلة عندما خان أمي صوتها وتحول إلى همس خافت. فبدأ الجمهور يضحك ويمأميء كالماعز، ويموء كالقطط، وكان الأمر يبدو غامضاً بالنسبة لي. أنا لا أفهم بالضبط ما الذي يحدث ولكن الضجة ظلت تتزايد حتى أُرغمت أمي على مغادرة المسرح. وعندما وصلت إلى الكواليس نشب جدل بينها وبين مدير المسرح الذي قال شيئاً عن إدخالي إلى المسرح لأحل محلها، وكان قد رأني أمثّل وأقلد الأصدقاء. قادني من يدي إلى الداخل وتركت وحدي على المسرح. وأمام أضواء المنصة التي تخطف البصر، والوجوه التي تسبح في الدخان، بدأت أغني بمصاحبة الفرقة الموسيقية، وبينما أنا في منتصف الأغنية تدفق على المسرح سيل من قطع النقود، فتوقفت على الفور وأعلنت أنني سأجمع النقود أولاً ثم أغني بعد ذلك. فآثار هذا ضحكات صاخبة. كنت اتصرف كما لو أنني في البيت، وتحدثت إلى الجمهور ورقصت وقلدت كثيرين بمن في ذلك أمي في نشيدها الإيرلندي وفي براءة تامة قلدت صوتها وهو يشرخ. اذهلني الأثر الذي أحدثه ذلك في الجمهور. كانت هناك ضحكات وهتافات، ثم أتت أمي إلى المسرح لتأخذني، آثار ظهورها عاصفة هائلة من التصفيق، وكانت هذه الليلة أول مرة أظهر فيها على المسرح وآخر مرة تظهر فيها أمي».
واجه تشابلن قسوة الشارع والتشرد بعد أن جُنّت أمه من الجوع والهموم، ولم يستطع أبوه السكير المتزوج من امراة أخرى اعالته مع أخيه سدني، فدخل الملجأ وتنقل بين الأعمال المذلة، ولكنه استطاع تعلم الرقص والتمثيل والاشتغال في السيرك، وفي الرابعة عشرة استطاع العمل في ميوزك هول فكانت مدرسة تشابلن الأول في تعلم فنه. فجمهورها ناقد لا يغفر للفنان أي خطأ يرتكبه، إلى أن حانت فرصته للذهاب مع فرقة كارنو إلى أميركا، ونجاحه الكبير الذي حوله إلى أسطورة عالمية.
لعل تلك الحياة القاسية الشحيحة لم تستطع أن تكسر اشعاع نفسه الإنسانية الكبيرة، بل خلقت منه معانداً شجاعاً من أجل الحياة والدفاع عن الجمال.
لقد أضاعت منه تلك الحياة الصعبة فرصة التعليم المنتظم والاستزادة من المعرفة، ولكنه استطاع أن يلحق بركبها بعد فترة دون أن يفوته شيء.
إنه يقول في مذكراته:
«في العالم رابطة عشاق المعرفة، وقد كنت أنا واحداً من أعضائها. ولكن دوافعي لم تكن نقية تماماً: فأنا أريد أن أعرف، لا حبأً بالمعرفة، ولكن دفاعاً عن نفسي ضد احتقار العالم للجاهلين. وهكذا اعتدت كلما وجدت وقتاً أن اتسكع ما بين متاجر الكتب القديمة.. وعثرت بالصدفة ـ في فيلادلفيا ـ على نسخة من كتاب روبرت انجرسون «مقالات ومحاضرات» فكان ذلك اكتشافاً مثيراً، إذ كان إلحاده يؤكد عقيدتي بأن ما في «العهد القديم» من قسوة مفزعة إنما يذل روح الإنسان ويهبط بها. ثم اكتشف أمرسون، وشعرت بعد قراءة بحثه عن «الاعتماد على النفس» بأنني منحت حقاً ذهبياً من حقوق الميلاد. ثم جاء بعد ذلك شوبنهاور، الذي اشتريت له ثلاثة أجزاء من «العالم إرادة وفكر» وظللت اقرأ فيها من حين إلى آخر ـ دون أن اقرأها ابداً قراءة شاملة ـ طوال أربعين عاماً. أما «أوراق العشب» لوالت ويتمان، فإنني ضقت بها، وما أزال حتى يومنا هذا. فهو قلب عاشق متفجر أكثر مما يجب، ومتصوف وطني أكثر ما ينبغي. كذلك تمتعت ـ في فترات الراحة وفي غرفة الملابس ـ بمعرفة مارك توين، وبو، وهاوثورن، وايرفنج، وهازليت».
والمفارقة حسب المذكرات قراءته برغسون، وبالأخص مفاهيمه عن الكوميديا، كما قرأ لنيتشه وشكسبير وديكنز، وحشد منوع من الكتاب والأدباء، مكرراً وبتواضع أنه رجل غير مثقف، وأن حدوسه الفنية وموهبته هي التي خلقت منه فناناً. ولكن سادول يؤكد في أكثر من موقع اهتمام شابلن بالثقافة منذ الرابعة عشرة من عمره حيث بدأ بقراءة الكتب بنهم الأمر الذي جعل أهل الحي يلقبونه بالمجنون ويسخرون منه. وفي كل الأحوال، سواء كانت ثقافة تشابلن أو موهبته وحدوسه الفنية هي التي خلقت شخصية هذا الكوميديان العظيم، فقد كان مدرسة معرفية توقف عندها العالم بتمعن، كتاباً ونقاداً ومشاهدين بسطاء.
الحرية 30/4/1989